على وهج حراب القلق يتردد السؤال الآن بقوة: "هل تبقى الإسكندرية مصدر إلهام ثقافي عالمي أم تكون وجع الذاكرة الثقافية"؟!. هل تستمر قصة المدينة الساحرة الفاتنة في الشتاء كما في الصيف لتتوالى فصولا بلا نهاية مع المبدعين والفنانين أم أن الوقت ينذر بالمرثية الأخيرة والبكاء على أطلال الذكريات والأماكن التي لم يرحمها من لايعرف قيمتها؟!. الإسكندرية تشكل بالفعل مصدر إلهام ثقافي عالمي وتتوالى الكتب الجديدة الصادرة بلغات شتى حول عروس البحر المتوسط وشخصيات تاريخية اقترنت بالمدينة الساحرة وأحدث هذه الكتب هو الكتاب الصادر بالانجليزية الذي اختار له المؤلف بيتر ستوثارد عنوان "الإسكندرية : الليالي الأخيرة لكليوباترا". والكاتب البريطاني بيتر ستوثارد الذي عرف باهتمامه بالشخصيات التاريخية واصدر من قبل كتاب "على طريق سبارتاكوس" استكمل فكرة كتابه الجديد عن كليوباترا من زيارة قام بها للأسكندرية عام 2011 لأن الفكرة كانت تراوده منذ أن كان في ميعة الصبا . وفي هذا الكتاب يتحدث ستوثارد عن أمجاد الأسكندرية بمكتبتها القديمة ومنارتها وملكتها كليوباترا دون أن يغفل حاضرها وجولاته بين مقاهيها وحاناتها ومطاعمها وفنادقها فيما يكشف النقاب في مقدمة الكتاب عن أنه شرع سبع مرات من قبل للبدء في إنجاز كتابه عن كليوباترا لكنه كان يتوقف في كل مرة ، منوها بجهود امرأة اكتفى للاشارة لها بحرف "في" وشجعته كثيرا لاستكمال الكتاب. "في" اليسارية المتهكمة بمرارة عرفها بيتر ستوثارد منذ سنوات بعيدة وجمعتهما صداقة رغم اختلاف الأيديولوجيات والألوان السياسية وكأن هذا التسامح بين البشر يعيد للأذهان تسامح الأسكندرية ورحابتها الفكرية ومرح أهلها وإقبالهم على الحياة في الأيام الخوالي بمدينة كانت كوزموبوليتانية حقا وتعبر ثقافيا عن العالم ككل حتى في فنون العمارة. ويأتي هذا الكتاب الجديد الصادر في في الوقت الذي تتحدث فيه الصحف ووسائل الاعلام المصرية عن "آلام الأسكندرية وتدمير كنوز عروس البحر وهدم المباني التراثية" مثل "فيلا أجيون"، فيما "ساحة تمثال الأسكندر تحولت الى موقف للميكروباص بصورة عشوائية" و"نزيف الكنوز المعمارية للأسكندرية يتواصل". وفي تصريحات صحفية قالت الدكتورة عبير قاسم القائمة بأعمال رئيس قسم الآثار اليونانية والرومانية بكلية الآداب في جامعة دمنهور "لايجوز أن يتحول المكان العبقري الذي يقف فيه تمثال الأسكندر" عند بداية الشارع المؤدي لطريق الحرية إلى "موقف لسيارات الميكروباص بما تفرزه من ضجيج وازدحام وصخب لا يتناسب مع عبق التاريخ وجمال التمثال". وفيما دعت عبير قاسم للتدخل من أجل الحفاظ على هيبة التمثال والمنطقة الآثرية المحيطة وإنقاذها من التحول لمنطقة عشوائية يرى الآثري احمد عبد الفتاح أن "ما يحدث حول تمثال الأسكندر كارثة بكل المقاييس خاصة أن المكان يضم العديد من القطع الآثرية التي تحيط بالتمثال". والتمثال المصنوع من البرونز للأسكندر الأكبر ممتطيا جواده هدية قدمتها اليونان للأسكندرية عام 2000 وقد تبرع بثمن هذا العمل الفني الرائع بعض اليونانيين الذين كانوا يعيشون في الأسكندرية تعبيرا عن حبهم للمدينة التي احتضنتهم سنوات طويلة. وفيما لم يسلم تمثال "الأشرعة" الذي أهداه المثال فتحي محمود "لمحبوبته الأسكندرية" من عدوان عناصر متطرفة قامت في فترة سابقة بتشويه هذا العمل الفني وإلقاء الطلاء عليه اعتبرت تقارير صحفية مؤخرا أن مشهد البدء في هدم "فيلا أجيون" التراثية كان "مآساويا لأنه لم يكن الأول ولن يكون الأخير بشأن مذبحة الفيلات التراثية بمدينة الأسكندرية" ، معيدة للأذهان أن فيلا أجيون من تصميم المعماري الفرنسي اوجوست بيريه الذي ولد عام 1874 وقضي عام 1954. وإذا كان أوجوست بيريه يعد من ابرز المعماريين في العالم وقامت منظمة اليونسكو بادراج ابنية صممها في قائمة التراث العالمي لتصبح تراثا للانسانية جمعاء فإن الآثري احمد عبد الفتاح يحذر من ازالة "بيت داريل" نسبة للورانس داريل صاحب العمل الأدبي الشهير " رباعية الأسكندرية" او "فيلا امبرون" نسبة لمالكها الايطالي. وعلى الموقع الانترنتي "انقذوا الأسكندرية" شرعت مجموعة من الشباب السكندري المثقف في حملة لانقاذ "بيت داريل" وتحويله إلى مركز ثقافي فيما لم يكن الروائي البريطاني الراحل لورانس داريل وحده هو الذي عاش في هذا المبني حيث أقامت به شخصيات عالمية وتاريخية أخرى مثل ملك ايطاليا الراحل فيكتور عمانوئيل الثالث بل وبعض مشاهير الفنانين التشكيليين المصريين مثل سعد الخادم وعفت ناجي وجاذبية سري. وقالت أستاذة العمارة بجامعة الأسكندرية دينا طه إن "بيت داريل" إذا لم يتم إنقاذه "سيكون المبنى ال62 من المباني النادرة في الأسكندرية التي ازيلت خلال الأعوام الخمسة الأخيرة على أيدي مقاولين لايهتمون بالتراث مما يفقد المدينة تفردها المعماري". وولد لورانس جورج داريل الذي وصف "بعوليس العصر الحديث" عام 1912 وتوفى عام 1990 ومع إن إبداعاته تعددت كروائى وشاعر وكاتب لأدب الرحلات فان شهرته ذاعت بفضل رباعية الأسكندرية على وجه التحديد. فقد وضعته تلك الرباعية التى جاءت تحت أربع عناوين:"جوستين وبلتازار وماونت اوليف وكليا فى مصاف اقطاب وسادة الأدب الانجليزى الحديث مثل الايرلندى جيمس جويس صاحب "عوليس" التى توصف بأنها نقطة تحول فى تاريخ الرواية الحديثة أو اولئك الذين يكتبون بالانجليزية مثل الأمريكى هنرى ميللر صاحب مدار السرطان ومدار الجدى وربيع أسود والذى ارتبط بعلاقة وثيقة مع لورانس داريل. وفى خضم الاحتفاليات الثقافية الغربية عام 2012 بالمئوية الأولى لميلاده - صدرت طبعات جديدة من "رباعية الأسكندرية" سواء بالانجليزية فى بريطانيا او بالفرنسية فى باريس حيث احتفت دور نشر فرنسية متعددة بهذه الذكرى ليظهر عمله الروائى الكبير الذى ظهر اول مرة بالانجليزية والفرنسية فى نهاية الخمسينيات وبدايات الستينيات من القرن العشرين كما ترجم للعربية. ومن أشهر ترجمات رباعية الأسكندرية للعربية تلك الترجمة التى انجزها الكاتب والمترجم المصرى فخرى لبيب فيما يرى الناقد سام جورديسون بصحيفة الجارديان أنه يصعب العثور فى خمسينيات القرن العشرين على عمل روائى يناقش بكل هذه الرحابة قضية الحب وعلاقاتها المتشابكة بالسياسة والخيانة وأحوال القلب وتقلباته مثلما فعل لورانس داريل فى رباعيته. وبين الكتب التى نشرت حول لورانس داريل - كتاب بالفرنسية للوى فيتون بعنوان : "فى ظلال الشمس الاغريقية" وهو بمثابة سبر لأغوار المبدع الراحل وأمكنته المحببة وفى قلبها الاسكندرية الساحرة الفاتنة المثيرة للجدل. وإذا كان لورانس داريل المنحدر من أصل ايرلندى والذى ولد فى الهند قبل أن ينتقل فى طفولته لبريطانيا هو الكاتب والشاعر المهموم "بروح الأمكنة" فإن الاسكندرية كانت الحلم والمثال بقدر ماكانت انشودة حب وبحث يائس عن الخلاص فى عالم فظ. لاجدال أن اسكندرية لورانس داريل تختلف عن اسكندرية ادوار الخراط صاحب "ترابها زعفران" و"بنات اسكندرية" بكل الحروف النابضة بحب الأسكندرية كما تختلف عن اسكندرية ابراهيم عبد المجيد الذي اختتم ثلاثيته عن المدينة بروايته "الأسكندرية في غيمة" ووصل بها للقائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية . ابراهيم عبد المجيد صاحب "لا أحد ينام في الأسكندرية" التي بدأ بها ثلاثيته و "طيور العنبر" التى تدور أحداثها فى المدينة أثناء تأميم قناة السويس عام 1956 والمتيم بحب الأسكندرية يعترف بأنه وقع فى هوى "جوستين" كما كتبها لورانس داريل وهو فى منتصف الأربعينيات من عمره فيما يرى أنه "لا توجد اسكندرية واحدة" وإنما "عدة اسكندريات منها اسكندرية داريل". إنها "المدينة الرمز والمجاز ومعصرة الحب الكبيرة التى عاشت وتعايشت فيها كل الأجناس والأعراق والملل والنحل" ومهد شعراء خطوا اسماءهم فى تاريخ الشعر العالمى مثل كافافيس وجورج شحادة واونجاريتى. إنها الأسكندرية موطن الأحلام وموكب الأفراح وظلال الشجن ومشع الضياء وقناديل الأماني ودرب الرجاء وسيدة الكبرياء.. فكيف لها أن تكون وجع الذاكرة؟!!.