العلاقات الحضارية المتشابكة بين الأنا، والآخر، كانت محورا رئيسيا في كتابة الروائية المصرية المبدعة الراحلة (رضوي عاشور)، فقد وجهت نصوصها نقدا لممارسات بعض الثقافات المهيمنة، والاستعمارية، وأعادت اكتشاف مجموعة من الشخصيات العربية المهمشة، والفريدة في (ثلاثية غرناطة)؛ لتوحي بالأصالة الكامنة في الذات الحضارية، وقدرتها علي الصعود، والمقاومة، والتجدد. لقد توترت العلاقات الحضارية بين كل من الهيمنة، ومبدأ التعايش الثقافي بين الأنا، والآخر انطلاقا من خصوصية الذات، وتجاوز مركزية المسيطر؛ وتؤكد (رضوي عاشور) ذلك التعايش الذي يقوم علي أصالة الذات، وقدرتها علي إحداث نهضة ثقافية في روايتها (قطعة من أوربا)، وقد صدرت عن دار الشروق بالقاهرة 2003، فالراوي / الناظر الذي يتخذ موقعا وظيفيا تأريخيا في النص، يرصد اشتباك النهضة المصرية، ومعمارها المميز بفعل الهيمنة، والأشكال الجديدة من الإمبريالية، وإمكانية الصعود انطلاقا من تجديد مبدأي الخصوصية الفريدة للثقافة المصرية العربية، والتعايش الحضاري / الإنساني المتجاوز للعنصرية، والهيمنة. وجاءت شخصيات (قطعة من أوربا) أقرب إلي التوثيق، والحكي، والتأويلات التاريخية التي تؤكد المسارات الثقافية العديدة لأنماط العلاقة بين الذات، والآخر، والإسهاب في نقد النمط المركزي للمهيمن، والتعزيز من خطاب التواصل الحضاري المعتدل، والمؤكد لأصالة النهضة الإنسانية الكامنة في العناصر الحضارية المهمشة في خطاب المستعمر الجديد. ويمكننا رصد ثلاث تيمات فنية في النص؛ هي الهوية الثقافية بين الأنا، والآخر، والرواة بين التوثيق، والأصالة، وأخيلة النار بين الزيادة والتفكك الداخلي. أولا: الهوية الثقافية بين الأنا، والآخر: تتمركز وثائق الساردة حول حدث حريق القاهرة عام 1951، وما سبقه، أوتلاه من أحداث، قضت علي ملامح الهندسة المعمارية، والفنادق المبنية علي الطرز الأوربية مثل دار الأوبرا، وغيرها؛ فقد صارت النهضة المصرية مهددة عقب صعود قوي الهيمنة، ومحاولة القضاء علي مبدأ التعايش الحضاري بين الأنا، والآخر. والساردة تؤكد ذلك المبدأ انطلاقا من وصف الهوية الخاصة، والتي تتجلي في المعمار من جهة، واستدعاء السرد التاريخي المبني علي الحكي العربي المتوارث من ألف ليلة من جهة أخري. لقد ولد حريق القاهرة، ثم صعود خطاب الهيمنة عند الساردة حنينا لاواعيا لفكرة التوسع في استرجاع نماذج النهضة ضمن وظائف سردية، ورمزية جديدة، فالناظر يعيد تأويل إبي الهول، وشهرزاد/ الحفيدة تتماس مع صورة إيزيس، وتشهد بقايا الهندسة المعمارية المصرية علي حقبة إنسانية تناظر النهضة الأوربية الحديثة. إن رضوي عاشور تعيد بناء خريطة الهوية في " قطعة من أوربا " من خلال سرد تاريخي استعاري موجه نحوالإعلاء من الهامشي باتجاه قدرة النص علي خلخلة مسار البني الاجتماعية في تلك اللحظة التاريخية؛ ومن ثم تحوير فكرة تراجع النهضة المصرية بإعادة تصور الهندسة المعمارية، ولغة التواصل مع الثقافات الفرعية التي وجدت قبل نموالإمبريالية، وصورها الجديدة. ولأن الساردة معنية بالوجود التاريخي، والاجتماعي للرواة / الشخصيات ؛ فقد غلبت الوظيفة التحليلية للتاريخ، وصارت هي العنصر الفريد المشكل للشخصية الحضارية. يتجه النص إذا إلي تشكيل هوية متجددة دون التخلي عن الأصالة، وكذلك الانحياز الجزئي إلي تفاعل الثقافات داخل بنية حضارية متطورة، ومتجاوزة لموقع التابع للاستعمار . يعرض الناظر للمفارقة بين أثر الأوبرا في الذاكرة، وذلك الحريق الذي يوحي بتهديد النهضة، ومواكبة الأنا للآخر الحضاري، ثم يستعيد بكارة عرض أوبرا "عايدة"، وخطاب إسماعيل للموسيقار الإيطالي "فيردي"، ووجود بعض الممثلين المصريين في العرض، أما الملابس فقد صنعت في باريس، ثم يستعيد بكارة مشهد فندق شبرد الذي كان يبدوكقطعة حقيقية من إنجلترا. ونلاحظ في خطاب الناظر أمرين؛ هما: الأول: نقد أفعال الهيمنة المركزية الموجهة لنهضة الذات الحضارية، أوالتي تقصي الآخر من المشهد؛ فهويعزز من المواكبة الحضارية للآخر، ومن التعايش المعتدل داخل أصالة المشاعر الوطنية وخصوصيتها. الثاني: استعادة النص لبكارة عرض "عايدة" الذي يجمع بين المحلي، والعالمي، ومجاورة الأوبرا لأثر فندق شبرد يدل علي الرغبة في تعديل سياق التباين الحاد بين الثقافات، واستعادة ذلك المناخ الفني الإنساني الوطني الذي جاورت فيه مصر حضارات إيطاليا، وفرنسا، وإنجلترا، فقد حققت الأوبرا ذلك التفاعل من منظور وطني بدا في وثيقة خطاب إسماعيل لفيردي، وفي التشكيل المعماري للمكان الذي كان قطعة موازية لأوربا، وحمل بذور النهضة المصرية العربية. وقد تتخذ الهوية شكلا إنسانيا من المقاومة، ينبع من اتفاق بعض الشخصيات في الثقافات المختلفة علي تجاوز مركزية القوة . لقد أرسل اليهودي/ إدي صالح وكان قد نشأ بمصر مجموعة مقالات، وكتابا لأخي الناظر، وهويوجه نقدا صارما لمنطق القوة، والهيمنة، ولنموذج الإقصاء غير المبرر. لقد نشأ العنصر الهامشي الصاعد هنا من داخل ثقافة المسيطر، ليؤكد المقاومة من منظور إنساني فوقي، يتجاوز مبدأ العنصرية في اتجاه تعايش حضاري جزئي، وأري أن هذا الشكل من المقاومة أقرب إلي سياق تجدد الهوية الذي ارتكزت عليه الساردة منذ البداية، فضلا عن انحيازه لفكرة التعدد، وتجاوزه للارتباطات التفسيرية الأحادية للآخر . ثانيا: الرواة بين التوثيق، والأصالة: الرواة هنا هم شخوص الرواية، وقد اتخذ كل منهم موقعا وظيفيا داخل النص الروائي، وهم أقرب إلي سياق / الفواعل السردية التي ترتبط بمنظومة محددة كما هوعند رولان بارت . ويشكل التوثيق المبني علي أصالة الموقع الحضاري الفريد لشخصيات الرواة العنصر الجمالي المميز لبنية الشخصية عند (رضوي عاشور)؛ إذ ينساق الرواة بكامل وجودهم إلي الأبنية السياسية، والاجتماعية التي تشكل وعيهم، ولا يعني هذا الانقطاع الكامل عن خصوصية الوعي، وتشريحه، وإنما جاء الأخير ممثلا لوظائف سردية بعينها في السياق الاجتماعي / النصي . يعلن الناظر في النص أن اسمه لم يختره له والداه ؛ فهوناظر، لأن مهمته تنحصر في وظيفة النظر، أما موضوعه فهوتلة عمره التي يقف عليها رقيبا، وحارسا. لقد اندمج الوجود في مستوي الأفعال، ويتمثل في التحليل التاريخي لبعض الأحداث . إننا هنا لا نعرف شخصية الناظر، ولكن ما يعرفه هومن وثائق، وارتباطات منطقية، وتحليلات، وأخيلة . ويؤكد ذلك أمران : الأول : كتابة مذكراته، وهي بمثابة وثيقة، أوشهادة موجهة للمروي له، لتأسيس مقاومة القوي الإمبريالية . الثاني: امتداد تلك الوثائق النابعة من الشخص / الوظيفة في شخصيات أخري مثل شهرزاد، فطرائقها في السرد ترتد إلي بنية الحكي العربي الأصيلة، والمؤكدة لإمكانية التجدد الحضاري، والجمالي في آن. ثالثا: أخيلة النار بين الزيادة والتفكك الداخلي: تبلورت أحلام اليقظة لدي ساردة " قطعة من أوربا " حول النار، إذ لم تكن الوثائق التاريخية في النص مجردة من البعد الموضوعاتي الذي يشكل رؤية الوجود عند الناظر ؛ فقد أعاد حدث حريق القاهرة 1951 تشكيل العالم في وعيه انطلاقا من الزيادة التي تكمن في صورة النار . ثمة أحداث متلاحقة تشبه الانتشار الناري تلت ذلك الحريق في وعي الناظر ؛ مثل سقوط الوفد، وتراجع النهضة المناظرة للآخر، والتوسع في الاحتلال، وغيرها . يكتب الناظر في وثيقة علي لسان رجل شرطة شهد الحريق : " كانت النار أيضا اشتعلت في جروبي، وحضر بعض الأولاد من المتظاهرين تحت عمارة الكونت زغيب... أبلغت المدير. اشتعلت النار في محلات كثيرة، وأنا في الميدان بشارع عبد الخالق ثروت... لم أشهد سينما ريفولي، وهي تحترق، ولا المطافئ، وهي تخمد الحريق في الكازينو" النار في " قطعة من أوربا " ذكورية، وعنيفة، وتمتد في ذاكرة الساردة ؛ لتعيد من خلالها قراءة امتداد القوي الاستعمارية في مصر، وغيرها . لقد قضت أخيلة النار علي رموز الهندسة المعمارية، ومن ثم آثار التعايش بين الأنا، والآخر باتجاه مزيد من العنف، والعنصرية . النار هي الصورة الطبيعية لعمليات القتل التي يقوم بها المهيمن في النص، كما أنها صورة المقاومة في وعي الهامشي ؛ إذ تنتشر جزئيا في الآخر المعتدل . وأري أن أخيلة النار اتجهت إلي تفكك داخلي في النص، فقد تحولت إلي طاقة حكي داخلية في الرواة كي تستعاد رموز الأصالة، والنهضة في الوعي المبدع مرة أخري، وفي بكارة مناهضة للزيادة التدميرية للنار الأولي؛ وهوما يكسب رواية (قطعة من أوربا) جمالا مضافا يتعلق باستعادة الروح الثقافية الإنسانية والوطنية للمكان.