غنيت وأنا طفلة صغيرة، لا أعرف من أمور الدنيا إلا ما يعرفه الأطفال، غنيت وأنا لا أشعر بما أقول، ولا أحس بحلاوة النغم، ولا بهزة الطرب في قلبي، وكنت إذا صفق الناس عجبت، وسألت نفسي لماذا يصفقون؟ لقد غنيت « للقمة » لا « للنغمة » غنيت لأعيش، لا للفن ، وعندما كنت طفلة أغني في الأفراح ، كانت أمنيتي أن تحدث مشاجرة، لأتفرج وأستريح من عناء المغنى ، والليلة المتعبة عندي هي التي تمر بسلام ففي مثل تلك الليلة الهادئة كنت أضطر إلى أن أكرر القصيدتين الوحيدتين اللتين كانتا كل محصولي « الفني » في تلك الأيام ! كنت أصعد إلى المسرح لا يهمني شيء ولا أبالي بشيء ولا يخيفني شيء .. وأي شيء يخيف طفلة صغيرة لا تعي ما تفعل ولا تفهم كلمة واحدة مما تقول !!؟ وكبرت وبدأ حظي يكبر معي وبدأت أتذوق الفن ، عند ذلك أتهيب المسرح وأرهبه وأخشاه وأشعر كلما غنيت أني مقبلة على امتحان رهيب .. وان المستمعين هم أولئك الممتحنون الذين لا يرحمون ، ولا يتساهلون . وقد يحدث أحيانا أن اذهب إلى حفلة من الحفلات وانا على تمام الاستعداد لها مزاج رايق وصحة طيبة فلا اكاد افتح فمي للغناء حتى اتمنى لو انهم كل ما املك وعتقوني لوجه الله ولا أغني . وفي بعض الليالي قد تكون صحتي ليست على ما يرام ومزاجي لا يصلح للغناء وانما أذهب « لأداء واجب » ولجظات أغني وانا أحلم وتصبح القطعة الغنائية قطعة من قلبي ، فإذا قلت سافر حبيبي فأني اتخيل أن لي حبيبا وانه سافر وتركني وأسلمني للألم والعذاب ... وإذا انشدت غنى الربيع أحسست ان الدنيا كلها ربيعا يغني .. ثم أتلفت وابحث عن الحبيب الذي تخيلته فلا أجده وأشعر انه غاب عن قلبي الحائر . اقرأ أيضا| صالح سليم «غارق في دمائه» .. قصة فتوات الأهلي بمنطقة القلعة وفي بعض الليالي انتهي من غنائي وكأنني انتهي من حلم فيوقظني تصفيق الجمهور في نهاية المقطوعة فأحس بالرعدة في جسمي وأشعر شعور النائم حين يستيقظ بعد حلم رائع ويتمنى لو أنه لم يفتح عينيه وعاش إلى الأبد في ذلك الحلم الجميل . وهناك ليلة في عمري لا أنساها ليلة ان غنيت في النادي الأهلي وكانت ليلة العيد وأقبل الملك فاروق فجأة .. أحسست ان قلبي سعيدا وأن في قلبي موسيقى تعزف بأعذب الألحان وفي الوقت نفسه أحسست برهبة وخوف . ورحت أغني ولم أشعر بشيء بعد ذلك ، لم أعرف أني اجدت ولم أعرف أني فشلت. بعد ذلك بأيام كنت في محطة الإذاعة اسمع الشريط الذي سجلت عليه أغاني الحفلة ، فأغمضت عيني ورحت أسمع ولم أتمالك نفسي فوجدتني أصيح – الله ... يا أم كلثوم . مقال نشر في خمسينيات القرن الماضي لسيدة الغناء العربي أم كلثوم بجريدة الأخبار. المصدر : مركز معلومات أخبار اليوم