أبشروا فوالله لأنتم أشد حبا لرسول الله.. ولم تروه من عامة من رأه بهذه الكلمات بدأ الصحابى عبدالرحمن بن صخر الدوسى "أبوهريرة" كلماته لأهل مصر، التى جاءها زائرا، فمقيما لفترة بدعوة من والى مصر الصحابى أيضا مسلمة بن مخلد "47 62ه" وذلك فى خلافة معاوية بن أبى سفيان "41 60 ه" وقد مات أبوهريرة عام 58ه عن عمر يناهز 78سنة.. وقد جاءت معه إلى مصر كعادتها فى سياحة الأمصار فى الدولة الإسلامية، يرددان ما سمعاه من أحاديث رسول الله، زوجته أم هريرة، وهى كنية لانتسابها لزوجها الذى سمى بهذا الاسم وهو صبى "قبل إسلامه" عندما كان يرعى الإبل فوجد أبناء هرة برية، فأخذ أحدها فى كمه، فسماه والده أبوهريرة "تصغير هرة" وعندما أسلم غير له النبى اسمه الأصلى من عبد شمس إلى عبدالرحمن، لكنه حافظ على نداءه بلقبه أبوهريرة، كما اشتهر طوال عمره بعطفه على القطط. زوجته هى "بسرة بنت غزوان"، وهى من قبيلة دوس من الأزد، وكانت سيدة من أغنياء قومها، وكان أبوهريرة قبل إسلامه يعمل عندها مقابل طعامه هو ووالدته.. فقد توفى والده وهو صغير، فأصبح مبكرا مسئولا عن نفسه وأمه.. ثم أعتقته أو تحرر منها وأسلم وأسلمت أيضا بسرة، وأصبحت صحابيته معروفة، وجمع بينهما الإسلام وصحبة الرسول فتزوجا.. وكان ذلك من مفاخره طوال عمره.. فقد أعزه الله والإسلام فتزوج من سيدته السابقة، دون حساسية. أسلم أبوهريرة عام 7ه ووصل المدينة والرسول غائب عنها فى غزوة "خيبر" فدخل المسجد يصلى خلف الصحابى سباع بن عزلمة وأعلن إسلامه. فى ليلة لقائه برسول الله ضل منه غلام له "عبد"، ووقع خطأ فى يد المسلمين وفى بداية اللقاء.. سأله الرسول: أهذا غلامك؟ فرد أبوهريرة على الفور: هو حر لوجه الله. منذ البداية ظهر لأبى هريرة هدفه فى الحياة.. هو أن يبقى بجوار الرسول يحفظ عنه كل سكناته، يلازمه فى السفر والحضر والغزوات والصلاة.. لا يشغله إلا ما يملأ بطنه فقط ويسد جوعه.. متشبعا بما يسمع ويرى، عازفا عما قاله من أن المهاجرين انشغلوا بأمورهم فى الأسواق، والأنصار انشغلوا فى استثمار أموالهم، أما هو فملازم للنبى فى آخر 3سنوات من حياة النبى.. وكأن أبوهريرة يعرف قيمة الوقت فى هذا الأمر. امتثل بالحب وللحب فى عدة أوجه، أولها: رفضت أمه "أميمة" الدخول إلى الإسلام فطلب من النبى أن يدعو لها بالهداية، فدعا فذهب أبوهريرة لها ليجدها تنطق الشهادتين أمامه، فجاء للنبى باكيا.. ليطلب من النبى أن يدعو له ولأمه بحب الناس.. فكان دائما يردد أن أى من المسلمين يسمع بى يحبنى وإن لم يران. ثانيها: عندما جلس الصحابة يوما مع النبى وقالوا ما معناه أنهم أكثر المسلمين حبا للنبى، فهم الأوائل للإسلام.. فقال النبى ما معناه أن الأكثر حبا لى مسلمين لم يرونى ولم يعايشونى ويؤمنون بالدعوة ويحبونى مع فارق الأزمنة، وقد صدق. أما حب النبى لأهل مصر فهو كثير، فهم أهل ذمة ونسب، مع السيدة مارية القبطية زوجته المصرية، وهم أخوال ابنه منها "إبراهيم"، والذى أقسم النبى بعد وفاة الابن أنه إبراهيم لو عاش لأسقط النبى الجزية عن كل القبط "أهل مصر" وها هو معاوية بن أبى سفيان "41 60 ه" يسقط الجزية عن قرية "أنسطا" فى المنيا إكراما للسيدة مارية زوج الرسول، ولو بعد ربع قرن من الفتح الإسلامى لمصر. عرف أبوهريرة منذ البدء أهمية دوره، فاشتكى للنبى بأنه يسمع الحديث من الرسول فينساه، فقال له النبى: أبسط ثوبك، فبسطه، فحدثه النبى ثم قال له أضمم ثوبك إليك.. فقال أبوهريرة بعد ذلك.. بعدها ما نسيت شيئا مما حدثنى به رسول الله بعد ذلك أبداً، وقد عاش بعد الرسول 48 عاما كاملة "قرابة نصف قرن ". وقد وصفه أحد الصحابة بأنه كان لا يكتم ما سمعه من رسول الله، لكنه كان لا يكتب، فقد كانت ملكة الحفظ لديه طاغية. ولعل مسار حياته، يكشف وعيه بدوره وعدم الخروج عنه، فقد دعاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "13 23 ه" للعمل، أى أن يتولى أمر قيادى فى الدولة، فرفض أبوهريرة.. فدوره هو ترديد أحاديث الرسول وتحفيظها للأجيال، للإبقاء على تراث النبى وسُنته وتعاليمه لكنه لم يقبل إلا دور العمل على صدقات المسلمين فى البحرين فقط. عاتبه ابن الخطاب كثيرا لإكثاره فى الحديث عن رسول الله، فرد عليه وعلى السيدة عائشة زوج الرسول ردا حاسما.. فقد قال لهم حديث للرسول.. من كذب عنى فليتبوأ مقعده فى النار، ثم قال إنى لا أقول إلا نصف ما سمعت وشاهدت وأأتمنى عليه الرسول، فلو قلت كل ما أعرف لقتلتمونى. ومات دون أن يفصح عن الذى احتفظ به لنفسه عن الرسول.. ورأى أن المسلمين قد لا يحتملون سماعه. فى فتنة عثمان "35ه" وقف يدافع عن بيت خليفة المسلمين، لكن الثائرين تسلقوا للبيت من منزل مجاوره، وقتلوا عثمان ولم يراهم أبو هريرة إلا وهم خارجين يرددوا قتلنا عثمان. بايع على بن أبى طالب علي الخلافة، لكنه لم يشارك فى أى قتال ضد المسلمين بعضهم البعض، فلم يقف مع على ولا مع معاوية فى أمر القتال. عندما استقر الأمر لمعاوية فى الخلافة بعد مقتل على "40ه" وتنازل الحسن "41ه" عين معاوية ابن عمه مروان بن الحكم واليا علي المدينة، وكان بينه وبين أبوهريرة جفوة فأخذ مروان يضيق الخناق عليه فى جلساته لرواية الحديث، بل ويسعى لإحراجه مكررا ما فعله معاوية مع أبى ذر الغفارى فقد أرسل له ألف دينار كهدية فى وقت متأخر من الليل، وفى الصباح أرسل له من يقول حدث خطأ ويجب إعادة المبلغ فوجده قد صرفه لوجه الله.. وكان يقصد إحراجه بأن يجد فى الصباح عنده المال، فيقول للناس إن أبوهريرة يكنز الأموال.. لكن أبوهريرة وكذا أبوذر.. كانا أزهد الناس، فقد وزعاه لوجه الله ولو فى جوف الليل. أخذ أبوهريرة وزوجته يتنقلان من بلدة إلى أخرى فى الدولة الإسلامية مبتعدا عن مضايقات مروان بن الحكم، ومنها قبوله دعوة والى مصر مسلمة بن مخلد "47 62 ه" بأن يزور مصر ويقيم بها إن أراد، لكنه أقام فترة وخرج منها لمنطقة ويقال سافر إلى قبرص وكان قد غزاها معاوية عام 27 ه ثم عقبة بن عامر عام 47 ه مرة أخرى. وتنتهى حياة عريف أهل الصفوة، وهم فقراء المسلمين وكهولهم، الذين كانوا يصطفون فى مسجد النبى، فى آخر الصفوف، حتى يعرف المسلمين بمكانهم، فيحسنون إليهم دون أن يبحثوا عنه أو يضطر أى من أهل الصفوة لسؤال الناس.. وكان النبى وأصحابه يطعمونهم كل ليلة.. وقد أعزه الإسلام بالحرية، وحفظ أحاديث رسول الله، وحب المسلمين له استجابة لدعوة النبى له، و ينتقل هذا الحب معه إلى كل مكان ذهب فيه، وإلى أى زمان حتي الآن وإلى قيام الساعة حيث يذكر حديث لرسول الله رواه أبوهريرة.. وقد بادله المصريون حبا بحب، وكانوا أشد محبة لرسول الله، رغم أنهم لم يروه ولم يعايشوه، لكنهم يؤمنون بدعوته ويحبونهم وأهله وصحبه على مر الأزمان، وحتى قيام الساعة. مات أبوهريرة فى 58ه ولم يحدد موقع دفنه.