رحل جمال الغيطاني. سبقنا إلي دار الحق، وكلنا سنرحل. البقاء لله وحده. القلب ينزف لرحيله، فعذراً إن جاءت خواطري مشتتة وغير مرتبة. عرفته منذ أربعين عاماً أو أكثر قليلاً. ربطتنا علاقة خاصة جداً. عاتبته مرة لأنه لم يسأل عني منذ فترة فقال لي : أنت معي طوال الوقت، لذلك لاأشعر بغيابك. صمت ولم أعاتبه بعد ذلك أبداً. كان آخر لقاء بيننا يوم الاحتفال بعيد ميلاده السبعين، في بيت السحيمي. طلب أن أكون من بين المتكلمين. بعد أن ألقيت كلمتي احتضنني. أبدي سعادته بحضوري. لم أكن أتخيل أنه اللقاء الأخير. هل طلب حضوري ليكون وداعاً ؟ يومها ذهبت للسلام علي السيدة الفاضلة ماجدة الجندي، زوجته، قالت لي : جمال لايكف عن الحديث عنك. يقول دائماً : لم يفهمني إلا محمد عيد. ربطت كلامها بقوله : أنت معي طوال الوقت. أدركت أن اللقاء ليس دائماً لقاء الأجساد، لكنه قد يكون لقاء الأرواح. الخلاف الوحيد بعد النجاح المدوي لمسلسل «الزيني بركات» الذي كتبت له السيناريو والحوار عن روايته البديعة، حاول بعض ضعاف النفوس أن يفسدوا العلاقة بيننا. قالوا له كذباً إنني أنسب النجاح لنفسي من دونه، وإنني أؤكد أنه لم يفعل شيئاً، حين بلغني أنه غاضب لم أنظر للأمر بكبرياء، فما بيننا أعمق مما يظن الساعون بالشر. ذهبت إليه في مكتبه ب»أخبار الأدب». فوجيء بحضوري. بمجرد أن جلست قال لي : انتهي كل شيء. مجيئك أنهي أي خلاف. عاتبته، قلت له : أنت رجل متصوف، كيف لم تستفت قلبك ؟ كيف صدقت الساعين بيننا ؟ أنسيت أني سجلت رأيي في الرواية في دراسة طويلة عريضة ؟ طلب مني أن أنسي الموضوع تماماً، وعند انصرافي قام بتوصيلي حتي باب المصعد منهياً الخلاف الوحيد الذي شاب علاقتنا طوال أربعين سنة. التصوف أحد المفاتيح المهمة لشخصية الغيطاني وكتاباته هو التصوف. اهتم به منذ وقت مبكر، وتوغل فيه بعد إجراء عملية القلب المفتوح. كنت ألاحظ هذا في ملبسه، فهو لايسعي للتأنق، بل يرتدي ثياباً بسيطة، وتشعر في سيره وحديثه بأنه زاهد.وطوال الوقت يصر علي قول مايعتقد أنه الحق، حتي لو أغضب الآخرين. تحدثت إليه ذات مرة حول خلافه مع فاروق حسني، فقال لي : العمر لم يعد فيه قدرما مضي، وكفانا مجاملات. لقد عاهدت نفسي بعد إجراء العملية ألا أجامل أحداً علي حساب الحق. أما عن أثرالتصوف في كتاباته فهذا حديث يطول. الغيطاني والموت لم يدخل الغيطاني الجيش مجنداً، لكنه اختار أن يعيش تجربة الحرب بإرادته، طلب أن يكون مراسلاً عسكرياً حين كان الموت يسير مزهواً علي شط القناة. وطالما كتب وحكي عن مواجهته للموت ونجاته منه بأعجوبة. هذه الفترة هي التي جعلته يفكر طوال عمره في الموت، وفي الزمان الذي يفر ولايرجع أبداً، وهذه التجربة أيضاً هي التي دفعته لكتابة رواية « الرفاعي « وكتابات أخري كثيرة. أي أنها أثرت في شخصه وإبداعه معاً. إن هاتين التجربتين : التصوف والعمل كمراسل حربي، من أهم الأشياء التي تمكننا من فهم شخصية وكتابات الغيطاني. غيبوبة لما علمت بدخوله في الغيبوبة أدركني الحزن. جمال الغيطاني ذو العقل المتوهج يغيب عن الوعي ؟ لكننا لانختار نهاياتنا. فكرت في قسوة النتائج المترتبة علي الغيبوبة، عليه وعلي أسرته. حاولت الاتصال بأسرته تليفونياً. كانت التليفونات دوماً مغلقة. تابعت أخباره. قال لي أخي القعيد أخيراً إن الأسرة لم تعد تسمح بزيارته لما طرأ علي ملامحه من تغير.دعوت الله أن يلطف به وبأهله. الموت احياناً يكون نعمة. وأدركت الغيطاني أخيراً نعمة الله ولطفه. اللهم تغمده برحمتك.