هذا الباب مخصص لاختيارات المصريين الفقهية في شتي المسائل والتي تثبت إطلاعهم علي مذاهب الفقهاء المختلفة وانتقائهم المذهب الذي يحقق مصالحهم ويرفع عنهم الحرج، دون التعصب لمذهب بعينه مطمئنين إلي صحة العمل بالمذهب المختار، كما يصحُ العمل بالمذهب المخالف له عند من يختاره لصدورهما من أهل الاجتهاد عملاً بعموم قوله تعالي "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" النحل: 43 وهذا يؤكد أن التعددية الفقهية من مقاصد الشريعة الإسلامية؛ لرفع الحرج عن الناس عملاً بقوله تعالي: "وما جعل عليكم في الدينِ من حرج" - »الحج: 87« سبق أن ذكرنا اختلاف الفقهاء في تحديد البيت الذي تقيم فيه الأرملة مدة عدتها، وذلك علي ثلاثة مذاهب. وبينا المذهب الأول الذي قال به جمهور الفقهاء، وهو أنه يجب علي الأرملة أن تقضي عدتها في بيت الزوجية حصرياً ونكمل فيما يلي مذاهب الفقهاء واختيار المصريين. المذهب الثاني: يري أنه يجب علي الأرملة أن تقضي عدتها في البيت الذي أتاها فيه نعي زوجها، فلا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه خبر موت زوجها.. سواء كان هو بيت الزوجية أو غيره.. وهو قول إبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب واختاره ابن حبان.. وحجتهم: 1- ظاهر النص الآمر بالعدة فور وفاة الزوج في قوله تعالي: » والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا« »البقرة: 432«. 2- ما أخرجه ابن حبان بإسناد صحيح من حديث الفريعة بنت مالك وترجم له بقوله: ذكر الأمر بالاعتداد للمتوفي عنها زوجها في البيت الذي جاء فيه نعيه، أن زوج الفريعة كان في قرية من قري المدينة وأنه تبع أعلاجا فقتلوه، فأتت رسول الله »صلي الله عليه وسلم« فذكرت الوحشة وذكرت أنها في منزل ليس لها وأنها استأذنته أن تأتي إخوتها بالمدينة، فأذن لها ثم أعادها ثم قال لها: »امكثي في بيتك الذي جاء فيه نعيه حتي يبلغ الكتاب أجله«. المذهب الثالث: يري أنه ليس للأرملة بيت معين تقضي فيه عدتها وجوباً، بل عليها أن تقضي عدتها حيث شاءت من البيوت، فلها أن تختار بيت الزوجية إن رأت مصلحتها فيه، فهو حقها لتحصينها من الطرد في حدث مفاجيء لم تتحسب له، وليس واجباً عليها، فلها أن تعتد في أي بيت تري فيه راحتها، ولها أن تنتقل وأن تسافر حيث شاءت ما لم يكن إثماً في ذاته كسفر المعصية. وهو مذهب الظاهرية قال به ابن جزم وحكاه عن إمام مذهبه أبي سليمان داود بن علي وجميع أصحابه الظاهريين، وقد سبقهم إلي هذا المذهب من الصحابة علي وابن عباس وجابر بن عبدالله وعائشة.. ومن التابعين جابر بن زيد والحسن البصري وعطاء وطاووس وروي عن عمر بن عبدالعزيز. وحجتهم: 1- أن النهي القرآني عن إخراج المرأة خروجها في مدة العدة من بيتها خاص بالمطلقة رجعياً كما أخرجه عبدالرزاق بسنده عن فاطمة بنت قيس أنها فسرت قوله تعالي: »لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن« »الطلاق:1« بالمطلقة رجعياً.. أما المطلقة طلاقاً بائناً وفي حكمها المتوفي عنها زوجها فليس لها حق في السكني ولا في النفقة؛ لما أخرجه مسلم عن فاطمة بنت قيس، أن زوجها طلقها ثلاثاً فلم يجعل لها رسول الله »صلي الله عليه وسلم« سكني ولا نفقة.. وفي رواية عنها، أن النبي »صلي الله عليه وسلم« قال في المطلقة ثلاثاً: »ليس لها سكني ولا نفقة«. 2- أن الله تعالي نفي الجناح عن خروج الأرملة في عدتها من بيت الزوجية، وجعل إقامتها فيه حقاً لها، وذلك في قوله سبحانه: »والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلي الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم« »البقرة:042«.. قالوا: فهذه الآية محكمة وليست منسوخة؛ لأنها لم تتعرض لمدة عدة الأرملة وإنما هي داعية إلي الوصاة بالزوجات أن يمكن من السكني في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً إن اخترن ذلك، ولهذا قال: »وصية لأزواجهم«، أي يوصيكم الله بهن وصية.. وأما علي قول الجمهور الذي يري نسخ هذه الآية بقوله سبحانه: » والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً. فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير« »البقرة: 432«.. فهذا النسخ خاص بمدة العدة وليس في سائر أحكامها، فمن أحكام العدة التي لم تنسخ اختيار المرأة بيت العدة لظاهر قوله تعالي: »متاعاً إلي الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف« »البقرة:042«.. فقد أخرج البخاري عن ابن عباس قال: نسخت هذه الآية عدتها عند أهله وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقوله تعالي: »غير إخراج«.. قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقوله تعالي: »فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف«.. قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكني فتعتد حيث شاءت ولا سكني لها. 3- أن الآية المحكمة بتقدير عدة الأرملة بأربعة أشهر وعشرة أيام لم تحدد مكان العدة، فلا يجوز التحديد بغير دليل.. فقد أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن ابن عباس قال: إنما قال الله تعتد أربعة أشهر وعشرا، ولم يقل تعتد في بيتها. تعتد حيث شاءت. 4- أن كثيرا من السلف الصالح قال بحق الأرملة في قضاء العدة حيث شاءت، وحقها في التنقل أثناء العدة، وهم لا يقولون ذلك إلا عند توقيف لحسن الظن بهم، فكان قولهم حجة.. ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبدالرزاق عن ابن عباس وجابر قالا: تعتد المتوفي عنها زوجها حيث شاءت.. وأخرج عبدالرزاق عن عطاء قال: لا يضر المتوفي عنها أين اعتدت. وأخرج عبدالرزاق عن عروة قال: خرجت عائشة بأختها أم كلثوم حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله إلي مكة في عمرة.. قال عروة: كانت عائشة تفتي المتوفي عنها بالخروج في عدتها.. وأخرج عبدالرزاق عن طاووس وعطاء قالا: المتوفي عنها والمبتوتة تحجان وتعتمران وتنتقلان وتبيتان. 5- أن الزوج إذا مات صارت أمواله تركة تقسم ميراثا ولم يصح في وجوب السكني للمتوفي عنها زوجها أثر أصلا، فلو كان الواجب علي الأرملة أن تعتد في بيت الزوجية لكان هذا مانعاً من قسمة الميراث في تلك العدة وذلك إذا كان بيت الزوجية مملوكا للزوج، ولم يقل بذلك أحد.. ثم إن منزل الزوجية لا يخلو أن يكون ملكاً للميت أو ملكاً لغيره، فإن كان ملكاً لغيره كالمستأجر فلا يحل لأحد سكناه إلا بإذن صاحبه. وإن كان ملكاً للميت فقد صار للغرماء أو للورثة أو للوصية، فلم يكن للأرملة إلا مقدار ميراثها إن كانت وارثة، وما عدا هذا فظلم، وأكل لمال الغير بالباطل. وقد بدأ المصريون في اختيار مذهب بعض السلف منهم علي وابن عباس وجابر وعائشة والحسن البصري وعطاء وطاووس، وهو ما عليه الظاهرية الذين قالوا بأن الأرملة تعتد حيث شاءت، وذلك بعد تعقد طرق المعايش بما يحول دون تمكن الأرامل من العيش وحدهن، خاصة بعد تفرق الأبناء البالغين في البلاد بحثاً عن سعة الرزق وتقاسمهم استضافة أمهاتهم، وغير ذلك من أعذار اجتماعية تحرج الأرملة إن قضت عدتها في بيت الزوجية. وكان المصريون قد بدأوا في ترك مذهب الجمهور الذي يري وجوب تربص الأرملة في بيت الزوجية حصرياً مدة العدة بعد تعقد الحياة الاقتصادية والاجتماعية بما يسبب حرجاً للأسر إن تركوا أراملهم يتربصن في بيت الزوجية، الذي لم يعد فيه أحد، والدين لا يعرف الحرج.. وقد فقه المصريون أن مذهب الجمهور ليس ديناً قاطعاً يتوقف عنده، وإنما هو فقه يحتمل الخطأ، ولأن مذهب المخالفين للجمهور من الظاهرية وبعض السلف مقطوع بفقهه الذي يحتمل الصواب، فكان من حق عموم المسلمين الاختيار من بين تلك الأوجه الفقهية دون غضاضة؛ عملاً بسعة الإسلام ويسره فيما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد أن النبي »صلي الله عليه وسلم« قال له: »استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك«.