تنفي إسرائيل دائما بمناسبة وبدون مناسبة أي أطماع لها في مياه النيل برغم تلك المقولة الشهيرة المحفورة علي مبني الكنيست "من النيل إلي الفرات" وغيرها من معتقدات كبار زعمائها ومؤسسيها مثل ديفيد بن جوريون الذي قال إن مستقبل تل أبيب مرتبط بالمياه، فضلا عن تفسير البعض للخطين الأزرقين علي علم إسرائيل بأنهما يرمزان إلي نهري النيل والفرات. لكن، وبنظرة متعمقة إلي سياسات إسرائيل تجاه دول منابع النيل الإفريقية، سنجد تحركا "ممنهجا" وإستراتيجية "محكمة" لتحقيق الانتصار في المعركة من أجل المياه التي هي بالطبع معركة مصير لتل أبيب. وهنا، تأتي أهمية الزيارة المرتقبة للثعلب العجوز شيمون بيريز إلي إثيوبيا نهاية الشهر المقبل، في زيارة هي الأولي من نوعها لرئيس إسرائيلي إلي أحد دول منابع النيل. وقد علقت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية علي الزيارة بالقول إن الهدف الأساسي لبيريز من ورائها يتركز علي إفشال مفاوضات مصر حول اتفاقية حوض النيل ودعم الموقف الإثيوبي من اتفاقية "عنتيبي" الخاصة بتقسيم مياه نهر النيل. إضافة إلي مكافأة إثيوبيا علي مواقفها ضد مصر، حيث يصطحب بيريز معه خلال الزيارة وفدا كبيرا من رجال الأعمال الإسرائيليين لاقامة المشروعات وتوطيد العلاقات التجارية. والحقيقة أن اهتمام إسرائيل بملف مياه النيل يعود إلي بدايات ظهورها، حيث أنشأت مركزا للتعاون الدولي في وزارة الخارجية باسم "الموشاف" ويعتبر أهم وسيلة للاتصال بدول حوض النيل وخاصة في المجال الزراعي والمائي. كما قامت بتنفيذ عددا من السدود في أثيوبيا بواسطة مكتب الاستصلاح الأمريكي وبمعونة إسرائيلية وفي حال اكتمال هذه المشروعات سوف تؤثر علي حصة مصر بمقدار 7 مليارات متر مكعب. وأقامت عددا من الشركات الإسرائيلية مشاريع متعددة بالقرب من بحيرة "تانا" وعلي المرتفعات الأثيوبية التي ينبع منها النيل الأزرق وكان الحضور الإسرائيلي في البحيرة هو المقدمة لبناء سد "تانابليز" بتمويل إيطالي ليضاف إلي سد "بكيزي" الذي أنشئ العام الماضي ويُعتبر أعلي سد في أفريقيا بارتفاع 188 م والذي مولته الصين ويحجز حوالي 8 مليارات متر مكعب. والحقيقة أن تحركات إسرائيل في منابع النيل لا تأتي منفردة وإنما تقوم أمريكا بالتحرك معها، حيث عمدت واشنطن لتغيير القواعد القانونية الدولية المعمول بها في إطار توزيع مياه الأنهار فأدخلت مفاهيم جديدة مثل "خصخصة المياه وتسعيرها وإنشاء بنك وبورصة للمياه. كما مارست ضغوطا علي البنك الدولي لفرض فكرة خصخصة المياه في منطقة حوض النيل كي يدفع دول الحوض إلي الاستعانة بشركات كبري وأنه لا سبيل إلي ذلك إلا بإلغاء الاتفاقيات السابقة ومنها الثنائية بين دول الحوض، وبالتالي ستلتزم مصر بالمعاهدة الجديدة وشراء المياه التي تزيد عن حصتها. أما علي مستوي الزيارات الرسمية فقبل نحو عامين كانت زيارة وزير الخارجية المتطرف افيجدور ليبرمان ل 5 دول أفريقية بينها 3 دول من حوض النيل والتي وقع خلالها اتفاقية شراكة لإدارة المياه في العاصمة الكينية نيروبي. والمعروف أن كينيا هي مركز الكنائس العالمي في أفريقيا الذي أنشأته المخابرات المركزية الأمريكية ويوجد تعاون وثيق بين الكنيسة الإثيوبية وال»سي.أي.إيه«. وبالنسبة لشيمون بيريز فيعرف عنه أنه دائم التفكير في ملف المياه ومستقبل إسرائيل، ويتضح ذلك من عناوين بعض الكتب التي ألفها مثل "الشرق الأوسط الجديد" عام 1993 الذي ركز فيه علي احتياج تل أبيب لزيادة سريعة في مواردها المائية، ودعوته لإقامة نظام إقليمي للمياه في المنطقة علي أساس نقل المياه من المناطق ذات الوفرة إلي المناطق الشحيحة عن طريق الحاويات أو القنوات المفتوحة أو الأنابيب. فهل ينجح بيريز في بث سمومه وأفكاره ويضغط علي القيادة الاثيوبية من أجل استمرار تمسكها بمواقفها المتشددة حيال اتفاقيات مياه النيل ؟ والأهم، هل تستمر مصر مشغولة طويلا بأوضاعها الداخلية تاركة الحبل علي الغارب لإسرائيل للعبث في ملف مياه النيل وإفساد علاقاتها مع دول حوض النيل، أم يأتي التحرك سريعا وقبل فوات الأوان؟