"النفي إلي الوطن" رواية حديثة للروائي المصري المبدع محمد جبريل، صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2018؛ وتطرح الرواية إشكالية التداخل بين جماليات النص السردي، والتأريخ، والنزعة الوثائقية في السرد القصصي؛ ويستعيد النص مسيرة السيد عمر مكرم الوطنية، والإنسانية بين الحملة الفرنسية، وعصر محمد علي، وخياراته المبنية علي المقاومة، والميل للاستقلال الحضاري، والشوري، واختياره أحيانا للمنفي، وهجرته إلي الشام، أو نفيه إلي دمياط بعيدا عن القاهرة في عهد محمد علي. وتقوم الرواية – في نزوعها الوثائقي / الجمالي – علي تعددية الأصوات، أو التبئير الداخلي المتعدد وفق تعبير جيرار جينيت؛ فالأصوات يكمل بعضها الآخر، وتتشابك، وتتداخل فيها الرؤي التي تعزز من تعددية الخطاب، ومن تعددية فعل التأويل التاريخي للحدث؛ إذ تتشابك أصوات رواد المقاومة، وأصوات بعض المتصوفين، وبسطاء المقاومة الشعبية، ثم نجد صوتا لكليبر، أو لمينو مثلا؛ ومن ثم يؤكد النص تشابك الرؤي، وتعددية الخطاب التي أكدها كل من تودوروف، وباختين في الرواية، أو تنازع التفاسير كما هو في فكر بول ريكور. ويشير النص إلي نمو الوعي الجمعي بالآخر / الحضاري، ومدي التواصل، والانقطاع، أو الصمت في علاقة الأنا بالآخر؛ فالتراث المحلي الخاص بالاحتفاليات، والموالد ينتقل من موقع الهامشي إلي الفاعلية المعلقة، أو المؤجلة في اللحظة الحضارية للسرد؛ وطبقا لنموذج رايموند ويليامز، يظل الهامشي في حالة من الفاعلية رغم غيابه عن موقع الهيمنة؛ ومن ثم نجد احتفاء بونابرت الشكلي بالموالد ممزوجا بحالة الصمت، أو الانقطاع الجزئي، وإن ظلت فاعلية التراث محققة في المشهد الحضاري، وتداخلاته المحتملة في النص. وتشير عتبة العنوان / النفي إلي الوطن إلي مسيرة السيد عمر مكرم وخياراته التي أعادت إنتاج مدلول المنفي بوصفه خيارا ذاتيا، وإنسانيا يعلو علي الأنساق الخطابية المهيمنة في لحظة الحكي الحضارية؛ فمدلول المكان – لديه - يرتبط بالخصوصية الثقافية، والاستقلال، والخيارات الذاتية الداخلية في آن. ويرصد النص التحولات التاريخية الصاخبة، وأثرها في تشكيل الوعي الجمعي لأصوات البسطاء، والرواد، والمؤرخين، والممثلين للآخر في آن، وكأنه يستعيد بكارة الحدث التاريخي في جمالياتها المتعلقة بفعل الحكي التأويلي التعددي من جهة، وتشابك أشكال الخطاب عبر نسبية مواقعها، والقوي الثقافية المنتجة لها من جهة أخري. تعددية الخطاب السردي التفسيري في النص: تقوم رواية النفي إلي الوطن لمحمد جبريل علي تعددية مواقع الرواة، وتنوع خطاباتهم التفسيرية للحدث، فضلا عن تشابك الأصوات، وتداخلها، ونزوع كل منها إلي إكمال رؤي الآخر من موقع مغاير؛ ومن ثم يؤكد النص تنوع الرؤي، والوعي الجمعي للرواة، ومواقفهم من الوجود، ومدي تأثر كل منهم النسبي بالتعقيد في بنية اللحظة الحضارية للحكي. يؤكد خطاب السيد عمر مكرم اختياره للهجرة إلي الشام مع المحروقي، وأغا، وآخرين، والتعارض البنائي بين المشاركة، والصمت، والتعزيز من موقف الاستقلال، والمقاومة؛ فالمشاركة بطبيعتها تؤكد التبعية للمهيمن، لا المشاركة في تأكيد الذات الحضارية، أو النهضة؛ ومن ثم فهو يعلق التبعية لخطاب الآخر باتجاه تواصل حضاري يقوم علي تجاوز مركزية الآخر. وسنعاين الازدواجية بين التمازج الحضاري المحتمل، واستمرار التعارض البنائي القائم علي التبعية للخطاب الحضاري للمهيمن في وعي أحد الأصوات، وخطابه الذي يصف فيه حالة المولد، ومدي اهتمام بونابرت بها. يصف الصوت دخول الطريقة الهاشمية، يتقدمها ربيع عبد الراضي، وتعددية مظاهر الاحتفالية التي تجلت في الأدعية، والموشحات، وحمل البيارق، والخرق الملونة، وقرع الطبول، وتحرك الأجساد علي إيقاع الذكر، وابتلاع الثعابين، والنيران، والتمدد علي فراش المسامير، والسير علي النار، ورقص الجمال، والجياد، والحمير، والكلاب، ثم يشير الصوت إلي أن الحاج حيدر العلاف قد أمر مريديه أن يقصروا مشاركاتهم علي مشاهدة الاحتفالات، وأن يمتنعوا عن اصطحاب الجنود الفرنسيين في عودتهم إلي معسكراتهم بالعباسية. تبدو بهجة المولد معلقة في حالة الصمت، وانفصال الأنا عن خطاب المهيمن، بينما تومئ إلي مستوي التداخل الثقافي المحتمل – في المشهد – أيضا؛ فحالة البهجة التي تمزج الألم بالنشوة الروحية، تنتقل من المحلي إلي الإنساني / العالمي، فضلا عن دلالات الاندماج الكوني / الجمالي في المشهد؛ وقد ارتكز خطاب الصوت / الراوي علي ذكر تفاصيل البهجة الممزوجة بالألم، وتلك الرقصة الكونية؛ ليوحي بقوة مدلول الذات الحضارية، وقدرتها علي التواصل مع الآخر، وفاعليتها المتجددة في المشهد الحضاري بعيدا عن خطاب المهيمن، والهامشي؛ ومن ثم فقد تولد الصمت – في المشهد – من داخل نموذج التواصل الحضاري القائم علي دمج الهامشي في البنية المركزية للمهيمن. تتشكل الهوية الثقافية – إذا – من داخل تطورها في السياق الحضاري العالمي، ولقائها بالآخر، ومدي فاعلية تراثها الروحي من داخل خطاب المهيمن نفسه. وقد يتداخل خطاب الشخصية التأريخي – في النص – بالبني الحكائية التأويلية للحدث التاريخي، فضلا عن تمثيل ذلك الخطاب للذاكرة الجمعية، وللبني الثقافية التي تشكل منظور الشخصية التفسيري للعالم، ولتعقيد لحظة الحكي الحضارية في آن. يقوم خطاب الجبرتي – في حديثه عن معركة بولاق – علي وصف الحدث انطلاقا من تدافع القوي المهيمنة، ووفرة القتلي، والمنظور الأخلاقي الإنساني في بنية الحكي التفسيري للتاريخ؛ إذ يقول إنهم ملكوا بولاق، وفعلوا بأهلها ما تشيب من هوله النواصي، وجثث القتلي صارت مطروحة في الطرقات، واحترقت الأبنية، والدور، والقصور، وهرب كثير من الناس حين أيقنوا بالغلبة، فنجوا بأنفسهم إلي الجهة القبلية. يبدأ الخطاب بوصف الهيمنة من موقع الراصد الذي يعزز المقاومة، والاستقلال الذاتي، والقيم الإنسانية؛ ومن ثم يؤكد وحشية المشهد، وبني الزيادة، أو الوفرة في القتلي، وتراكمهم، فضلا عن بنية الزيادة المتعلقة بالنار، والتهام المباني، والقصور، وإن ظل فعل المقاومة، والتحقق الذاتي كامنا في الهروب، وفي منظور الرائي نفسه الذي يؤكد غرابة المشهد عن القيمة الإنسانية، ومفهوم التواصل الحضاري. أما خطاب السيد عمر مكرم فقد ارتكز علي مدلول الخواء، أو الفراغ الذي استبدل بهجة الأصوات، وفاعلية الثقافة المحلية، وحوارها الممكن مع العالمي، أو الآخر المحتمل؛ فالفراغ – في خطابه – يومئ ببلاغة الحضور المحتمل فيما وراء الصمت؛ فيقول إن الأسي قد غلبه حين سيطر الدمار علي القاهرة، وصارت الشوارع خالية إلا من القطط، والكلاب. يؤول السيد عمر مكرم المشهد انطلاقا من بنية الفراغ، والحضور الحضاري البهيج الأسبق؛ ولهذا تتوالي الوظائف السردية المؤكدة للصمت، والفراغ؛ فالفوضي تسود، وتخلو الشوارع من البشر. أما خطاب كليبر فينطوي علي كشف تناقضات مراد بك إزاء الصدر الأعظم، وإزاء قوي الحملة الفرنسية؛ إذ يقدم الولاء للجهتين، ويوحي ذلك الخطاب بالعودة إلي المنظور الأخلاقي الإنساني، رغم غيابه عن مشهد نموذج التواصل الحضاري القائم علي المسيطر، والهامشي، والتبعية للمركز؛ إنه خطاب يثير نوعا من الأرق الذاتي الداخلي، أو تأجيل بنية المركزية الحضارية نفسها. أما خطاب مينو فيقوم علي نزوع التفوق مع إثارة الأرق، والأسئلة في الذات الحضارية التي بدأت تواصل التشكل بعيدا عن نموذج الهيمنة؛ إذ يسترجع الذكريات المؤلمة في الصحراء، بينما يصر علي انتساب المجد لجنود الحملة، وإثارة الأرق في الآخر؛ وربما يكون الأرق الذي أشار إليه خطاب مينو نوعا من التكرار للأسئلة الحضارية التي تفكك نموذج المركزية نفسه، والذي كان قد أشار إليه في خطابه المتعالي. وتتنوع أشكال الخطاب طبقا لمواقعها الذاتية، والثقافية / النسبية في فترة محمد علي؛ فثمة صوت يؤكد حضور محمد علي، ومشاهدته لما يقوم به الدراويش من ابتلاع النار، وأكل الزجاج، والثعابين، والتمدد علي المسامير؛ ويعكس الخطاب القوي الثقافية المشكلة للوعي الشعبي للراوي / الصوت، والإعلاء من النشوة الروحية، ومدي مقاومتها لفعل التهميش، أو قوة صعودها في اللحظة الحضارية المعقدة المتشابكة التي صاحبت هيمنة محمد علي؛ فتجارب الألم والصعود، والتعالي الروحي، تظل مؤثرة في بنية المهيمن من منظور الراوي، ومعتقده الشعبي البسيط. أما الجبرتي فقد قدم خطابا يختص بالبني التفسيرية لموقف عمر مكرم الذي أصر ألا يجتمع بمحمد علي حتي يبطل الأحدوثات التي يتضرر منها الناس؛ إن الجبرتي يشير – في خطابه – إلي فاعلية عمر مكرم الصامتة، وموقفه الذي يعبر عن التوحد بثقافة المكان، وغائية النهضة، والتحقق الذاتي؛ فهو موقف يومئ لفاعلية المكان، وروحه، وثقافته، ونزوعه التحرري. ويفكك خطاب عمر مكرم تبدل موقف محمد علي حين يقول إن الأخير عزم إبعاده عن المحروسة إلي دمياط بعد أن عاونه مكرم علي تولي الحكم، أو حين يري إن التقدم كان رغبة لدي المقاومة نفسها؛ ويدل الخطاب علي أصالة تشكل الوعي الجمعي، وتجاوز مركزية خطاب محمد علي، وقراراته في لحظة التأريخ، والحكي التفسيري للحدث. ويري بول ريكور – بصدد فعل الحكي التأويلي / التأريخي أن التأريخ ينطوي علي سلسلة من العلاقات السببية، والغائية، في مقابل الحاضر المختلط، ومتعدد الأشكال وغير قابل للفهم، ويومئ إلي آراء مارو، وآرون، ويري أن الفهم هو نوع من إعادة البناء. (راجع، ريكور، الزمان، والسرد، الحبكة والسرد التاريخي، ج1، ت: سعيد الغانمي، وفلاح رحيم، راجعه: د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة ببيروت، 2006، ص 157، 159). لا يمكن فصل السرد التأريخي – إذا – عن موقع الشخصية / الراوي، والأنساق الثقافية المشكلة لوعيها بالوجود، وبالحدث المتداخل؛ ومن ثم يسهب سارد رواية محمد جبريل في عرض الأصوات البسيطة، بجوار مذكرات عمر مكرم، وتأريخ الجبرتي؛ ليؤكد تنوع الأنساق الحكائية التفسيرية للحدث، فضلا عن رؤي الآخر؛ مثل مينو، وكليبر، والتي تكشف عن المركزية، وإمكانية تفكيكها، أو تداخلها المحتمل مع الآخر في نموذج مختلف من الاتصال الحضاري. السرد القصصي بين التأريخ، والوظيفة الجمالية: ينطوي الحكي التأريخي – في بعض المواضع من الرواية – علي التداخل بين البني الفنية الحكائية، وأخيلتها، والواقع؛ وهو ملمح ما بعد حداثي تبدو فيه استعادة التراث جمالية، ويمتزج فيها النص المتخيل بواقع الشخصية؛ يبدو هذا في حكي أحد الرواة / الأصوات أن حجاج الخضري يحب الاستماع إلي شخصية الزناتي في رواية حمود عيسي، وخاصة في تقدم الزناتي لرجال قبيلته في الكر، والفر، والقتال، وكان الخضري يحاكيه، ويتقدم صفوف المقاومة ضد الفرنسيين؛ إننا أمام محاكاة تمثيلية للتراث، أو استعادته – في واقع الحكاية – بصورة تؤكد الوظيفة الجمالية في السياق التاريخي نفسه؛ أما راوي الحكايات / حمود عيسي فكان يرتكز – في روايته لسيرة عنترة – علي نفض العبودية، ورفض التآمر؛ وهو ما يؤكد تأثير اللحظة الحضارية للحكي في الانتخاب الجمالي لبني الحكايات القديمة؛ ومن ثم محاكاته في الواقع، وتحويل القوي الثقافية التراثية إلي قوي جمالية فاعلة؛ كما يشير العلاف إلي أن الخضري قد يلجأ إلي قدرات أصدقائه من الجان في المقاومة؛ ومن ثم يعكس خطاب العلاف فاعلية مكونات اللاوعي الجمعي بصورة جمالية، ويعيد قراءة الخضري انطلاقا من جماليات النماذج القديمة، وفاعليتها في الأنساق التفسيرية لشخصية الخضري. الرعب، وسؤال الكينونة، والجسد: تشير جوليا كريستيفا في كتابها قوي الرعب، عن التدني الذاتي، والتفكك إلي أن التفكك، أو تدني الذات يقع علي الحافة بين تلاشي الوجود، وحالة الهذيان؛ إنه نوع من ثقل الفراغ .. . کead, Kristeva, Powers Of Horror, Translated by Leon کoudiez, »olumbia University Press, New York 1982, p. 3). ونعاين مثل هذه الحالات من التفكك الممزوجة برؤي تشبه الحلم الكابوسي الصاخب في رواية محمد جبريل؛ إذ يروي أحد الرواة البسطاء اعتياد الناس رؤية مشاهد الأجسام، والرؤوس المتدلية علي أسوار القاهرة، فضلا عن صمتهم أمام جثة الخضري، وإشفاقهم من انتفاخ الجسد، وتشوه الملامح؛ ويذكرنا هذا التشوه المحتمل بأعمال الفنان فرانسيس بيكون التي تؤكد صخب التفكك، وحضور الجسد، وجمالياته، وأصواته في آن؛ وهي تؤكد منظور كريستيفا الجمالي لقراءة مثل هذه الأعمال؛ وإن رواية الأصوات البسيطة لتلك الحالات التي تشبه أحلام الفن، وكوابيسه، توحي بمحاولة استعادة الصوت السابق لبنية الصمت؛ وهو ما يؤكد منظور عمر مكرم في التواصل الحضاري، والتحديث، ونمو الوعي بالذات، وتطورها الثقافي إزاء الآخر.