قال له اصدقاؤه: لا تقلق.. إنه الدلال .. عنياها تنطقان بحبك وتفضحان مشاعرها ! وقالت لها صديقاتها : انت مجنونة .. قد تجدين المال والجاه والرجل الذي يضعك فوق رأسه .. لكنك لن تجدين رجلا مثل عادل يمنحك حق الإقامة مدى الحياة فى قلب قلبه ! وحذرتها أمها من أن يتسرب الخبر إلى أبيها ، فهو لا يعرف الهزار ولا الأعذار ولا المبررات ، ولو همسوا فى أذنيه بعلاقة ابنته بعادل فقد يقسم بألا تذهب إلى الجامعة أو ترى الشارع من باب البيت ، وهو حينما يقسم فلا رد لقسمه ! .. وكادت نبيلة ترسب للعام الثانى على التوالى فى كليتها بعد أن شل تفكيرها، شبح أبيها من أمامها وطيف عادل من خلفها ، قلبها يشجعها وعقلها يحذرها ، قررت أن تواجه الموقف بشجاعة وأن تصارح عادل بالحقيقة التى ظلت تهرب منها .. ذهبت لمقابلته فى نفس المكان ونفس الموعد .. كتمت دموعها لتخفى ضعفها.. تماسكت وتمنت أن يتماسك عادل فى أصعب لحظة تمر بحياتها وحياته معا!.. جلست امامه حائرة النظرات .. ودق قلبه بعنف!! مالك يانبيلة..؟! ارجو أن تقدر موقفى ياعادل .. صمتت وتنهدت بحرقة وتوالت توسلات عادل ورجاؤه أن تتكلم وترحم قلبه الذي سقط فى قدميه .. تشجعت نبيلة وراحت تشرح لعادل أن حبهما محكوم عليه بالإعدام ، ليس لأنه فقير مثلها، ولا بسبب خلافات قديمة بين أسرتها وأسرته فقد تصالحوا وعادوا لسيرتهم الأولى.. وانما المشكلة التى لا حل لها أن والد عادل يمتلك مطعما للفول والطعمية !! بينما والدها يعيش دورا تخيل فيه انه من كبار المسئولين فى وزارة العدل ، رغم أنه يشغل وظيفة مدير إدارة الارشيف، ربما كان الناس هم السبب الذى جعله يزهو بنفسه حينما اطلقوا عليه فى الحى الشعبى الذى يسكنه لقب(( المستشار)) ، كانوا يطاردونه بالخدمات ويرجونه كروت التوصية ويعتمدون على علاقاته فى حل مشكلاتهم ، فهو وثيق الصلة بكبار المستشارين والقضاة ووكلاء النيابة !.. بينما يقف والد عادل بجلبابه الشهير خلف الزيت المغلى يقلب أقراص الطعمية ومن حوله العشرات من أبناء الحي يرفعون القراطيس الخالية وينتظرون دورهم فى الطابور وينادونه بعم عبده ! كانت نبيلة فى غاية اللباقة وهى تشرح الموقف لعادل وتحاول ترضيته بالهجوم على والدها وانتقاده بحدة، بينما تعلن عن احترامها وتقديرها لوالده المكافح الذى أنجب أذكى شاب فى الحى ووقف خلفه حتى وصل إلى بكالوريوس الهندسة، وصار فتى أحلام كل فتاة بوسامته وأناقته ورقته والمستقبل الذى ينتظره! .. لكن يالها من لحظة.. كلمات نبيلة كانت اشبه بما يقوله الناس فى سرادقات العزاء لأسرة المتوفى .. كتمت دموعها عنه .. لكنها كانت حريصة ألا ينتهى اللقاء وينصرف عادل بما أصابه من حزن ونكد ويأس واكتئاب ! ، حاولت أن تخفف عنه، سألته عن قطعة الشيكولاته التى يهديها إليها فى كل لقاء.. مد يده فى جيبه واخرج الشيكولاته ومسح دموعه بيده الأخرى ، ثم نهض واقفا واستأذن نبيلة فى مغادرة المكان !! عاد إلى بيته مهزوما، مقهورا ، وقد اسودت الدنيا فى عينيه ، دخل حجرته أغلقها عليه ووقعت عيناه على صورة نبيلة على يمين مكتبه ثم أجهش ببكاء طويل.. لم يشعر برحيل امه عندما كان تلميذا بالإعدادي، وقتها تلقفته نبيلة بحنانها وحفظته فى عينيها وعوضته عن غياب ست الحبايب.. لكن هاهى نبيلة ترحل هى الأخرى ليشعر بمرارة اليتم مرتين ! جن جنون الأب أمام الإكتئاب الذى أصاب ابنه الوحيد ولا يعرف له سببا .. استدعى الأب كبار الأطباء لابنه دون جدوى .. وذات صباح لمح الأب صورة نبيلة على يمين مكتب عادل فأدرك الأب لأول مرة أن فى حياة ابنه الوحيد امرأة .. قرر أن يذهب اليها ، لكن عادل بكى بحرقه وامسك بقدمى والده يرجوه ويتوسل اليه ألا يزيد من آلامه وجراحه .. ولم يهدأ الأب إلا بعد أن وعده عادل بالعودة إلى الجامعة وأن يثبت له أنه انجب رجلاً لا تحطمه النساء! اختفت نبيلة عن الأنظار.. ظن عادل أنها تنفذ تعليمات أبيها .. أخفى الجيران عنه خبر الرجل الذى هبط فجأة على أسرة نبيلة وطلب يدها دون أن يكلف اسرتها مليما واحدا!.. إنه طيار بالسلاح الجوى لإحدى الدول الغنية وسوف يعبر بنبيلة وأسرتها إلى الصفوف الأولى فى عالم الثراء!.. تزوجت نبيلة وسافرت مع عريسها ليلة زفافها التى دبر فيها أصدقاء عادل خطة محكمة ليسافر معهم إلى الإسكندرية ليرفه عن نفسه قبل بدء امتحانات بكالوريوس الهندسة بثلاثة اسابيع ! نجح عادل بتقدير ممتاز ، وفى نفس يوم اعلان النتيجة تسرب اليه خبر زواج نبيلة ، تحامل على نفسه وراح يفكر بجدية فى عرض مذهل عرضه عليه شقيق أحد اصدقائه ، عقد مغرللسفر إلي اوربا ، خاصة وانه معاف من التجنيد وسوف يستقبله فى لندن عدد كبير من أقارب صديقه! اعترض أبوه بشدة .. ظل يرجوه ألا يتركه وحيدا .. لكن مصر كانت قد اصبحت كسجن كبير يعيش عادل بين جدرانه بعد أن تركته نبيلة هى وأسرتها!. . سافر عادل ومرت سنوات لم يزر فيها مصر إلا مرة واحدة ، جاء فيها محطما ليحضر جنازة والده ويغلق البيت والمطعم ثم يعود من حيث أتى ! كانت نبيلة تتابع اخبار عادل بدقة متناهية من خلال رسائل ومكالمات إحدى جاراتها كانت على علم بكل التفاصيل وهى تقيم فى الدولة الخليجية التى تعيش فيها مع زوجها كأميرة من أميرات ألف ليلة وليلة !.. لكن جاء وقت ملأ فيه الغموض أخبار عادل بعد أن انجز كل اجراءات الهجرة وانتقل من أوربا إلى كندا ، وقال آخرون استراليا !!..وبعد سنوات قالوا : هو فى أمريكا وقد صار من أبرز الشخصيات المصرية ! وتأتى الرياح بمالا تشتهى السفن .. ففى الوقت الذى حصلت فيه نبيلة على الطلاق وعرفت فيه عنوان عادل قرأت فى الصحف خبر العثور على جثة عادل داخل شقته فى نيويورك .. الجريمة لم يفسرها الخبر .. شهود قالوا أن أمرأة أحبته ولم يتزوجها فقتلته ! .. وآخرون قالوا أنه تشاجر مع شاب زنجى ليلة الحادث .. والتحريات قالت أن السبب لازال مجهولا! اهتزت نبيلة بعنف .. لكنها تماسكت .. كانت تعرف أن عادل ليس له أقارب .. سافرت على أول طائرة إلى أمريكا .. وبصعوبة بالغة أنهت اجراءات استلام الجثة وعادت بها إلى مصر ودموعها تلهب خديها كجمرات نار انزلقت من الجحيم !! وبمشاركة أهل الحى وأصدقاء عادل القدامى كانت الجنازة المهيبة التى انتهت الى مقابر أسرة نبيلة ! مفاجأة أخرى كانت فى انتظار نبيلة .. صاحب المنزل الذى كان يسكنه عادل أيام حبهما راح يعرض البيت للبيع .. اسرعت نبيلة التى عادت بعد طلاقها مليونيرة يشار إليها بالبنان وطلبت شراء المنزل بعد أن تعاينه .. دخلت بيت عادل وقلبها يرتجف! .. فتحت حجرته ودموعها تسبقها.. ها هو سريره .. ومكتبه ..ودولابه الصغير.. وصورتها على يمين المكتب..! ها هى أوراقه وفرشاة شعره وزجاجه بها بقايا عطركانت أهدتها له !.. كل شئ فى مكانه كما يحكى عادل لها .. وكما تركه وسافر !.. جلست نبيلة على حافة السرير وقد غرق وجهها الجميل فى بحر من الدموع ! ..لحظات وخرجت الى صاحب البيت تعلن أنها اشترته بالثمن الذى طلبه مع الأرض الفضاء الملحقة به !! صباح اليوم التالى استدعت نبيلة كبار المهندسين والمقاولين وطلبت منهم ترميم المنزل والحفاظ على طابعه مع انشاء حديقة رائعة فوق الأرض الفضاء .. وبعد أن أخلت المنزل مع تعويض مغر لسكانه قامت بإغلاق شقة عادل واحتفظت بالمفتاح وحذرت المهندسين والمقاولين والجميع من الاقتراب من هذه الشقة التى ستزورها وحدها بين حين وآخر ! بدأ العمل على قدم وساق طبقا لما طلبته نبيلة .. البيت كله يتحول الى مستشفى مجانى لأهل الحى و مجهز بأحدث المعدات والأدوات الطبية .. مع بقاء حجرة الدور الأول مغلقة النوافذ والأبواب !! أما هى فكانت تتابع ما يجرى من فيلتها بالمهندسين أو من مكتبها بالعجوزة ! الأجيال الجديدة لم يكن بينهم من يعرف قصة عادل ونبيلة ! كانوا يتساءلون عن الغرفة المغلقة فلا يجدون تفسيرا .. قالوا أن فى الحجرة كنز.. وقال آخرون يسكنها جنى ! .. وقال فريق ثالث أن المليونيرة التى تزور الحجرة تصنع فيها أعمال سحرية ! .. وقالت بعض النساء من عواجيز الحى ربما كانت الحجرة قد شهدت ذكريات خاصة جداً بين نبيلة وعادل!! حققت نبيلة شعبية جارفة فى الحى الذى نشأت فيه ونجحت فى الوصول إلى تمثيل دائرتها تحت قبة البرلمان أكثر من دورة ! .. لكن الغريب أن الصدفة جمعت بينى وبين نبيلة فى مكتب واحد من أكبر النحاتين فى مصر .. كانت بيننا معرفة من أيام الشباب الأولى .. لكن نبيلة لم تهتز من مفاجأة لقائى ولا من معرفتى بسبب زيارتها للنحات الكبير .. بل أشارت لى نحو تمثال رائع ثم سألتنى : ** ايه رأيك ؟؟ أنا عارفة إن عادل كان زميلك فى المدرسة وكان صاحبك ,مش التمثال ده الخالق الناطق عادل ؟؟ سألتها ماذا ستفعل به .. وأجابتنى بسرعة وهى تشترط ألا أنشر قصتها حتى لا تتأثر بها انتخاباتها البرلمانية .. قالت : ** سوف أضع التمثال فى الأوضة المقفولة .. نفسى عادل يبقى معايا هناك !! اوعى تقول عنى إن أنا مجنونة .. على فكرة أنا اتجوزت عادل !!! دارت بى الدنيا وأنا أسألها : اتجوزت عادل .. ؟؟ .. ازاى ؟؟ قالت بهدوء شديد : ** اتجوزنا وأنا راجعة بالجثة من أمريكا !! .. قلت له وهبتك نفسى !! ومن ساعتها ضميرى مستريح وبحاول أعوضه عن غلطة ماكنش لى يد فيها ,أنا اتجوزت وهو عاش على ذكراى! أبى مات وأبوه مات وأنا اطلقت كان لازم نتجوز قبل ماياخده منى التراب !!..عموما سوف اوافق على تحويل قصتى إلى دراما فى حالة واحدة .. أن تلعب دورى آثار الحكيم !! ظللت أرجوها أن أنشر قصتها دون ذكر اسمها وأن أصورها دون أن يظهر وجهها .. وبعد محاولات مضنية وافقت عندما قلت لها : وحياة عادل !! لازالت الحجرة مغلقة !! ولازال شباب الحى يتساءلون عن سر زيارة نبيلة لها .. لكنى الوحيد الذى أعرف السر الذى تخفيه أجمل نائبات البرلمان على الإطلاق رغم سنوات عمرها التى تخطت الخامسة والخمسين !!