يدهشنا الروائي الكبير محمد جبريل » كعادته » في اختيار عناوين رواياته ومجموعاته القصصية، أحدث هذه العناوين روايته »النفي إلي الوطن »، ما أقسي العبارة! يصدر الروائي روايته بعبارتين، الأولي لأبي حيان التوحيدي، » أغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدًا في محل قربه». أما العبارة الثانية، فهي مقتطعة من قصيدة تشيلية عن سلفادور الليندي» يعتقدون أنهم قتلوني.. لكنهم وضعوا بذرة في التراب ». العبارتان لا أتصور أنهما مجرد عتبات نصية للرواية، إنما هما محفزان، لهما أصداء في نسغ الرواية، ويشيعان دلالات داخل النص السردي. تصدر المشهد السردي شخصيات مصرية أغلبها من الفقراء والبسطاء، ورجال الدين، وشيوخ الفرق الصوفية، وطلبة الأزهر، وكبار التجار وصغارهم، وطوائف الحرفيين، مقابل شخصيات تاريخية لعبت دورًا في تلك المرحلة، من خلال منصب الوالي العثماني الذي تناوب عليه العديد من الشخصيات انتهاء بمحمد علي، في الموازاة مع قادة المماليك بفرقهم المختلفة، والقادة الشعبيين، وفي مقدمتهم عمر مكرم. تكمن درامية الرواية في الصراعات العنيفة بين القوي العظمي المتطلعة إلي السيادة، وفرض السيطرة، واتخاذ مصر ساحة لذلك، كالصراع بين انجلترا وفرنسا، وسعيهما الحثيث لإنشاء إمبراطوريات عبر البحار، ومشاركة مصر في أكثر من حرب ضمن حروب الخلافة العثمانية، ومنها الصراع الدائر بين طوائف المماليك البرجية والبحرية، وبزوغ نجم محمد علي، ودسائسه للوصول إلي حكم مصر، وصراعه مع القوي التقليدية المصرية من رجال الدين، واستطاعته استقطاب بعضهم ، بحيث انبجس من الصراع ظهور عمر مكرم كبطل رسمي ذكرته كتب التاريخ، بينما أتاحت الرواية مساحة سردية كبيرة للبطل الشعبي »حجاج الخضري»- زعيم طائفة الخضرية- وإسهامه الهائل في تحريك الأحداث. عمق جبريل من التيار الشعبي الذي وقف أمام الصراعات المتوالية بخلق شخصيات مصرية سواء من التجار أو الباعة أو طلبة الأزهر، أو مشايخ الطرق الصوفية، لكل منهم حكايته، التي يرويها تعدد الأصوات، بما يصنع عملًا ملحميًا متفوقًا .. تسير حياة الشيخ في رتابة، إلي أن يلتقي بريحانة ابنة هنومة الكودية فتنقلب حياته، افتتن بجمالها وشبابها، فترك ماله وحاله ورئاسته للطريقة إلي نائبه،» أهمل النصيحة بأن الشيطان ربما وضع المرأة في طريقه لغوايته. تمثل هذه الحكاية، بما تشيعه من حب وضعف إنساني وصراع نفسي وجسدي بين رجل شيخ وجسد فتاة شابة، صراعًا آخر علي المستوي الوجودي الإنساني، وهو صراع دائم وأبدي. الشخصيات في » النفي إلي الوطن » يتم التمهيد لها، يقدمها سارد أطلق عليه الروائي» صوت» يدفع برؤيته للشخصية، في الغالب تكون الملامح إيجابية، فالصوت هنا يتعاطف مع الشخصية، بعدها نجد أصواتا أخري تقدم جوانب نفسية أو وقائع وأحداثاً تتناقص مع ما سبق تقديمه، يعقب ذلك رصد للشخصية في مرحلة الفعل ورد الفعل، فيترك للمتلقي حرية الحكم علي الشخصية، فلا حجر أو فرض رأي، إلا أن هذه القاعدة قد يتم اختراقها من قبل الراوي حينما يصدر كل ما هو إيجابي ، يقطع جبريل هذا السرد التاريخي ليعود إلي حكاية ريحانة بنت هنومة، يتمها، مشاركة أمها في حفلات الزار التي تقيمها، أحاديث تجري عنها علي لسان حجاج الخضري، ومغاوري تليمة، منذ زواجها إلي طلاقها. إن الحياة تمضي لتعود إلي رافدها الرئيسي، إلي حكاية مصر وتاريخها الذي يكتبه هذا الوالي الذي أخذ علي العلماء والوجهاء عهدًا ألا يحرضوا الناس للثورة، يصعدوا القلعة، يسحبوا السجادة من تحته، تعلو أفواههم بالقول: انزل يا باشا. هذا عهد، من ينقض العهد فإن عليه أن يتحمل مغبة فعلته. كلها أسباب أدت إلي ما عاناه الناس في زمن محمد علي، فكان التفرد بالسلطة، ونهب الثروات، والاستيلاء علي أراضي المصريين، وتهميشهم، ونفيهم، وقد اعتبر عمر مكرم نفيه بعيدًا عن الأحداث، وعن الجماهير المصرية، نفيًا إلي الوطن من خلال إقامته في دمياط، وطنطا، حقق فيه صلات رائعة مع أهل البلاد الحقيقيين، الملايين من المصريين الذين شاركوه الأمل أن تخلص البلاد لناسها، حتي تحقق أملهم بتوالي الثورات.