د.حسين حمودة لغة وارفة الظلال، ولهجة من عديد لهجات تفرعت عن شجرة الأصل، ولكن الفرع حمل - ولا شك- كثيراً من صفات الشجرة الكبيرة، وإن جاءت ثمراته تحمل مذاقا خاصاً، فذلك أمر ليس غريباً، فلكل إضافته، ولكن أن يتحول الأمر إلي صراع مصطنع، ومعركة مفتعلة، فهذا ما يدعونا إلي الدهشة، لأن العربية الفصحي ولسانها العريق، هي لغة شعوب منطقتنا العربية ولسانها الناطق، وما اللهجات المتفرعة عنها سوي "وليدات" لها تظل تسبح في محيط الأصل، ومن هذا المنطلق نثير اليوم قضية رفض واستهجان بعض دوائرنا العلمية وجامعاتنا تسجيل الرسائل الأكاديمية المتقدمة لنيل درجات الماجستير أو الدكتوراة في مجال شعر العامية، باعتباره لا يرقي إلي المثول في الأروقة والقاعات الجامعية، ربما لأنه لا يرتدي الملابس البراقة!، عدد من النقاد البارزين يحاولون إلقاء الضوء علي القضية، ويطرحون آراءهم من زوايا نظر مختلفة. في البداية يتذكر الناقد الكبير د.محمد عبد المطلب عندما كان طالبا حاول أحد أساتذته في كلية دار العلوم عمل قواعد للهجة العامية، لكنه لم ينجح في ذلك لأن العامية لهجة تتغير مع الأزمنة، وسوف نجد العامية التي نتحدث بها الآن، سوف تكون مختلفة عن اللغة التي كان يتحدث بها الناس منذ عشرة أو عشرين عاما، وبرغم أن عبد المطلب الذي قام بدراسة في رباعيات صلاح جاهين، ويعمل حاليا في كتاب يعتبر دراسة عن تاريخ الشعر المكتوب بالعامية، لكنه يري أن المشكلة في دراسة العامية أنها ليست لهجة واحدة يتحدث بها الناس، بل سنجد العامية في القاهرة مختلفة عن العامية الموجودة في الإسكندرية، وكذلك العامية في الصعيد والمحافظات بأكملها، وحتي قصائد الشعراء الكبار مثل عبد الرحمن الأبنودي وفؤاد حداد وبيرم التونسي مفردات اللهجة العامية، لن تفهمها الأجيال الجديدة، لأن هذه اللهجة تغيرت علي مدار سنوات. ويقول الناقد والمترجم الكبير د.سليمان العطار : أعضاء هيئة تدريس الجامعة يرحبون دائما بالرسائل العلمية التي تتحدث عن شعر العامية لأنه مجال مهم مثل شعر الفصحي وأنا قمت من قبل بعمل دراسة علي قصائد الشاعر عمر الصاوي التي نشرت ضمن أعماله الكاملة، لكن طلاب اللغة العربية يخافون أن يقدموا دراسة أو رسالة جامعية عن شعر العامية حتي لا يتهمهم البعض بأنهم لا يفقهون شيئا في الفصحي، وكذلك سوف يؤثر علي فرصهم في التدريس داخل الجامعات بالدول العربية. أما الناقد الكبير د.حسين حمودة فيقول: نستطيع أن نردد هذه العبارة باطمئنان كامل. ليس شعر العامية فقط هو المظلوم، ولكن الأدب العامي الحديث كله لا يلقي اهتماما لائقا في الجامعات المصرية. وهذا الوضع، غير العادل والمتجاهل لخريطة الإبداع الأدبي الحق، مرتبط بميراث طويل من التجاهل الرسمي للأدب الشعبي، كما أنه متصل أيضا بنوع من الحذر الأكاديمي، غير المفهوم، إزاء الأدب المكتوب بالعامية في الكليات التي تقوم بتدريس الأدب العربي.. هذا رغم أن الانتباه للأدب الشعبي بدأ في جامعة القاهرة، وفي قسم اللغة العربية بكلية الآداب فيها، منذ زمن مبكر. ونستطيع هنا أن نتذكر رسالة سهير القلماوي الرائدة عن "ألف ليلة وليلة" التي أشرف عليها طه حسين منذ عقود طويلة. يضيف حمودة بقوله: هناك معارك نبيلة خاضها أساتذة أجلاء متفتّحون، مثل عبد العزيز الأهواني وعبد الحميد يونس وأحمد مرسي، من أجل انتزاع مساحة للاهتمام بالأدب الشعبي والعامي. ورغم أنهم نجحوا في هذا، وأصبحت الآن مادة "الأدب الشعبي" جزءا من المقررات الدراسية في كثير من أقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية، إلا أن أدب العامية الحديث لا يزال بحاجة إلي اهتمام حقيقي وإلي عناية كافية بدرسه وتحليله، ويواصل حمودة حديثه موضحا: بأن الرسائل العلمية عن شعر العامية لا تزال حتي الآن محدودة جدا، كأن لا وجود لها، بكل أسف. ومؤخرا نوقشت رسالة عن شعر فؤاد حداد أنجزها د. سيد ضيف الله وأشرفت عليها د.فريال غزول. وأتصور أن شعراء العامية الكبار، غير فؤاد حداد، مثل عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وماجد يوسف، وغيرهم من الشعراء التاليين، يستحقون أن تتناول أعمالهم دراسات جادة. وبوجه عام، نحن بحاجة إلي التخلص من النظرة التراتبية التقليدية التي تضع شعر العامية في مكانة أقل من شعر الفصحي، وهي نظرة لا تقتصر علي الجامعات فحسب بل هي ماثلة أيضا لدي كثيرين من القائمين علي المجلات الأدبية واللجان الثقافية والإعلام بوجه عام.ويري حمودة أن شعر العامية المصرية، في الحقيقة، يمثل الآن مكوّنا أساسيا تماما في الأدب المصري والعربي، وإنجازاته واضحة للجميع. ونحن جميعا نري ذلك ونوقن به، لكن يبقي أن نحول هذا النظر وهذا اليقين إلي فعل ملموس يتجاوز ذلك الميراث التقليدي، الذي طالما تجاهل إبداعات حقيقية وطردها من مجال الاعتراف أو استبعدها من نطاق الاهتمام. محمد سرساوي