غربت الشمس ومضت ساعات الليل بطيئة !! وصلت راقصة مصرالحسناء الي العوامة الشهيرة .. اقترب منها شخص لا تعرفه.. نظر اليها طويلا فلم تعره اهتماما.. مضت خطوتين.. لكن هذا الشخص تتبعها وجذبها من كتفها بهدوء.. ودون أن يلحظه أحد عرفها بنفسه.. "النقيب محمد ابراهيم امام" ثم طلب منها أن تخرج معه بسرعة حتى لا تتعرض للبهدلة! .. داخل السيارة دارت الدنيا بأكبر وأشهر وأجمل راقصة فى مصر.. تملكتها حيرة بالغة. وبادرت الضابط بسؤال هامس: على فين يا حضرة الضابط؟! - مهمة رسمية! لكن أنا رقاصة! - صدقينى .. المهمة ملائمة لحضرتك! طب ممكن أسال.. هقابل مين وفين؟! - أولا هتقابلك أم صالح.. وثانيا احنا قربنا من المكان! امتزجت حيرة الراقصة بالخوف فملامح الضابط لا تطمئن.. وصوته يحمل بين نبراته شماتة واضحة.. وكل أسلحتها لا تعنيه فى شىء..لا عطرها الفواح ذو الجاذبية الخاصة, ولا أنوثتها التى صرعت كبار المسئولين من قبل, ولا دائرة علاقاتها ونفوذها التى اشتهرت بها وكانت مصدرا للرعب حينما تستخدمها! .. ثم من تكون أم صالح تلك التى ستكون باسستقبالها ؟؟.. وصلت السيارة الى شارع مظلم بحى الزيتون.. نزل الضابط ومد يده الى حكمت فهمى لتنزل خلفه.. وبسرعة أدركت الراقصة الشهيرة أنها امام باب المعتقل!.. لم تنطق بكلمة.. مشت خلف الضابط حتى ظهرت سيدة بدينة.. طويلة القامة.. حادة النظرات.. قال لها الضابط: استلمى الأمانة لغاية ما أعمل الاجراءات فى الادارة! ابتلعت حكمت فهمى ريقها الجاف وهى تنظر الى السيدة البدينة وتتأمل ملامحها ثم تسألها بنبرات حزينة: احنا فين؟! - ده يبقى سجن الأجانب يا حبيبتى.. نورتى المكان.. وانا اسمى أم صالح, حضرت لك الأوضة وغيرت لك الميه! الجو قائظ الحرارة داخل الحجرة رقم (6) داخل سجن الأجانب.. الرطوبة عالية.. الراقصة المعروفة تكاد تختنق.. والليلة تبدو طويلة, وصعبة, ومريرة, لكن دموع حكمت فهمى تعاندها.. ربما لأنها فى تلك اللحظة أدركت حجم الخطأ الذى ارتكبته حينما وقعت فى غرام شاب المانى من أصل مصرى.. أحبته بجنون.. خطفته من كل المعجبات به سواء فى المانيا أو مصر, فالشاب كان فارس أحلام كل امرأة تقع فى طريقه أو ترتمى بين ذراعية!.. أدركت الراقصة التى أحبها كل الرجال وكبار شخصيات الدولة أن هذا المصير كان يجب أن تتوقعه منذ اللحظة الأولى التى ارتابت فيها من تصرفات هذا "الحبيب" الذى كان يمتلك مقومات الرجل "الساحر" الذى لا تعرف أسراره غير النساء!. كانت ضعيفة أمام كل طلباته وتصرفاته الغريبة وجهاز اللاسلكى الذى اكتشفته معه ذات ليلة!.. أعماها حبها الكبير وعشقها المريض لهذا الشاب عن حقيقته وتجسسه لصالح الألمان ضد الانجليز الذين يحتلون مصر ويحاربون الألمان. ربما كان انتماؤها لهذا الرجل اكبر من انتمائها لأى شىء اخر.. ربما جعلتها قبلاته خاتما فى اصبعه فتصرفت معه كامرأة مسلوبة الارادة! لم تنم حكمت فهمى ليلتها الأولى .. ولا الثانية.. ولا الثالثة.. لم يطمئنها أن شخصيات كبيرة نزلت بنفس السجن وفى الغرف المجاورة لغرفتها, الضابط أنور السادات والمطربة المعروفة أسمهان, والقائد المصرى عزيز باشا المصرى.. الجميع ومعهم الصحفى الكبير جلال الدين الحمامصى متهمون بالتجسس لصالح الألمان, بينما الحمامصى جريمته الوحيدة أنه صحفى وطنى ويكرة الاحتلال!.. كل هذه الاسماء لم تطمئن حكمت فهمى فهى لم تعشق فى حياتها سوى الرقص والشهرة والمال.. ولم تدخل زنزانة قط لا كسجينة ولا حتى زائرة, فهى تكرة القيود والسياسة والنكد.. ولولا أن هذا الشاب كان الوحيد الذى فتحت له أبواب قلبها لكانت مازالت تتلألأ فى ليل القاهرة مثلما تعود عليها الجمهور الغفير الذى كان يزحف خلفها حيثما ذهبت!.. ظنت أنهم قد يسرعوا بالافراج عنها فهى ليست خائنه مع سبق الاصرار والترصد, لكنها عاشقة تورطت فى غرام شاب يكرة الانجليز ويعمل جاسوسا للألمان!.. تمنت لو تذكروا لها تارخها الحافل فهى أول راقصة تحصل على لقب "مس ايجيبت" وأول راقصة يطلقون عليها "سلطانة الغرام", وكان الشاعر الكبير احمد رامى هو الذى أطلق عليها هذا اللقب فى أحد دواوينه !! و كانت ايضا أول راقصة تبهر عواصم العالم وزعمائه.. رقصت أمام هتلر وتشرشل وملك اليونان والرئيس الأمريكى روزفلت وغيرهم من ملوك ورؤساء الدول! وبدأ الندم يعتصر قلب حكمت فهمى كلما مضى شهر بعد شهر دون الأفراج عنها.. أخيرا بكت بحرقة وهى التى كانت صورها تملأ صفحات الجرائد والمجلات, وهى تضحك وتشيع البهجة حولها. انهمرت دموعها وهى تجتر شريط ذكرياتها ورحلة الشهرة التى وصلت اليها بعد مشوار عصيب.. بدأت ممثلة صغيرة وانتهت راقصة تتقاضى أعلى اجر فى العالم العربى, تملك عوامة على النيل وفيلا فى الدقى ورصيد ضخم فى البنوك.. لكن ها هى تعانى مرارة السجن.. ربما كان ما يحدث لها هو ذنب زوجها الشاب الملازم أول طيار بالسلاح الجوى الملكى المصرى.. كان يحبها كما لم يحب رجل امرأة من قبل, الا أنها قست عليه بشدة حتى انفصلت عنه بعد زواج لم يدم غير عام واحد!.. ربما كان غضب الله بعد أن ابتعدت عن زيارة كنيسة سانت تريزة بشبرا التى كانت تتبرك بها وانشغلت بالشهرة والمجد والحب!.. ربما ارتكبت فى حياتها ما تستحق عليه هذا العذاب المهين داخل السجن.. ولا حل أمامها سوى الدموع.. كانت دموعها تريحها بعض الوقت! لكن صحتها كانت تسوء بعد أن اضربت عن الطعام ونقلت الى مستشفى الدمرداش ثم الى سجن النساء بالمنصورة ! كانت مهددة بالقتل داخل السجن خوفا من أن تكشف ما تعرفه من أسرار , لكنها كانت أحرص ما تكون على ألا تبوح بسر يؤذى واحد ممن تعرفهم ! أفرجوا عنها بعد عامين ونصف العام! خرجت من السجن فلم تجد من ثروتها غير القليل بعد أن باعت العوامة والفيلا.. تخلى عنها أصدقاؤها.. غدر بها الجميع, لكن حلم المجد والشهرة لم يفارقها.. أرادت أن تسترد عرشها بفيلم كبير وضخم.. رصدت له كل ما تملك وتبقى فى حسابها.. لكن الفيلم فشل بجدارة وأنهى أسطورتها وشطب تاريخها.. عادت للرقص فانصرفت عنها الجماهير.. لم تصدق نفسها فراحت تتردد على الملاهى الليلية حيث كان الرجال يركعون على قدميها فتجاهلها الجميع.. أسرفت فى الخمور والسكر والجلوس فوق مقاعد البارات فلم تلفت انتباه أحد.. عادت الى فساتينها العارية واقتحمت الليل فلم تجد عيون المعجبين تتلصص على جمالها! ضاعت ثروتها.. وهجرها البريق.. وأبلغها أصحاب الملاهى أنها لم تعد مرغوبة لدى الجماهير!.. ومرت بها السنوات وهى تفكر بعمق كيف تواجه حكم الزمن فلم تجد أمامها سوى طريق واحد.!! أقلعت عن تعاطى الخمور ورضيت بالفقر واحتمت بالكنيسة.. ذهبت فى نهاية عمرها الى كنيسة سانت تريزة بشبرا.. سألت عن القس "يوحنا" فعلمت أنه مات.. صدمتها المفاجأة.!!. لكن ترسخ فى أعماقها درس النهاية, فالدنيا لا أمان لها.. ولا دوام الا لله.. قررت أن يكون معظم وقتها داخل الكنيسة.. تضىء الشموع.. تطلب المغفرة.. وتبكى..ظلت سنوات وسنوات على هذا الحال .. رواد الكنيسة لم يعد احد منهم يعرف سر المرأة الباكية المحتمية بالكنيسة ,, لا أحد منهم يعرف ان التى تشعل الشموع داخل الكنيسة وتطلب الغفران ليل نهار كانت اجمل وأشهر فنانات مصر قبل أن تغدر بها الأيام .. سلطانة الغرام ألقت بالماضى خلف ظهرها ورضيت بالنهاية , خادمة كنيسة شبرا الشهيرة .. لكن يظهر فجأة شاب فى السنة النهائية بكلية الهندسة تربطه بالنجمة البائسة علاقة دم وقرابة ,, ويقرر هذا الشاب أن يساعد قريبته دون أن يكشف شخصيته لأحد فيتولى سرا احضار الطعام والدواء لها حتى ماتت دون أن تنشر عنها الصحف كلمة واحدة!.. وبعد تشييع جنازتها يختفى المهندس الشاب .. كل ما احتفظ به هذا الشاب كان مجموعة من الصور التى التقطها المصور الكبير احمد عبد العزيز بالصدفة بعد ان علم بوجود النجمة الكبيرة السابقة بين جدران الكنيسة وظلت ترجوه ألا ينشرها الا باذن منها !!! ..المهندس الشاب نقل الصور الى بيته ومعها بعض أوراق كانت حكمت قد بدأت تكتب فيها مذكراتها قبل ان يفاجأها الموت!! .. وكانت هى نفسها قد طلبت من مصور الأخبار الكبير احمد عبد العزيز أن يلتقطها لها بعد ان صورها داخل الكنيسة .. وكانت تطمع فى نشرها مع مذكراتها !!... قبل سنوات التقيت بهذا المهندس الذى صار عجوزا وقد أحيل للتقاعد بعد أن ترأس مجلس ادارة شركة كبرى .. وسألته بعد حديث طويل عن قريبته نجمة مصر الكبيرة التى عاشت ملكة فوق القمة ثم هزمتها الأيام ! ..واذا به يرد وهو يتنهد ويسند رأسه الى يديه : ** .. لم يبق منها سوى صورة فوق جدران حجرتى ,, احيانا يسألنى عنها ضيوفى فأسترسل فى الحديث عنها ,, وأحيانا لا تلفت انتباه أحد !!!