تنسيقية الأحزاب: غلق باب التصويت في انتخابات النواب بالخارج باليوم الثاني    الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يواجه اضطرابات محتملة مع اقتراب اجتماعه الحاسم بشأن خفض الفائدة    النائب محمد رزق: تقرير «فيتش» يعكس ثقة عالمية في الاقتصاد المصري ويؤكد صلابة برنامج الإصلاح    ارتفاع البورصات الخليجية مع ترقب اجتماع الفيدرالي الأمريكي    جيش الاحتلال يقتحم قرية المغير برام الله ويحتجز فلسطينيين    تصاعد حدة القتال بين تايلاند وكمبوديا على طول الحدود المتنازع عليها    مصر تخسر بثلاثية أمام الأردن وتودع كأس العرب من الباب الصغير    نائب برشلونة عن مواجهة الريال والسيتي: جوارديولا يعرف ما يجب عليه فعله    الحكم بإعدام المتهم بواقعة التعدي على أطفال مدرسة الإسكندرية خلال 10 أيام    فرقة نويرة تحتفى بفيروز على المسرح الكبير بدار الأوبرا    مستشار وزير الصحة: ننقل خبراتنا الطبية إلى جامبيا عبر المركز الطبي المصري    بنك مصر يدعم 5 مستشفيات حكومية ب 67.5 مليون جنيه    فرق البحث تنهى تمشيط مصرف الزوامل للبحث عن التمساح لليوم الخامس    «فيتش» تمنح الاقتصاد المصري ثقة دولية.. من هي هذه المؤسسة العالمية؟    وتريات الإسكندرية تستعيد ذكريات موسيقى البيتلز بسيد درويش    رئيس جامعة العاصمة: لا زيادة في المصروفات وتغيير المسمى لا يمس امتيازات الطلاب (خاص)    500 قرص كبتاجون و2 كيلو حشيش و20 جرام بانجو.. مباحث بندر الأقصر تضبط عنصر إجرامي بمنشاة العماري    محافظ المنوفية: استحداث وحدة جديدة لجراحات القلب والصدر بمستشفى صدر منوف    تركيا تدين اقتحام إسرائيل لمقر أونروا في القدس الشرقية    القومي للمرأة ينظم ندوة توعوية بحي شبرا لمناهضة العنف ضد المرأة    "مصر للصوت والضوء" تضيء واجهة معبد الكرنك احتفالًا بالعيد القومي لمحافظة الأقصر    استمرار فعاليات التصفيات النهائية للمسابقة العالمية للقرآن الكريم لليوم الرابع في العصامة الجديدة    محافظ القليوبية يشارك في احتفال الرقابة الإدارية باليوم العالمي لمكافحة الفساد بجامعة بنها    10 سنوات مشدد لبائع خضروات وعامل.. إدانة بتجارة المخدرات وحيازة سلاح ناري بشبرا الخيمة    كوارث يومية فى زمن الانقلاب… ارتباك حركة القطارات وزحام بالمحطات وشلل مرورى بطريق الصف وحادث مروع على كوبري الدقي    شتيجن يعود لقائمة برشلونة ضد فرانكفورت في دوري أبطال أوروبا    كييف: إسقاط 84 طائرة مسيرة روسية خلال الليل    القاهرة الإخبارية: قافلة زاد العزة ال90 تحمل أكثر من 8000 طن مساعدات لغزة    لا كرامة لأحد فى زمن الانقلاب.. الاعتداءات على المعلمين تفضح انهيار المنظومة التعليمية    وفاة شخص صدمته سيارة بصحراوي سمالوط في المنيا    شباب الشيوخ توسع نطاق اختصاصات نقابة المهن الرياضية    بدء تفعيل رحلات الأتوبيس الطائر بتعليم قنا    وزارة الرياضة توضح تفاصيل إصابة لاعب أثناء مباراة الدرجة الرابعة بمغاغة    نيللي كريم: مبقتش أعمل بطولات وخلاص عشان أثبت إني ممثلة كبيرة    منافس بيراميدز المحتمل - مدرب فلامنجو: نستهدف المنافسة على اللقب    متحدث «الأوقاف»: مصر قرأت القرآن بميزة «التمصير والحب» لهذا صارت دولة التلاوة    الأعلى للإعلام يستدعى المسئول عن حساب الناقد خالد طلعت بعد شكوى الزمالك    غدًا.. فصل الكهرباء عن قريتي كوم الحجنة وحلمي حسين وتوابعهما ببيلا في كفر الشيخ    ارتفاع ضحايا زلزال شرق اليابان إلى 50 شخصا.. وتحذيرات من زلزال أقوى    ليوناردو دي كابريو يهاجم تقنيات الذكاء الاصطناعي: تفتقد للإنسانية وكثيرون سيخسرون وظائفهم    المشاط تتسلم جائزة «القيادة الدولية» من معهد شوازيل    جامعة قناة السويس تقدّم خدمات علاجية وتوعوية ل711 مواطنًا خلال قافلة طبية بحي الأربعين    مدبولي يتفقد مشروع رفع كفاءة مركز تكنولوجيا دباغة الجلود بمدينة الروبيكي    حزب الاتحاد: لقاء الرئيس السيسي مع حفتر يؤكد حرص مصر على استقرار ليبيا    مراسلة قطاع الأخبار بالرياض: الأعداد تتزايد على لجان الانتخاب في السعودية    رياضة النواب تهنئ وزير الشباب بفوزه برئاسة لجنة التربية البدنية باليونسكو    صلاح وسلوت.. مدرب ليفربول: أنا مش ضعيف وقلتله أنت مش هتسافر معانا.. فيديو    قرار عاجل لمواجهة أزمة الكلاب الضالة في القاهرة    وزارة الاستثمار تبحث فرض إجراءات وقائية على واردات البيليت    رنا سماحة تُحذر: «الجواز مش عبودية وإذلال.. والأهل لهم دور في حماية بناتهم»    البابا تواضروس الثاني يؤكد وحدة الكنيسة خلال لقائه طلاب مدرسة مارمرقس بسيدني    فحص 7.4 مليون تلميذ ضمن مبادرة الكشف المبكر عن «الأنيميا والسمنة والتقزم»    غدا.. بدء عرض فيلم الست بسينما الشعب في 9 محافظات بأسعار مخفضة    رئيس اللجنة القضائية: تسجيل عمومية الزمالك يتم بتنظيم كامل    وزير الثقافة يلتقي نظيره الأذربيجاني لبحث التعاون بين البلدين    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : ماذا تعمل ?!    دعاء الفجر| اللهم ارزقنا نجاحًا في كل أمر    هل يجوز إعطاء المتطوعين لدى الجمعيات الخيرية وجبات غذائية من أموال الصدقات أوالزكاة؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة جديدة للكاتب حسين عبد الرحيم: «بيجامة كستور»
نشر في المصري اليوم يوم 13 - 02 - 2021


أنا الصغير المهاجر من بلادي إلى هنا.
كانت أم هاشم وكان النداء، وتلك الخارطة الشهية بفستان باتستا مزركش يتوسط فخذيها ويمر القمر بدراً، في رواح أبدي ليلة وراء ليلة، من نصف الشق حتى الاستدارة الكاملة، تنظره أم حامد وهي تناجي ابنها الغائب في العراق منذ سنوات، بت أتذكر يومي الذي لا ينسى، يوم صفعتني الصديقة وأنا أنظر أم هاشم فأنام وأغيب في خيالاتي، أذهب في البكاري لأطرق عتبات بيت عم صفوان الغائب، كنا في السابعة وولجت فأطلت بوجه كالحليب، هرولت تحتضنني وتقول: لماذا ضربتك أمك أمس الأول؟ خجلت وطأطأت رأسي، جاءت بفطور من القشدة وجبن أبيض وسريس وخبز صابح خرج لتوه من الفرن، فرشت لي الأرض بالبرسيم، ضحكت فأجلستني قبالتها وهي تنادي خالتها كنوز، والتي فرحت بقدومي وقت أن نطقت أم هاشم باسمي واسترسلت: (الحسين ابن المهجرين) أترينه، (عيناه العسليتان وفمه الصغير وأذناه الحمراوتان) تشدني من وجنتي وتقرصني بدلع وغنج وتقول: أنت بتتكسف يا حسون. ألمح ظلي في نن عينيها فتسألني: هل تعرف الحسون؟ إنه الطائر في السماء. (لا ينزل الأرض أبداً.
أضحك وتضحك خالتها وتقول في وداعة: جاءك رفيق ليؤنس وحدتك.
تشرد أم هاشم، تلملم أطراف جلبابها الزيتوني بين وركيها، أحار فيما أرى من تناقض وشرود وحيرة تصبغ ملامحي ونظراتي وحركة جسدي، ما بين التدقيق لذلك الجسد اللدن الرهيف الطري الشهي ومفارق ثدييها البارزان في شموخ وقد تكورا وحطا على البساط في حجم ثمرتي رمان طارح في موسم القيظ منفرطا فوق شفتي قبل نهاية الخريف التي كانت تقرض الثانية دون وعي.
أنظرها وهي تستدير، ترمي بالوقيد وأعواد البوص داخل الفرنة، تستقبل صباحا جديدا، تعد الأرغفة الشمسي لشقيقها الغائب أحمد.
أحمد الكسيح، والذي عولج في مستشفى المنصورة منذ عامين، على يد طبيب ألماني فخرج يستند على عكازين يتنقل بهما بثقل في السادسة كل صباح وقت خروجه من حارة سعيد ذاهباً لمصنع السماد، وقفت مشدوها وسط الدار وهي تستأذنني في الغياب لنصف الساعة لإحضار المكوة من عند ممدوح بشارع البازات،
تناولت القشدة على عجل، سال البياض بجانب فمي، قطعت رغيف الخبز، تأملت هالات الأدخنة الخارجة من الفرن منصتا لخوار بقر أصفر يراقد نهاية الدار، تأملتني كنوز، خرجت خلف أم هاشم، سرت لنهاية الحارة، مررت بجانب محل ممدوح الكواء المغلق لتراني وقد خرجت للتو من مسجد البازات، بيدها قلة ماء تنادي علىّ وتسألني: لماذا أتيت؟
تضحك فتضاء الدنيا من حولي، تتسع حدقتاها صباح الخميس، تسحبني من يدي، تسير بمهل والقلة فوق رأسها وأنا أنظر قامتها الطويلة، أخفض رأسي، أدقق في الفارق بين طول قامتها وقصري، ينتابني الخجل وقت أن ناداني عم فرحات البقال، ردت قائلة: هانجيلك يا عم فرحات.
رأيت ممدوح الكواء يتلصص علينا وقت دخولنا الحارة، ظهر فهمي المخبول كشبح، بعينين جاحظتين وشعر غزير أشعث، ملابسه رثة، واثق الخطوة يمشي كالبطريق، عينه تحصي البيوت، ينكفئ كل لحظة وأخرى، يتناول علبة من الصفيح أو كوز صدئ، يطوحهما أمام منزله، يبني أهرامات ثلاثة من الصفيح، أنظر قدمه المتسخة، أنصت لأم هاشم قبل دخولها الدار، تقول: مسكين. من بعد الحرب وهو على هذا الحال؟!! أقول: رأيته بالأمس يشعل الحرائق أمام بيته. صمتت وباغتتني بالسؤال: أين أبيك؟.. أين ذهبت أمك؟.
- لم أرها منذ أمس الأول.
أصمت غائباً في تيه، أشتم تلك الرائحة، لجسد رجراج، فتي، ثابت، يترنح بحواسي.
مشدوها يا الحسين، حائر، بين شعوري بالبهجة وقت السير فوق تراب الحارة ووقت توديعها، قصدت بيتنا، فارقت الأرض الواطئة أحلق في عالمي، بعيدا عما أعيشه وأحيا فيه، تطرق الباب خلفها، تضحك في غنج ونشوة، فتقول قبل الدخول:
- سأنتظرك بعد العشاء على كنبة أم حامد.
تضاء الفضاءات في الدنيا، حارة سعيد وطلخا والمنصورة وترتفع مئذنة البازات بالسائر في رحابه وقت أذان الظهر، المؤذن يردد في نفرة أسى، حي على الفلاح، في الظلام سألت عني الصديقة، في العتمة رقدت، أخبرني بضرورة الذهاب معها غدا لفرشة الفاكهة التي نصبها والدي فوق كوبري طلخا، قالت:
عد نفسك من الأسبوع القادم لمرافقة أخيك قدري لتوصيل أقفاص الفواكه حتى الكوبري الحديد القريب من مصنع السماد، دخلت البيت كدراً، أنتظر مساءات فرحة لن تأت.
الساعات تمر، أقفز مع الغروب لسريري الحديد.
الشمس تودع البازات، أفتح النافذة، تائهاً أنظر طلعة القمرً، أدقق النظر للقرص الأبيض الشفيف السائر بخفة، أحدق بنشوة وقد صعد وجه أم هاشم للسماء قرب القمر،
من وسط القرص المنير بهالات من ضياء، بزغ ملاك أبيض يغشي العين، تأملت الوجه الملائكي وسط دائرة النور،
أرى برقة العيون لكائن شفيف ينظرني في ثقة وجسارة ويناديني بإيماءات من خفقان، ضوء يشف بغلالات هامسة تضوي في عيني، في همس، لاح، بجلباب، عباءة بيضاء مشغولة الصدر، بفصوص من الألماس، أتيه في ذكرى أحاديث أم هاشم وقت أن أذن العشاء وتعالت الأدخنة السوداء تخرج من منزل فهمي لأعاود الطلل،
الضياء مبهر.
القمر يتوسط سماء الله بدرا في اكتماله، أراني وقد سرت ملازما جسد أم هاشم، على أنوار البازات، سحبت أناملي، وضعتها براحة كفها الأيمن، تعالت أصوات النغم، لدفوف ورائحة بخور، تنفذ بأريج عطر، من جسد ملائكي مثير، نفذ أريج عطره من مسامات شراشف الإبط الذائب في البياض.
صوت دفوف تصاحبه نفرات ناي حزين، شارع يطول، يتمدد، قمر يسير بمهل أعلى البيوت، يحرسنا، تفك شعرها، تمشي بخفة وقد زغردت الأرض المسفلتة تستقبل تلك الأقدام اللدنة الخفيفة التي تفارق الطوار، تفرد ذراعيها، تقترب في ليلة المولد النبوي، خجلاً من ملابسي وهيئتي كنت، ببجامتي الكستور وحذائي الهلنكة وكفي اليسرى الرفيعة وقد وضعتها في جيبي وسط الزحام، خصلات شعرها تستسلم لهواء الخريف وهوى التسكع في رحاب البازات، أسأل الرجل الغليظ عن ثمن العروسة الحلاوة، تنهمك أم هاشم في رفع حصان صغير أصهب، ترمي بشلن فضة للبائع، تهديني الحصان وتزوغ في الزحام، أصرخ، أناديها، عيني ترقب ممدوح الكواء المنتظر عند طرقة البازات المعتمة، على باب الميضة.
طرقات عنيفة على باب المنزل دخلت على إثرها في فراشي، تمددت أغلق النافذة المفتوحة على فضاءات السماء الرحبة، أبي يناديني فلا أرد،
تمر الدقائق بعد غفوة قصيرة، أترك سريري، وحدي في البيت بلا أنيس ولا رفيق، أسأل نفسي في غبشة ضوء اللمبة السهاري المعلقة فوق حوض الطرقة، أنظر المرآة، أتطلع لهيئتي، بجامتي، تسريحة شعري، تناديني أم حامد، أخرج طارقا الباب من خلفي، أجلس بجانبها، تربت على كتفي، أسألها عن أمي،
تقول: كانت عندي في العصاري وسألتني عن أبيك فأبلغتها بأنك بالداخل.
تسألني أم حامد وعينها تنظر القمر الضاوي.
- أين كنت؟
قلت: أين أم هاشم يا نينة؟
ضحكت وقالت: على وصول يا واد يا قرداتي، ستأتي، هي مثلك، بنت صفوان، وحيدة، أبيها يغيب لنصف الشهر، يعمل بكرمة ميت الغرقة، تنام بالدار مع خالتها وشقيقها العاجز أحمد.
رأيت أحمد الكسيح وقد ظهر كشبح يرمي بظل أسود على حائط فهمي، يمشي في ظلام الحارة، يتحرك في إعياء بثقل فتجرى إليه أم هاشم، يربت على كتفها، تأخذ بيده، يخطو بعكازه الأيسر، يتخطى عتبة الدار كرجل آلي، عين أم حامد تنظر القمر في السماء، تكلمني، تسألني:
- بتحب القمر؟ !
أشرد، أحدق في دائرة النور، وسط ضياء القمر تقول: بدر مكتمل.
تبكي لأسألها في حنو، أربت على كتفها العجيني،
- لماذا تبكين يا نينة، تقول: تأخر حامد كثيراً،
سبع سنوات وهو في العراق، تدير مؤشر الراديو الترانزيستور، أنصت لحديث السادات عن الحرب والسلام وآخر الحروب،
تقول أم حامد،
- متى ستعودون لبلادكم، (هل ستذكروننا بعد الرحيل)
وأنت هل ستعود لزيارتنا يا الحسين أم ستنسى أم حامد وأم هاشم.
أضحك بخجل، أخفض رأسي، تسحبني لحجرها، تلعب في شعري، وتهدهدني وتقول:
بتحب القمر، أصمت، ننظر سويا لأعلى سماء الله الحبلى بالمطر وأقول:
- هل ترين هذا الرجل البعيد فوقنا وسط القمر؟!
تضحك وتقول: يا عبيط،
- أي رجل،
أقول:
هناك بعباءة بيضاء، وجهه ساطع ينفذ بالضياء، يلوح لي دوما، وحدي، وبوجهه الكبير البيضاوي يجلس مشدوها فلا ينطق، يرقبنا فقط من وسط الدائرة القمرية، لا يظهر، وجه فقط، دون ذراعين ولا ساقين، بعينين بارقتين ينيران الدنيا،
تضحك وتسألني:
ومن هو هذا الرجل يا الحسين؟، أقول: إنه الرب.
ينير لنا طريق الدنيا، بلا مشقة، بلا كلام، بلا لغط، بلا جفوة، بلا أجر، بلا عناء، بلا شكوى، بكياسة وصبر، دون مقابل،
يرسل تباشير الضياء وسط خلقه الحيارى الوحيدين مثلنا،
تضحك أم حامد وتشدني من كتفي، تسحبني وتمددني بين وركيها وقت أن جاءت أم هاشم تتكلم بصوت زاعق،
تقول:
إلى أين ذهبت؟!
صمت لثوانٍ وقلت: أنت التي تركتيني وحدي وذهبتي لممدوح الكواء، تضحك وتقول:
زعلت،
(انتِ بتغيري يا بطتي) .
أدفع يدها بعيدا، تشرد أم حامد من جديد، عينها في الآفاق، تجلس بجانبي فأراني قزماً أتأمل طولها الفارع، جلست بينهن فأخرجت الملبن من كيس مفضض، تداعبني، تلقمني، تعبث بشعري، تقول: كل يا ولا، دا حلقوم بسكر. تنظرني أم هاشم وتقول بصوت مسموع:
- بحبك، أنت طيب مثل شقيقي أحمد وأبي صفوان الغائب، أحبك، أتونس بك، تحركني روحك، تملؤني بهيئتك، بشقاوتك، براءتك،
إن تزوجت سأنجب ولدا وسأسميه الحسين.
تقبلني فوق جبهتي، تطبع أخرى على وجنتي، ثالثة فوق شفتي فيزيد خجلي، أضربها على وركها فتشدني من أصابع يدي، تقضمهم، تقبلهم، تهبط على جسدي ومنكبي ورأسي، بصدرها النافر الطري، أشتم رائحة ونس، نور يسري في الحواس بنشوة تتجلى بروحي، أدير مؤشر الراديو، تضغط أصابعي، الأنامل، تزيحهم برفق، تقلب في محطات الترانزيستور لتأتي الموسيقى كلاسيك، من أزمنة سحيقة، تهيم روحي، أتذكر بلادنا وتلك اللوحات المعدنية والشقيق الكسيح وأم هاشم الجالسة بجانبي تمسح شعري وأنا الملتصق دون وعي، بلا دراية، بلا شبق، دون حسابات ولا خجل، ألامس شعرها الطويل، أضع رأسي على كتفها، تربت على صدري وكتفي من جديد وتقبلني قائلة: تتجوزني؟ نعمل الزفة في المنصورة في كازينو الشجرة، نطير بالونات حمراء وزرقاء وبيضاء كثيرة، نرمح خلفها وحدنا، أنا وأنت، نترك الكوشة والأهل، سنأخذ معنا أحمد، سيركب حنطور ويتبعنا وإن لحق بنا نهرب، أنا وأنت، نعبر في مركب المناويش، وحدنا في النيل، دون ضوء ولا رفقة إلا القمر وأم حامد التي ستقود المركب، سأرتدي فستانا أبيض.
أقول في أذنها: أبيض في أزرق، وحذاء أبيض، أقول: حذاء باليرينا مفتوح من الخلف والأمام لترى الخلق أظافرك النونو وتلك الأنامل الرقيقة والكعوب الوردية للقدم، طابع الحسن، فرجات أسنانك، سيكون الفستان عاري الظهر، مغطى من قبل الصدر، وثدييك. أشير بيدى اليمنى: ستخبئينهما، لن ينظرهما إلا أنا، سأقبلك فوق جبينك ووجنتيك، نحرك، وأرتمي بنشوة وسط نهديك وأمسك بيدي شعرك المسترسل الأصهب، الطويل الناعم، أشتم الرائحة المثيرة لفروة رأسك.
أم هاشم تنظرني في دهشة، في سحر، عيناها تبرق، تنصت لي وانا أتحدث في لهفة وكأنني سأزف عليها بعد دقائق، تقول أكمل يا حسين، أنظر للقمر، أسترسل، سأقبل بطنك وأضع رأسي فوقها وتهبطين علىّ بوجهك البديع لتقبلينني، تحتضنيني بعدما يضمني ذراعاك. هاتان البلورتان فأشتم رائحة نشاء وحمض يسري بسيل من خدر نشوان من رضاب ينزلق في حلقي وروحي فتحتضينني، تقف أمام منزل أم حامد وقد شبكت أصابعها في أصابعي، حوطت ظهري، اقتربت فانحنت حتى صارت في مستوى قامتي تراقصني، ندور في فراغ حارة سعيد والبازات، نصعد، نحلق متلاصقين قبل سماء الله، على صوت الموسيقى تفارقنا الأرض وتتجلى الدنيا فنرتفع لترى قبة البازات من تحتنا وقد لاحت أم هاشم تحلق بجناحين من ريش طاووس لنذوب بلا منتهى ولا رجعة.
تركت سريري فجراً، الصديقة تعد الفطور وقد تعالت أصوات وشيش مواقد الغاز في البيوت، تسللت خلسة قاصدا منزل العم صفوان وقفت أنتظر خروج أحمد وأنادي كنوز، قالت: تعال أم هاشم في غرفتها ادخل صبح.
ضحكت في خجل واقتربت لغرفتها السابحة برائحة خبيز ممزوج باللبن والنشاء وروث البقر، نظرتها وهي تتقلب في فراشها، تدعوني وعيني تنظر سريرها وقت أن مشى كفها الأيمن، ما بين الوسادة وملاءة حرير وردية، طفت بأصابعي أتلمس الحرير، اعتلت بيمينها ذراعي هابطة لمعصمي، تنام براحتها فوق كفي، تلمس أصابعي برفق، نسير بكفينا نحو وسادتها النونو القرمزية وقد تلاصقا وتلاصقنا في ود ونشوة، أشتم رائحة ملابسها المعلقة في مشجب برتقالي مدقوق بموازة الناموسية، تغيرالملاءات، تضع البرتقالية وتلملم الوردية، أنظر وجهها في تيه الزمن وعبق المكان، راقت فصفت وشفت تلملم طرف جلبابها السكروتة بين فخذيها، تنظرني في نشوة وحبور، بعين مرحبة وأخرى مغناجة وأنا الخجول أترك مكاني، أجلس بركن قصي أمام الفرن، أتدفأ بلهيب النار المشتعلة أسفل أقراص الجلة.
أم هاشم تعد الفطور، نتناوله ثلاثتنا، أحضرت كوب لبن دافئ، خرجت ومعها القلة تقصد مسجد البازات كعادتها كل صباح، بلا استئذان من كنوز هذه المرة، انهمكت الخالة لحظات في إعداد العجين، خرجت خلف أم هاشم أتتبعها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.