يحيي وجدي بصراحة، وبعيدا عن التريندات خفيفة الظل حول "الفتة" ومحبي "تقليتها الإسكندراني"، فإن الإسكندرانية لهم كل الحق في اعتزازهم الكبير بروح مدينتهم، وفي التأكيد على اختلافها الجذري عن باقي مدن مصر. وإذا كانت منطقة وسط البلد في القاهرة، بطابعها الكوزموبوليتاني وانفتاحها وتسامحها المعماري مع كل الفئات، فإن الإسكندرية كلها تقريبا هي وسط البلد بالنسبة لمصر. صحيح أن هذا يتغير من السبعينيات بحسب أديب سكندري راسخ هو إبراهيم عبد المجيد صاحب "لا أحد ينام في الإسكندرية" لكن روحها تلك، مازلت كامنة في كل حجر فيها وكأنها تنتظر من يحررها. تبدو الإسكندرية دائما وكأنها مدينة في رواية.. مدينة غير موجودة في الواقع، بل مكانا خياليا أبدعه الروائيون والقصاصون والشعراء، وفي الحقيقة فإن الإسكندرية وطوال تاريخها العجيب، المتراكم طبقات فوق طبقات، بين طابعها الهيليني باعتبارها واحدة من بنات المتوسط المخلصات لأبيهم الكبير، البحر الأبيض، وصورتها الكوزموبوليتانية التي صاغها أجانب من كل الجنسيات.. كل الجنسيات فعلا، حتى أنك وأنت تقرأ كيف عاشت فيها جالية من روسيا البيضاء، والبولنديون، وأبناء الشمال الاسكندنافي من النرويج والسويد والدنمارك (نعم عاش كل هؤلاء في الإسكندرية)جنبا إلى جنب، مع الطلاينة واليونانيون والإنجليز والفرنسيون والعرب من المحيط للخليج، ما جعلها بعلاقاتها وثقافات سكانها مكانا ملهما لكل صاحب موهبة، أجانب ومصريون. المدينة الآسرة نجيب محفوظ مثلا، وهو الذي ظل طوال حياته يكتب عما يعرفه جيدا من أماكن، فحفر عميقا في مدينته ومنطقته.. منطقة القاهرة الفاطمية، ثم امتداداتها الأحدث في وسط البلد، لكن الإسكندرية التي كان يقضي فيها شهور الصيف فقط ألهمته واحدة من أجمل رواياته وهي "ميرامار" وتحرك فيها بين أبطاله من خلال فندق صغير كان بالنسبة له هو الإسكندرية كما رآها وعرفها في إجازاته. عاش في الإسكندرية، وكتب عنها قسطنين كفافيس شاعر اليونان الحداثي الأشهر، في قصيدته "المدينة": "قلت سأذهب إلى أرض ثانية/ وبحر آخر/ إلى مدينة أخرى/ تكون أفضل من تلك المدينة. لن تجد بلادا ولا بحورا أخرى/ سوف تلاحقك المدينة/ ستهيم في نفس الشوارع/ وستدركك الشيخوخة/ في هذه الأحياء نفسها/ وفي البيوت ذاتها/ سيدب الشيب في رأسك/ وستصل دوما إلى هذه المدينة". الرباعية الأشهر لم يكن ارتباط كفافيس بالإسكندرية باعتبارها مكانا للعيش، بل مكانا عاش هو فيه وألهمه، تماما مثل لورانس داريل الكاتب البريطاني المولود في الهند عام 1912 حينما كانت محمية بريطانية، وفي سن الحادية عشر أرسله والداه إلى انجلترا لاستكمال تعليمه في وطنه الأم، لكن داريل كانت له روح فنان آبق، فشل في الدراسة فشلا مروعا، فعمل عازفا للبيانو في ملهى ليلي في لندن، ومعه انكب على القراءة وكتابة الشعر لكن محاولاته لم يكتب لها النجاح، فراح يتابع كبار أدباء عصره واهتم بالنقد الأدبي، ويبدو أنه روحه الفنية تلك وجدت مكافئها في الإسكندرية، بعد أن كان قد جاب العالم كله تقريبا، من انجلترا لليونان للأرجنتين لقبرص، فذهب إلى الإسكندرية وفيها كتب عمله الأدبي الأشهر المعروف برباعية الإسكندرية، وهو عبارة عن أربع روايات بعناوين "جوستين" و"بلتازار" و"ماونت أويف" و"كليا" نشرها في الفترة من 1957 وحتى عام 1960 وهي من الروايات الأكثر مبيعا في العالم حتى الآن. مجددون وحداثيون مثلا، وممثلا لجيل الخمسينيات، لدينا إدوار الخراط المناضل والمبدع والمنظر الأول لتيار "الحساسية الجديدة" في الأدب، وصاحب الفضل الكبير على الأجيال الأدبية التالية له، والذي أصبحت روايته "ترابها زعفران" عنوانا للإسكندرية، وتأريخا أدبيا للمدينة ما بعد كفافيس وداريل، وحسنا فعلت محافظة الإسكندرية بأن أطلقت اسمه على شاطىء "سيدي بشر" وليت هذا حدث في حياته، لكن أن يأتي ذلك متأخرا خير من ألا يأتي أبدا! من الإسكندرية أيضا خرج محمد حافظ رجب، أبرز رواد التجريب والتجديد في فن القصة القصيرة، والذي أصبح أحد أشهر الأسماء في جيل الستينيات. ولد رجب في عام 1935، وعرف ككاتب موهوب بينما كان يبيع اللب والسوداني أمام إحدى دور السينما في الإسكندرية! وعاش حياته كلها بعيدا عن الأضواء، يرفض حضور الندوات والمشاركة في المؤتمرات الأدبية، مخلصا للإسكندرية، حتى عندما طلب للعمل في القاهرة وعُين في المجلس الأعلى للثقافة، آثر العودة إلى الإسكندرية وظل فيها حتى وفاته. من جيل السبعينات، أصبح للإسكندرية صوتا أدبيا جديدا ومؤرخا فنيا للمدينة الكوزموبوليتانية في لحظة تحول كبير ومفصلي هو الكاتب إبراهيم عبد المجيد. ولد إبراهيم عبد المجيد في الإسكندرية عام 1946، ومنذ عمله الأدبي الأول اختار عبد المجيد مدينته مشروعا أدبيا له، وإذا كان لورانس داريل في رباعيته الشهيرة نقل أجواء الإسكندرية في منتصف القرن العشرين، فإن إبراهيم عبد المجيد برباعيته "لا أحد ينام في الإسكندرية" و"طيور العنبر" و"الإسكندرية في غيمة" و"طيور العنبر" لم ينافس داريل بقوة فقط، بل إنه روى حكاية المدينة كما لم تروى من قبل، وأصبح بمثابة صوتها في فيما كانت تبحث عن صوت لها، مستغيثة مما يجري فيها! مثل أبطال رواياتها، فإن الإسكندرية مدينة معذبة.. لها طبيعتها الخاصة والمتفردة، ولها أيضا فنانوها وكتابها. لها روائيوها ومؤرخوها. بصراحة، وبعيدا عن التريندات خفيفة الظل حول "الفتة" ومحبي "تقليتها الإسكندراني"، فإن الإسكندرانية لهم كل الحق في اعتزازهم الكبير بروح مدينتهم، وفي التأكيد على اختلافها الجذري عن باقي مدن مصر. وإذا كانت منطقة وسط البلد في القاهرة، بطابعها الكوزموبوليتاني وانفتاحها وتسامحها المعماري مع كل الفئات، فإن الإسكندرية كلها تقريبا هي وسط البلد بالنسبة لمصر. صحيح أن هذا يتغير من السبعينيات بحسب أديب سكندري راسخ هو إبراهيم عبد المجيد صاحب "لا أحد ينام في الإسكندرية" لكن روحها تلك، مازلت كامنة في كل حجر فيها وكأنها تنتظر من يحررها. تبدو الإسكندرية دائما وكأنها مدينة في رواية.. مدينة غير موجودة في الواقع، بل مكانا خياليا أبدعه الروائيون والقصاصون والشعراء، وفي الحقيقة فإن الإسكندرية وطوال تاريخها العجيب، المتراكم طبقات فوق طبقات، بين طابعها الهيليني باعتبارها واحدة من بنات المتوسط المخلصات لأبيهم الكبير، البحر الأبيض، وصورتها الكوزموبوليتانية التي صاغها أجانب من كل الجنسيات.. كل الجنسيات فعلا، حتى أنك وأنت تقرأ كيف عاشت فيها جالية من روسيا البيضاء، والبولنديون، وأبناء الشمال الاسكندنافي من النرويج والسويد والدنمارك (نعم عاش كل هؤلاء في الإسكندرية)جنبا إلى جنب، مع الطلاينة واليونانيون والإنجليز والفرنسيون والعرب من المحيط للخليج، ما جعلها بعلاقاتها وثقافات سكانها مكانا ملهما لكل صاحب موهبة، أجانب ومصريون. المدينة الآسرة نجيب محفوظ مثلا، وهو الذي ظل طوال حياته يكتب عما يعرفه جيدا من أماكن، فحفر عميقا في مدينته ومنطقته.. منطقة القاهرة الفاطمية، ثم امتداداتها الأحدث في وسط البلد، لكن الإسكندرية التي كان يقضي فيها شهور الصيف فقط ألهمته واحدة من أجمل رواياته وهي "ميرامار" وتحرك فيها بين أبطاله من خلال فندق صغير كان بالنسبة له هو الإسكندرية كما رآها وعرفها في إجازاته. عاش في الإسكندرية، وكتب عنها قسطنين كفافيس شاعر اليونان الحداثي الأشهر، في قصيدته "المدينة": "قلت سأذهب إلى أرض ثانية/ وبحر آخر/ إلى مدينة أخرى/ تكون أفضل من تلك المدينة. لن تجد بلادا ولا بحورا أخرى/ سوف تلاحقك المدينة/ ستهيم في نفس الشوارع/ وستدركك الشيخوخة/ في هذه الأحياء نفسها/ وفي البيوت ذاتها/ سيدب الشيب في رأسك/ وستصل دوما إلى هذه المدينة". الرباعية الأشهر لم يكن ارتباط كفافيس بالإسكندرية باعتبارها مكانا للعيش، بل مكانا عاش هو فيه وألهمه، تماما مثل لورانس داريل الكاتب البريطاني المولود في الهند عام 1912 حينما كانت محمية بريطانية، وفي سن الحادية عشر أرسله والداه إلى انجلترا لاستكمال تعليمه في وطنه الأم، لكن داريل كانت له روح فنان آبق، فشل في الدراسة فشلا مروعا، فعمل عازفا للبيانو في ملهى ليلي في لندن، ومعه انكب على القراءة وكتابة الشعر لكن محاولاته لم يكتب لها النجاح، فراح يتابع كبار أدباء عصره واهتم بالنقد الأدبي، ويبدو أنه روحه الفنية تلك وجدت مكافئها في الإسكندرية، بعد أن كان قد جاب العالم كله تقريبا، من انجلترا لليونان للأرجنتين لقبرص، فذهب إلى الإسكندرية وفيها كتب عمله الأدبي الأشهر المعروف برباعية الإسكندرية، وهو عبارة عن أربع روايات بعناوين "جوستين" و"بلتازار" و"ماونت أويف" و"كليا" نشرها في الفترة من 1957 وحتى عام 1960 وهي من الروايات الأكثر مبيعا في العالم حتى الآن. مجددون وحداثيون مثلا، وممثلا لجيل الخمسينيات، لدينا إدوار الخراط المناضل والمبدع والمنظر الأول لتيار "الحساسية الجديدة" في الأدب، وصاحب الفضل الكبير على الأجيال الأدبية التالية له، والذي أصبحت روايته "ترابها زعفران" عنوانا للإسكندرية، وتأريخا أدبيا للمدينة ما بعد كفافيس وداريل، وحسنا فعلت محافظة الإسكندرية بأن أطلقت اسمه على شاطىء "سيدي بشر" وليت هذا حدث في حياته، لكن أن يأتي ذلك متأخرا خير من ألا يأتي أبدا! من الإسكندرية أيضا خرج محمد حافظ رجب، أبرز رواد التجريب والتجديد في فن القصة القصيرة، والذي أصبح أحد أشهر الأسماء في جيل الستينيات. ولد رجب في عام 1935، وعرف ككاتب موهوب بينما كان يبيع اللب والسوداني أمام إحدى دور السينما في الإسكندرية! وعاش حياته كلها بعيدا عن الأضواء، يرفض حضور الندوات والمشاركة في المؤتمرات الأدبية، مخلصا للإسكندرية، حتى عندما طلب للعمل في القاهرة وعُين في المجلس الأعلى للثقافة، آثر العودة إلى الإسكندرية وظل فيها حتى وفاته. من جيل السبعينات، أصبح للإسكندرية صوتا أدبيا جديدا ومؤرخا فنيا للمدينة الكوزموبوليتانية في لحظة تحول كبير ومفصلي هو الكاتب إبراهيم عبد المجيد. ولد إبراهيم عبد المجيد في الإسكندرية عام 1946، ومنذ عمله الأدبي الأول اختار عبد المجيد مدينته مشروعا أدبيا له، وإذا كان لورانس داريل في رباعيته الشهيرة نقل أجواء الإسكندرية في منتصف القرن العشرين، فإن إبراهيم عبد المجيد برباعيته "لا أحد ينام في الإسكندرية" و"طيور العنبر" و"الإسكندرية في غيمة" و"طيور العنبر" لم ينافس داريل بقوة فقط، بل إنه روى حكاية المدينة كما لم تروى من قبل، وأصبح بمثابة صوتها في فيما كانت تبحث عن صوت لها، مستغيثة مما يجري فيها! مثل أبطال رواياتها، فإن الإسكندرية مدينة معذبة.. لها طبيعتها الخاصة والمتفردة، ولها أيضا فنانوها وكتابها. لها روائيوها ومؤرخوها.