بلغ حجم الديون الخارجية على الحكومة المصرية أكثر من 46 مليار دولار أمريكى. وخدمة هذا الدين − أى سداد الفوائد عليه للدائنين بالدولار الأمريكى − تبتلع أكثر من ربع الموازنة المصرية، وكلما انخفض سعر الجنيه زاد العبء على موارد الدولة. أما الدين المحلى − أى ديون الحكومة بالجنيه المصرى − فقد وصلت إلى معدلات غير مسبوقة فى تاريخ مصر الحديثة؛ حيث وصل حجم هذا الدين إلى أكثر من 88% من الناتج المحلى الإجمالى فى الربع الأخير من العام المالى 2014−2015. وعلى البرلمان القادم مسئولية مراجعة الحكومة ومناقشتها قبل الموافقة على قروض جديدة وفقاً لأحكام الدستور. وللأسف الشديد فإن إخفاق الحكومات المتعاقبة فى الحد من العجز، وتشجيع الاستثمار الأجنبى، واستمرار زيادة العجز فى ميزان المدفوعات، والميزان التجارى؛ لا يجعل هناك بديلاً أمام الحكومة والبرلمان − لكى نكون واقعيين وبعيداً عن المهاترات − إلا زيادة الديون للعام المالى القادم. وأحذر من الآن بأن استمرار سياسة الاعتماد على الديون دون تحسين الاقتصاد القومى والقيام بعملية إصلاح حقيقية؛ ينذر بمخاطر جمة، فنحن لم نفعل منذ سنوات سوى تأجيل اتخاذ القرارات الحاسمة − المتعلقة بدعم المواد البترولية، ومعالجة سعر الصرف، ومواجهة مشاكل الصناعة، والإصلاح المؤسسى −من عام إلى عام، حتى صارت المشكلة أزمة. وصار أمام البرلمان فى أول اختبار له أحد خيارين كلاهما مُرٌ بشأن معالجة الدين الحكومى للعام المالى القادم. هذان الخياران تضعهما أمام أعيننا بشكل واضح دراسة موجزة صادرة عن المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، وهو مركز غير حكومى للأبحاث الاقتصادية يُعدّ الأهم فى مصر، وللأسف فإن الهيئات الحكومية لا تستفيد من دراساته القيّمة على النحو الواجب. أما الخيار الأول فهو أن تستمر الحكومة المصرية فى الاعتماد على الدين المحلى. ويعيب هذا الخيار وفقاً للدراسة المشار إليها أمور ثلاثة لا يخلو كل منها من المخاطر، فالاستمرار فى التوسع فى الاقتراض الحكومى بالجنيه من خلال إصدار السندات الحكومية وأذون الخزانة؛ يؤدى إلى مزاحمة الحكومة للقطاع الخاص فى الحصول على الائتمان المتاح. فالبنوك التجارية الخاصة والعامة على حد سواء تفضل إقراض الحكومة من خلال شراء أذون الخزانة، حيث إن عمليات الشراء لهذه الأذون ربحيتها أعلى من الإقراض للقطاع الخاص، ومخاطرها التجارية أقل، ولا شك أقل عناءً من الناحيتين الفنية والإدارية. ولا شك أن ذلك الاتجاه على مدار الأعوام الماضية أثر سلباً على عمليات الإقراض للقطاع الخاص وخاصة القطاع الصناعي، فأغلقت كثير من المصانع، وتقلصت عمليات بناء مصانع جديدة. فاستمرار الاقتراض الحكومى من البنوك − شئنا أم أبينا − سيؤثر سلباً على نمو القطاع الخاص والاستثمار الخاص، ومن ثَمّ سيؤثر على النمو الاقتصادى سلباً، وسيساهم فى ارتفاع معدل البطالة. كما أن ارتفاع معدلات الدين المحلى على الحكومة من شأنها زيادة معدلات التضخم وارتفاع الأسعار، ومن ثم تراجع الثقة لدى المستثمرين، والتأثير سلباً على معدلات النمو الاقتصادي، فكلما انخفض الاستثمار انخفض معدل نمو الاقتصاد، وانخفضت فرص تشغيل العمالة، وارتفعت البطالة، وانخفضت صادراتنا وزادت وارداتنا، وزادت آلامنا الاقتصادية والاجتماعية. وأخيراً... فإن زيادة الدين المحلى فى ظل سياسات البنك المركزى نحو رفع سعر الفائدة؛ يعنى اضطرار الحكومة إلى سداد عوائد مرتفعة على ديونها، وهو ما يعنى زيادة أعباء خدمة الدين الحكومى، وزيادة العجز فى الموازنة، وتقليل الاستثمار فى القطاعات الصحية والتعليم. أما الخيار الثاني؛ فهو أن تقرر الحكومة التوسع فى الاستدانة بالعملات الأجنبية. ويبلغ حجم الدين الخارجى حالياً 15% من الناتج المحلى الإجمالى. ويعيب هذا الخيار أن تكلفة الديّن تعد أكثر حساسية لسعر الصرف؛ فزيادة سعر الدولار بنسبة 12% مثلاً − أى من ثمانية جنيهات إلى تسعة جنيهات تقريباً − فإن هذا يعنى ارتفاع تكلفة خدمة الدين بنسبة 12%. فانخفاض سعر الجنيه يؤدى إلى ارتفاع تكلفة خدمة الدين، واستهلاك موارد الدولة. ولكن يتميز هذا الخيار عن الخيار الأول بأمرين؛أولهما: أن محفظة الدين العام ستكون أكثر توازناً، كما أن توفير الدولار سيؤدى إلى الحد من الضغوط القصيرة التى يتعرض لها الجنيه. وثانيهما: أن توفير الدولار قد يساعد البنك المركزى فى تبنى سياسات نقدية أكثر توازناً تساعد على عدم انهيار الجنيه وتلبية احتياجات الصناعة المحلية لاستيراد مستلزمات الإنتاج، ومن ثم العمل على تلافى انهيار الصناعة المصرية. أضع هذين الخيارين التى انتهت إليهما الدراسة أمام مشرعينا من أعضاء البرلمان لكى يعلموا من الآن أن المسئولية جسيمة... لابد من دراسة هذين الخيارين بعناية والاستماع إلى المتخصصين بجدية، وتأمل كافة الآثار بعناية... أمام البرلمانيين الجدد تحديات كثيرة، وعليهم مناقشة خطط الحكومة التفصيلية فى كيفية الحد من الاعتماد على الاستمرار فى الإستدانة سواء كانت خارجية أو داخلية... يجب على نواب الشعب إعادة النظر فى قوانين الاستثمار وسياسات الاستثمار، وأولويات الإصلاح، لكى تكون مصر فعلاً قادرة على تحقيق التنمية الشاملة، والحد من الاستدانة. سيعجز نواب الشعب عن تحقيق طموحات أبنائه فى تحقيق العدالة الاجتماعية دون إصلاح اقتصادى حقيقى.