سعر البتكوين اليوم السبت.. هل يعود الارتفاع بعد موجة الانخفاض؟    الضرائب: تحميل الفواتير الإلكترونية من بوابة المصلحة مجاني تماما    العدالة فى مرمى السياسة.. معادلة ترامب لحماية إسرائيل على حساب حقوق الإنسان    من جهادى فى الخلافة الإسلامية إلى شريك ممكن.. تحوُّلات فى السياسة الإسرائيلية تجاه الشرع    الخارجية الأمريكية تسرح أكثر من 1300 من موظفيها (تفاصيل)    الليلة فى ميتلايف.. هل تتكرر «قصة قيس وليلى»؟!    محمد شريف يعود للأهلي ويبدأ التحضيرات مع الفريق الاثنين المقبل استعدادًا للموسم الجديد    «ضمن القائمة».. تفاصيل جديدة بشأن اهتمام النصر السعودي بضم وسام أبوعلي    الاتصالات .. نحتاج إلى اجتماع عاجل لهذا الموضوع    انطلاق «الفن يلتقي بالتاريخ» بالمتحف اليوناني الروماني في الإسكندرية (صور)    «الشقاوة».. سعد لمجرد وبوسي في الأغنية الدعائية ل «الشاطر» أمير كرارة (فيديو)    اتفاقية بين أكت وكاشير لتحويل تجربة الدفع الإلكتروني في قطاع الضيافة بمصر    واشنطن تؤكد دعمها للعلاقات بين سوريا ولبنان كدولتين جارتين    مانشستر يونايتد يحدد لبرشلونة سعر راشفورد    للسائقين احذروا.. عقوبة السير عكس الاتجاه الحبس والغرامة    هبوط أرضي أسفل كوبرى التجنيد ونائب محافظ القاهرة تتفقد أعمال إصلاح.. صور    أحزاب النظام تدخل انتخابات محسومة لصالحها..!!    غدًا.. أحزاب القائمة الوطنية تجتمع بمقر حزب الجبهة بالتجمع الخامس    انطلاق مؤتمر أدب الخيال العلمي للأطفال بالمجلس الأعلى للثقافة.. الأربعاء    استغرق عاما ونصف.. لطيفة تحتفل بإطلاق أول دفعة من ألبومها «قلبي ارتاح»    أحمد التايب لبرنامج المشهد: يجب الانتباه إلى أن الضفة أهم لإسرائيل من غزة    خيار مثالي.. سر فستان مي عمر "الأخضر" في أحدث ظهور لها    هل الوضوء داخل الحمام صحيح؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    توجيه وزاري بتيسير مشاركة صاحبات الحرف اليدوية في المعارض الدائمة بالمحافظات    وزير الصناعة يفتتح مصنع جديد للثلاجات بمجموعة العربي باستثمارات 108ملايين دولار    تقارير: لاعب برشلونة على رادار مانشستر يونايتد    "ذكريات ستبقى في قلبي إلى الأبد".. بيولي يودع النصر    مها الصغير مُهددة بالحبس 3 سنوات| عضو ب المحامين العرب يعلن مفاجأة    منتخب المواي تاي يبدأ الاستعداد للمشاركة في بطولة العالم للشباب ب أبوظبي    الصحة: توفير فحص ال"كوانتيفيرون" ب7 مستشفيات للكشف المبكر عن الدرن الكامن    محافظ أسيوط يتفقد وحدة طب الأسرة بكودية الإسلام    جامعة المنيا تبدأ استقبال أوراق مرشحي عمادة 7 كليات    صدمة| 3 سنين حبش لسارقي التيار الكهربائي فى هذه الحالات    بث تجريبي.. إطلاق الموقع الإلكتروني لوزارة الثقافة المصرية    7 شهداء على الأقل ونحو 40 مصابا فى غارتين إسرائيليتين على مخيم الشاطئ    رئيس جامعة الأزهر: آية الدعاء في عرفة تقسم الناس إلى فريقين.. وأقوال المفسرين تكشف دقة التوجيه القرآني    الأرصاد: غدًا طقس شديد الحرارة رطب.. والقاهرة تسجل 35 درجة    رائحة الجثة فضحته.. خفير خصوصي يقتل زوجته ويدفنها في مزرعة بالشرقية    حالة الطقس غدا الأحد 13-7-2025 في محافظة الفيوم    الصحة: إجراء اختبارات الكشف المبكر عن الدرن الكامن    5 طرق بسيطة لترطيب الجسم في الصيف    شيخ الأزهر ينعى الدكتور رفعت العوضي عضو مجمع البحوث الإسلامية أبرز علماء الاقتصاد الإسلامي    البابا تواضروس الثاني يصلي قداس عيد الرسل مع شباب أسبوع الخدمة العالمي    تأييد حكم المؤبد ل«ميكانيكي» بتهمة قتل والدته في الشرقية    موعد مباراة ليفربول ضد بريستون والقنوات الناقلة.. ليلة تكريم جوتا بتواجد محمد صلاح    استراتيجية عربية مشتركة للتعاون الجمركي والإداري    سحب على 10 تذاكر.. تامر عبدالمنعم يفاجيء جمهور الإسكندرية    وزير الإسكان يتفقد محاور الطرق ومحطة تنقية مياه الشرب الجديدة بمدينة السادات    "لن يخسروا بسبب يوم واحد".. تيباس يرد على مطالب ريال مدريد بتأجيل مباراة أوساسونا    وزيرة البيئة تبحث مع سفيرة المكسيك بمصر سبل التعاون    نتيجة الثانوية العامة 2025.. جار تصحيح المواد لتجهيز النتيجة    وزير الري يشارك فى الاحتفال بالذكرى الحادية والثلاثين لعيد التحرير الوطني لدولة رواندا    القبض على تشكيلات عصابية تخصصت في السرقة بالقاهرة    تنسيق الدبلومات الفنية 2025 التجارة والزراعة والتمريض والصنايع والسياحة فور ظهوره (رابط)    ما هو أقل ما تدرك به المرأة الصلاة حال انقطاع الحيض عنها؟.. الإفتاء تجيب    الرئيس السيسي يتوجه إلى غينيا الاستوائية للمشاركة في القمة التنسيقية للاتحاد الأفريقي    بائع مصري يدفع غرامة 50 دولارًا يوميا بسبب تشغيل القرآن في تايمز سكوير نيويورك.. ومشاري راشد يعلق (فيديو)    باحث بمرصد الأزهر: التنظيمات المتطرفة تستخدم الخوف كوسيلة للسيطرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسين الصومالى
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 20 - 05 - 2024


حسين عبد الرحيم
خرجت من جربين المعلم ضاحى فجرا، أحمل بطانيتى الرمادية المهترئة، أتوجه لفرش البطيخ، رآنى العم كامل شاهين من بعيد، نادانى قائلا:
أحضر لك العشاء يا صومالى؟
قلت فى كدر وجهامة:
شكرا عم كامل تعيش.
كدرا مرهقا نظرت إليه فى أدب، نظر إلى فى شفقة، سألنى:
تنام؟
قلت:
نعم.
بدا المطر خفيفا فى أول العرب، تمددت، ارتديت طاقية صوف شراقى فوق رأسى، كبستها فى دماغى، تخطت أذنى، شعرت بدفء، تمددت، أتى عم كامل وبيده بطانية ثانية، رماها فوق جسدى المفرود على قش الأرز، بين أكوام البطيخ المكومة على شكل هرمى، صنعت مرقدى، بطول مترين، تحسست جنبى الأيسر الذى صار يؤلمنى على غير العادة، فى العتمة، نهضت من جديد، أشعل سيجارة، نظرت للسماء الكابية، ركام السحب تلج فضاءات الغمام، تمددت على جانبى الأيمن، رحت فى نوم عميق.
رأيتنى سائرا على جسر ترابى طويل، بلا نهاية، الجسر ممتلئ بالحصى، مشيت أرفل فى بدلة كاوبوى، ببطء أنتعل حذاء بنيًاً قديماً، أتطلع لليمين ولليسار، رأيت الديار، منازل بالطوب الأحمر، قفر، دخان يخرج من بيوت مهجورة، الطريق يمتد، نظرت أسفل الجسر، رأيت قناطر جافة، نهر طويل... زراعات، أشجار السرو والعبل تطول السماء، بزغ النور فى بصرى، رأيت بيتا جديدا قديم الطراز، سألت نفسى فى الطريق:
أين أنت الآن؟!
أتمدد كالميت، أروح فى بقاع مجهولة، فى حلم متكرر، تتجدد مفردات الحلم، نفس الجسر، يطول، وأنا السائر بلا اكتراث، لا أنوى شيئا بعينه، الوقت مغارب، البيوت ساكنة وأنا أدقق النظر، أتفحص البيوت المهجورة فى أسى، أسأل نفسى متأرجح الذاكرة ما بين ماض بعيد وآتٍ ملتبس.
أين رأيت تلك المنازل، هل سكنت هذه البيوت.... أتأمل قناطر، قنوات مائية تخرج من تحت الجسر ترمى بالماء أسفل ربوة تمتد بمحاذاة الجسر، طالت خطاى، أتطلع للبيوت والقفر والبلد الغريب، دقائق وبان على يمين الطريق وبمحاذاة أشجار السرو، سرادق كبير، يقف أمامه بعض ضباط الشرطة برداء أسود أحاول الدنو والهبوط تاركا الجسر المرتفع لأنسل بمحاذاته مدققا النظر بتلصص فى السرادق الطويل بمقاعده الخالية إلا من بعض العساكر والضباط أتطلع فى الواجهة فأرى ثلاث رايات خضراء وشعارا ملكيا، وعبارات مسطورة بمدخل السرادق.
«المغفور له حسين الصومالى الحبشى 24 ينايير 1952».
نظرت إلى وجوه عدة لضباط بفئات عمرية مختلفة، كنت أنظر إلى رجل بعينه جالسا منزويا على يسار مدخل السرادق، كان يتبعنى، يرقبنى، يتتبع خطاى وهو القعيد الجالس على كرسى متحرك مرتدياً عباءة من الجوخ بجسد نحيل، يلف رأسه بعمة تطوق رأسه المفلطحة، دخلت السرادق فلم يعترضنى أحد، بدا صوت الصراخ يخترق أذنى وأضيئت أنوار فجأة بطول البرارى، بامتداد الممشى الترابى المحاذى للجسر الطويل، الصراخ يصل عنان السماء وأنا خائف، أسأل نفسى بلا جواب: فى أى زمن أمشى وأرى، ولمن هذه الوجوه؟!
يكاد صوتى أن يخرج بالصراخ لاستبيان مكانى، هذا الزمن الممتد بتكوينات غرائبية فى البيوت والوجوه والطرز المعمارية، أشتم رائحة قمائن طوب فى البعيد، أسأل عن دليل يرشدنى لطريق يخرجنى من هذه المتاهة.
كان الرجل القعيد يشير لى بهمس والضباط فى سكون لا ينظرون إلىَّ، كأننى شخص معروف، مألوف لديهم، أتقدم بحذر وبطء، أنظر للداخل، فى نهاية السرادق كان التابوت مغلقا وحوله سياج من سلاسل ذهبية وبعض الأنفار يجلسون على المقاعد ينظرون للتابوت إلا الرجل القعيد الذى كرر إشاراته لى بالتقدم نحوه.
عادت أصوات الصراخ من جهات غير معلومة ولكنها قريبة، عدت للتلصص والتدقيق فى ملامح الجالسين فى السرادق كان هناك من يشبه المعلم ضاحى الكبير، يتحرك ويترك المقعد وبيده عصاه الأبنوس، رمى بفص الأفيون تحت ضرسه وقال للساقى:
لا تتحرك من هنا حتى أناديك، تابع خدمة المتوافدين حتى تأتى التشريفة.
وددت الصراخ أستفسر عن الحاصل، لمن هذا التابوت؟
زحف الظلام فتلونت الدنيا من حولى وسكت الصراخ ورأيت من يناولنى كوب ماء، شربته ونظرت للوجوه بلا مجيب ولا تواصل مع أحد إلا الرجل القعيد الذى ألح فى طلبى، اقتربت دانيا من كرسيه فسألنى فى ثقة:
لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟، أنتظر حتى يأتى عمك.
لم أجد ما أجيب به، سألته:
من أنت؟!
فقال لى:
وحدك أنت من البداية. لا تخف، أنت من اخترت الطريق وتركت أباك وعمك، وذهبت لناس البحر.
زادت دهشتى وبت أرتعش، ترتج ذاكرتى بلا جدوى دون فائدة، سألته فى غضب وقد هاجمتنا تيارات هوائية كاسحة تأتى من غرب السرادق، دققت فى ملامحه من جديد متطلعا للجنود والضباط بمدخل السرادق التى ضوت فيه مشكاوات ومصابيح تسطع بأضواء مبهرة مع صوت نقيق ضفادع وخرير ماء من جداول أو قناطر قريبة، تأملت الرجل، هززت كتفه النحيل قائلا:
من أنت، أين أبى؟
فقالها فى عبارة واحدة:
اخرج من هذه المدينة وعد للإسكندرية، سافر يا بنى، ابحث عن أبيك، رافق تعلب، صاحبه، اسمع له، هو من يعرف كل شىء، اذهب للنبى دانيال، فمن الممكن أن تكون فرصتك الأخيرة للعثور على أبيك الصومالى.
التفت بغته كانت أصوات الصراخ تدوى من جديد من نسوة لا أراهن إلا أن الصوت أفزعنى، شعرت برهبة تجتاح جسدى كله، خلا السرادق من المعزين وبقى التابوت كما هو، التفت يمنة ويسرة كان الضباط يمتطون خيولا عفية ويستعدون للرمح فوق الجسر الطويل المرتفع عبر قناطر وجداول مائية ترمى بالماء العذب من تحت الجسر لمجارى البرارى المؤدية للحقول.
زراعات عنب وتين ورمان أينعت فجأة وضوت بل سطعت من خلف الكهارب والمشكاوات التى بقت سارجة وكأنها نازلة من السماء، المكان يسبح فى نور وأضواء وأنا أتلمس خطاى منصتاً لهسهسة ووشيش وصوت شيخ يرتل ما بين البرارى والقفر، أسفل الجسر الطويل، بكرسى عال مذهب وعمامة حمراء وعباء سوداء، يتلو: «يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه...»
فررت وتركته دون أدنى اكتراث، كان صوت التلاوة يتعالى فى أذنى، فى عقلى فى نفسى وروحى، يهزنى، يرج كيانى ويخلخل ذاكرتى، لأعاود اجترار ما قاله الرجل القعيد: سافر للإسكندرية، اذهب للنبى دانيال، رافق تعلب ابن فاطمة الضاحى، صاحبه، واحترس من عربى الضاحى. راقبه فى صمت حتى تأمن شره، لعلها الفرصة الأخيرة لملاقاة أبيك والوقوف على مصيره.
قمت من نومى متحسرا دائخا، مفزوعا، اندثر الحلم وتوارى الشيخ القعيد على كرسيه المتحرك، فر فى البرارى بين الزراعات، وكانت تلك الومضة الأخيرة وصارت وكأنها ليست بحلم ولا رؤية.
أستحضر ما كان فى نومى وهو يتحرك ببطء بلا مساعد يدفع كرسيه للأمام، كان جسده يرتج، بان طوله الفارع رغم تقوس ظهره وانحناءته فوق كرسيه الإستانلس المتحرك، رأيت حبات العنب مدلاة حمراء فوق رأسه وهو يغوص فوق أرض طينية فى البرارى البعيدة، انتبهت بعدما أفقت على صوت زخات المطر فى أول العرب، بناصية الحميدى وطولون، أتحسس فرشة القش وقد غرقت فى الماء فابتلت ملابسى وجوربى وبلوفر أسود استوك كنت ألف به وسطى من أسفل غطاء البطانية الرمادية والأخرى الزرقاء التى رماها فوقى العم كامل، اعتدلت أتحسس علبة سجائرى من تحت الوسادة، أشعلت واحدة وكبست الطاقية الشراقى فى رأسى بدماغى محاولا اجترار واستعادة ما رأيته فى منامى:
من هؤلاء الذين رأيت؟ من هو هذا القعيد؟
وماذا كان يفعل ضاحى الكبير بن سلطان رشوان الراحل منذ سنوات، ما هى طبيعة عمله وتجارته وما هو دور عربى الضاحى فيما يدور فى أول العرب، وأين التعلب الآن، ماذا يفعل ولماذا هو دائما غائب فى القنطرة شرق وإذا تصادف ورأيته كان فى حالاته المتكررة بعد شرب الحشيش، نشوة وسطل وتوهة يلتقطها القريب منه وخاصة عندما تسطع ملامحه بشفافية وطيبة مع برقة بصره التى يخشاها كل الرجال فى أول العرب، حتى خاله العربى الضاحى، كثيرا ما تجنبه وقت غضبه منحازا للحق مساندا الغريب والقريب بلا جور ولا اعتداء على أحد أياً كان ضعفه أو قوته، غريبا كان أم من أهل المدينة أو حتى جنوبيا يحيا على مجد جده الراحل ضاحى سلطان رشوان.
رأيت التعلب يخرج من مقهى الشكربالى قبل الفجر وبصحبته ابن سليم وسعد العجرودى، كنت أسأل نفسى فى حيرة تكررت كثيرا منذ قدومى لهذه المدينة:
أين ومتى قابلت هذا الكسيح؟ فى زمن ما فات أم آخر آت؟
أهرش رأسى وشعرى المفلفل الأكرت متتبعا السحب فى سماء الله ململماً فرشة القش من وسط تلال البطيخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.