تفاصيل اجتماع محلية النواب بشأن تضرر 175 أسرة بالجيزة    الرئيس السيسي يهنئ الملك تشارلز الثالث بذكرى العيد القومي    رئيس الأركان يشهد مشروع مراكز القيادة الاستراتيجى التعبوي بالمنطقة الشمالية    السيسي: ملتزمون بتعزيز التعاون والاستثمارات المشتركة بين القطاع الخاص في مصر وغينيا الاستوائية    بلينكن: اتفاق وقف إطلاق النار في يد حماس    وكيل «صحة الشيوخ»: الرئيس السيسي وجه تحذير للعالم من مغبة ما يحدث في غزة    الزمالك يوضح حقيقة وصول عروض لضم محمد عواد    فينورد الهولندي يعلن خليفة آرني سلوت بعد رحيله لليفربول    الكشف عن حكم مباراة ألمانيا ضد أسكتلندا في افتتاح يورو 2024    أبرزهم راقصي السامبا.. مواعيد مباريات اليوم الأربعاء    التعليم: ضبط 3 حالات غش خلال امتحانات الاقتصاد والإحصاء    أول بيان رسمي بشأن وفاة "أصغر حاج" أثناء أداء مناسك الحج    دعاء رد العين نقلا عن النبي.. يحمي من الحسد والشر    «الصحة» تنظم ورشة عمل لتعزيز قدرات الإتصال المعنية باللوائح الصحية الدولية    الاستخبارات الداخلية الألمانية ترصد تزايدا في عدد المنتمين لليمين المتطرف    وزير الدفاع الألماني يعتزم الكشف عن مقترح للخدمة العسكرية الإلزامية    تدريب وبناء قدرات.. تفاصيل بروتوكول تعاون بين مركز التدريب الإقليمي للري والمعهد العالي للهندسة بالعبور    المصري الديمقراطي: تنسيقية شباب الأحزاب استطاعت تأهيل عدد كبير من الشباب للعمل السياسي    البورصة: مؤشر الشريعة الإسلامية يضم 33 شركة بقطاعات مختلفة    مدبولي يتابع جهود توطين صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات    رئيس إنبي: سنحصل على حقنا في صفقة حمدي فتحي "بالدولار"    "لا أفوت أي مباراة".. تريزيجية يكشف حقيقة مفاوضات الأهلي    البنك التجاري الدولي وجامعة النيل يعلنان تخرج أول دفعة من برنامج التمويل المستدام للشركات الصغيرة وا    «السكة الحديد» تعلن تعديل مواعيد القطارات الإضافية خلال عيد الأضحى    هيئة الدواء تعلن تشكل غرفة عمليات لمتابعة سوق الدواء في عيد الأضحى    الداخلية: ضبط 562 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    احتفالًا بعيد الأضحى.. السيسي يقرر العفو عن باقي العقوبة لهؤلاء -تفاصيل القرار    التعليم تكشف تفاصيل مهمة بشأن مصروفات العام الدراسي المقبل    كيف علق الجمهور على خبر خطوبة شيرين عبدالوهاب؟    عزيز الشافعي: أغاني الهضبة سبب من أسباب نجاحي و"الطعامة" تحد جديد    في ذكرى ميلاد شرارة الكوميديا.. محطات في حياة محمد عوض الفنية والأسرية    عصام السيد يروي ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    عاشور يشارك في اجتماع وزراء التعليم لدول البريكس بروسيا    بيان الأولوية بين شعيرة الأضحية والعقيقة    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل"قصواء الخلالي": موقف الرئيس السيسي تاريخي    5 نصائح من «الصحة» لتقوية مناعة الطلاب خلال فترة امتحانات الثانوية العامة    «متحدث الصحة» يكشف تفاصيل نجاح العمليات الجراحية الأخيرة ضمن «قوائم الانتظار»    كومباني يحدد أول صفقاته في بايرن    «أوقاف شمال سيناء» تقيم نموذج محاكاه لتعليم الأطفال مناسك الحج    وزيرة الهجرة تستقبل سفير الاتحاد الأوروبي لدى مصر لبحث التعاون في ملف التدريب من أجل التوظيف    بدء العمل بأحكام اللائحة المالية والإدارية بقطاع صندوق التنمية الثقافية    شبانة: حسام حسن عليه تقديم خطة عمله إلى اتحاد الكرة    حماية العيون من أضرار أشعة الشمس: الضرورة والوقاية    أفضل أدعية يوم عرفة.. تغفر ذنوب عامين    المجتمعات العمرانية تحذر من إعلانات عن كمبوند بيوت في المنصورة الجديدة: لم يصدر له قرار تخصيص    إعلام إسرائيلي: صفارات الإنذار تدوي في مناطق مختلفة من شمال إسرائيل    يونيسف: نحو 3 آلاف طفل في غزة معرضون لخطر الموت    «الإسكان» تتابع الموقف التنفيذي لمشروعات المرافق والطرق في العبور الجديدة    غدا، النطق بالحكم في قضية قتل تاجر سيارات لشاب بالدقهلية    بطل ولاد رزق 3.. ماذا قال أحمد عز عن الأفلام المتنافسة معه في موسم عيد الأضحى؟    تفاصيل مشاجرة شقيق كهربا مع رضا البحراوي    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك    وزير الصحة: تقديم كافة سبل الدعم إلى غينيا للتصدي لالتهاب الكبد الفيروسي C    مسئول أمريكي: رد حماس على مقترح وقف إطلاق النار يحمل استفسارات    الأصعب لم يأت بعد.. الأرصاد تحذر من ارتفاع الحرارة اليوم    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغيطانى
العراب الدليل إلي السجاد الشيرازي.. وكتب التراث والموسيقي التركية والغناء الفارسي.. الفيلسوف الصعيدى الذى هندس الأدب وأَدَبَ العمارة وإلتحف التصوف وحارب التطرف.. وتماهى فى الجيش وجَيَشَ الصحافة
نشر في الأهرام اليومي يوم 06 - 03 - 2015

زمان..زمان لم تك المبانى ذات القباب بجوار النادى الأهلى داراً للأوبرا، وإنما كانت (أرضاً وجدراناً) ملك هيئة المعارض المصرية، وتعودت وتعودنا أن تستحيل كرنفالاً سنوياً يوثق ويخلد لمسيرة الإنسان المصرى فى الإنتاج وبناء الحياة، وكانت زيارة ذلك المعرض الصناعي/الزراعى تبدو وكأنها شهادة إثبات نسب وطنى ينبغى أن يتحصلها المرء ويعلقها على صدره أو ظهره ما تيسر،
إذ كان التعليم السياسى والبناء الفكرى جزءاً من ملامح الدولة وسمات شعبها، وفى عام 1966 ذهبت إلى المعرض الصناعى الزراعى مع أبى (وكنت فى الصف السادس الابتدائي) وصاحب أبى رهط من أصدقائه (محمد عودة وأحمد بهاء الدين وحسن فؤاد وبهجت عثمان)، وكانت المرة الثالثة التى أعود فيها المعرض الصناعى الزراعى ذلك العام (مرة مع والدى ومرة مع المدرسة ثم تلك المرة مع أصدقاء أبي، وكانت الحمولة التعبوية أثقل من أن يحتملها الجهاز النفسى والشعورى لطفل، ولذلك فحين وقف ذلك الجمع تحت تمثال ضخم جداً من الحديد لصلاح عبد الكريم يصور- على نحو تجريدي-..أحد عمال مصر فى ملحمة الصناعات الثقيلة وبالذات الحديد والصلب، رحت أقلب بصرى فى أرجاء تلك الدنيا الصغيرة علنى أجد أمراً جديداً مثيراً أو لذيذاً، إذ كنت حفظت كل شىء، ولقننى أبى أهمية نموذج الطائرة القاهرة- 300 التى كانت مصر مندمجة فى إنتاجها، أو دلالة أن تقوم مصر بتصنيع الجرارات اليوغسلافية، أو السيارات الإيطالية.
كل شىء حفظته .. ذاكرته .. إستوعبته ولم يعد هناك جديد .. حتى أحاديث أبى ورفاقه عن الأثر الذى أحدثته كلمة (صنع فى مصر) فى نفس كل منهم حين رآها- للمرة الأولي- مكتوبة بالحديد والمطاط بدلاً من الحبر على ورق .. كانوا متأثرين- بالفعل- وكانوا طليعة حقيقية لشعب يحلم، وبلد ينهض، ورؤية للتقدم إمتد أثرها إلى كل أرجاء الكون.
ولكن فجأة ...
فجأة انتبهت إلى شاب نحيل أسمر يجلس على حرف طوار فى الطرف المقابل ليستريح قبل عودته من جديد إلى جناح التعاون الإنتاجى الذى خرج منه ..
ولكنه عدل- فيما يبدو- حين رآنا، وقرر أن يعبر الطريق إلينا للسلام والتحية .. جمال الغيطانى الذى كان تعرف بأبى منذ سنوات عبر بوابة محمد عودة وجمال يصف عودة لى بأنه كان (فاضى لنا) وقد إنطلق برهط من شباب الأدباء والكتاب إلى القاهرة التى لم يعرفوها .. المطاعم الفاخرة، وبيوت الفنانين .. والأوبرا.
محمد عودة ذلك الكاتب المثقف الرائع الذي- بدوره كان دائماً- يقول لي:»لن تستطيع أية قوة أن تعيد أبناء المصريين الفقراء إلى مواقعهم الإجتماعية الأولى بعد ما صاروا أطباء ومهندسين وعلماء وأدباء» .. نعم أدباء يا أستاذ عودة، وأنت واحد ممن قاموا بتصنيع أدباء اليسار المصري، أو على الأقل جزءاً منهم، وأحدهم الغيطانى الذى خف للسلام عليك وأبى وشلة أصدقاء الزمن الحقيقي.
صافح الغيطانى الجميع بخجل وأدب، وبعد أن تبادل بعض الكلمات مع عودة رجع أدراجه إلى جناح التعاون الإنتاجي.
ولا أعرف حتى اللحظة سر الأثر الكبير الذى تركه جمال الغيطاني- يومها- فى نفسي، والإحساس اللحوح بأننى سوف أقابله ثانية.
وقابلته- بالفعل- حين ذُكر اسمه أمامى من بعض أصدقاء أبى بعد شهور من واقعة المعرض الزراعى الصناعي، إذ دخل الغيطانى إلى المعتقل بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعى اسمه (واو- شين) أو (وحدة الشيوعيين)، كانت التنظيمات الشيوعية حلت نفسها أو دخل أعضاؤها إلى الاتحاد الاشتراكى العربى كأفراد، ولكن بعدما أمضى الغيطانى وبعض أفراد تنظيمه ستة شهور فى المعتقل منها شهر (انفرادي) ورأت السلطات الإفراج عنهم فى أجواء المصالحة مع الشيوعيين، وإن قررت أن يبقى الغيطانى فى القاهرة (لخطورته)!!
وأرسلوه إلى الجمعية التعاونية لخان الخليلى حيث عمل مع رجل اسمه فخرى بطرس (هاجر إلى أمريكا) وأحبه جمال كثيراً .. وهكذا وفى عام 1967- 1968 عاش جمال وسط الحرفيين فى خان الخليلى الذين خنقهم كساد ما بعد النكسة، وهو يشبه الفترة التى يعيشون فيها حالياً، ولكنها كانت- كما يقول الغيطاني- فترة تقدمت فيها جداً فيما يتعلق بالتكوين الذاتي، إذ أتبع ما يلبى احتياجى الروحى والداخلى وبين أيادى عمال خان الخليلى وجدته.
ذلك الفيلسوف الصعيدى من (سوهاج- جهينة) تجلت مقولاته أمامى وكأنها مغاليق أسرار دفعني- من خلالها- إلى التفكير والبحث عن طريقه لفك تشفيرها بعد من سمعته منه أو قرأته له وأوله كان (يوميات شاب من ألف عام) إذ دق جرس منزلنا فى شارع قصر النيل، وجريت لأفتح، ووجدت نفسي- وجهاً لوجه- مع الغيطانى مرة أخري، يصحبه أحد أصدقائه الأدباء ليقدما لأبى أول نتاج إبداعهما الذى طبعاه على نفقتهما، وكانت رواية الغيطانى واحدة منه، وفور إنصراف الأدبيين إندفعت لأخطف رواية الغيطانى (التى مازلت أحتفظ بنسختها إلى اليوم) وراودتنى أفكار ضاحكة شقية عن صدقية أن يعيش شاب لألف عام، وتسألت هل عاصره جمال أثناء كتابة يومياته؟ ثم كيف يكون شكل الرجل حين يعيش ألف عام؟ لقد عاشت جدتى أم أمى 75 عاماً وكنت أعتقد وقتها أن ذلك رقم قياسي، وفى زمن آخر هانحن نرى محمد حسنين هيكل يزحف نحو منتصف العقد العاشر ويبلغ ما يقرب من 92 ربيعاً، ومع ذلك فسنين عمره ليسوا ألفاً على أى حال وإن كان يطمح- فيما يبدو- إلى ذلك!!
ونمت شجرة العلاقة بينى وجمال الغيطاني، وتفرعت أغصانها وارفة الظلال، وبدأت أمعن قراءة نصوصه، وأفهم، وأفكر على نحو يتوخى المشاركة فى الحالة التى يشيعها ذلك الأديب.
وفى لقاءات- بيننا- تعددت، ومعظمها كان فى يوم الثلاثاء بمكتبى فى جريدة الحياة الدولية، قبيل ذهابه لإلتقاء الأستاذ نجيب محفوظ كل أسبوع كنت أعيد إكتشاف ذلك الأديب الفلتة كلما تقابلنا.
وفى إحدى إجازاتى فى القاهرة وقت عملى فى بريطانيا، صمم جمال أن يصحبنى إلى جولة فى شارع المعز، وهناك إكتشفت غرقه وإستغراقه فى العمارة التى يعد أحد خبرائها المعدودين، ليس بالمعنى الأثرى أو التاريخي، ولكن بالمعنى الفلسفى والصوفى كذلك.
وذهبت معه نسوح ونجوس فى جوامع وبيمارستانات ومدارس ذلك الشارع الذى قال لى عنه جمال:»المباني- هنا- كونت رؤيتى منذ طفولتي، أينما وليت وجهك ترى مقرنصاً أو نافذة أو مئذنة أو خط.
العمارة أقرب الفنون إلى الرواية، ومنها إستلهمت كل طريقتى فى التفكير من يوم أن فتحت عينى فى الصعيد إلى أن عشت فى درب الطبلاوي- قصر الشوق فى القاهرة القديمة».
هذه الفكرة- فيما يبدو- كانت حاكمة جداً فى البورتريه الذاتى الذى يرسمه جمال لنفسه، لأنه بعد لقاء شارع المعز بحوالى عشرين عاماً وقف فى دار السفارة الفرنسية بالقاهرة- وفى مناسبة تقلده وسام العلوم والآداب الفرنسى من درجة فارس- ليقول:»هى لحظة جياشة بالنسبة لي، لحظة متقدمة فى رحلة تقترب من إكتمال العقد السابع، بداياتها فى قرية جهينة حيث مهد وفادتى إلى الوجود فى التاسع من مايو عام خمسة وأربعين بعد ساعات من توقف الحرب العالمية الثانية، بالقرب من معبد أبيدوس أجمل معابد مصر القديمة (وصل إلينا سالماً تقريباً بمعجزة) بالقرب منه عثروا على أقدم نصوص مكتوبة .. بداية صياغة المعانى .. على الضفة الأخرى من النهر مدينة أخميم التى تتداخل فيها الأزمنة حيث عاش أبو الفيض ذو النون الإخميمى مؤسس علوم القوم، غير أن أول صورة فى ذاكرتى تنتمى إلى عام ثمانية وأربعين.. سماء القاهرة القديمة حيث أقام أبى بعد رحلة شاقة، إستقر على مقربة من الأزهر، ومركز مصر الروحي، سيدنا ومولانا الحسين وريث مكانة أوزير والسيد المسيح .. كل منهم شهيد الحق والموقف.
عرفت طريقى بذاتي، تلمست الخطى الأولى مدفوعاً من داخلى
وفى موضع آخر من ذلك الخطاب البديع يقول الغيطاني:»اهتمامى بالعمارة هو لأن الرواية بنيان، وعشقى للموسيقى لأن الرواية إيقاع، كل صفوف الإبداع تصب فى الرواية (فن الفنون) معايشة المبدعين العظام فى الأدب والفكر والعلم جعلنى تجسيداً حياً لما قصده مولانا جلال الدين الرومى (أمسيت شرقياً وأصبحت غربياً)»!!
هذا نص مهم جداً لذاته ومهم جداً فى تفسيره لشغل الغيطانى وشخصيته، وقد طلبت منه نسخة ونحن نقف- نهاية الإحتفال مع شقيقه وإبنه، فهز رأسه موافقاً مبتسماً فى إشارة إلى أنه أدرك الرابطة التي- بالقطع- تبادرت إلى ذهنى بين حديث شارع المعز وما سمعته فى خطاب السفارة.
فى شارع المعز أيضاً وقفنا فى باحة جامع محمد قلاوون حيث تحدث جمال عن كل فتفوته فى المسجد شارحاً ومفسراً، لابل ومضيفاً من فكره وروحه ما يمكن أن يُسمى (رؤيته) لكل ما أخذ بيدى ليرينى فى ذلك المبنى البديع.
بسبابته أشار إلى إحدى النوافذ الجبسية المستديرة المرصعة بالزجاج الملون «المعشق»، وقال لي: «الزجاج الملون المعشق فى الجبس فن مصرى صميم دخل مع الأقباط إلى هذا البلد، وهو يعكس- عبر الضوء- الفكرة الصوفية الرئيسية (أصل الأعداد واحد) و(أصل الأصول واحد) .. إذ أن (أصل الألوان أبيض) نعم كل الألوان أبيض، والطبيعة تدلك على ذلك لما تنقسم الألوان وتنكسر فى قوس قزح.
أساس العمارة عند الفنان المصرى القديم له علاقة بالكون .. وأنت تلاحظ وجود النوافذ فى إتجاه حركة الشمس، وهكذا تنفذ أشعة الشمس البيضاء من الزجاج الملون (شرقاً وغرباً) وينفجر مهرجان من الألوان.
عشت- لسنوات- أتأمل البقع اللونية فى النوافذ لدرجة أننى أستطيع- الآن- أن أقول لك أين ستسقط الأشعة الملونة وبقعها، لابل وعلى أى أعمدة المسجد بينما أجلس فى بيتى بالمعادي!»
وقال لى الغيطاني: «الضوء يا عمرو زى الحياة .. يزول بسرعة .. الانحدار والانكسار هما الرحلة كلها.»
وحين انتهت جولتنا فى شارع المعز قصدنا قهوة الفيشاوى لنحتسى كوبين من الشاى بالنعناع الأخضر ونلمع حذائينا، وتبادلنا حديثاً ضاحكاً عن إحدى محاولات جابر عصفور الخائبة للوقيعة بيننا، إذ زارنى جمال فى لندن، ولم أره كثيراً لأنه كان- بانضباط عسكري- يصحو كل يوم ليذهب إلى المتحف البريطانى ويذاكر ما يراه طيلة النهار .. وتصادف أن جاء جابر عصفور بعده إلى لندن وأمضيت معه والناقد العتيد الأستاذ أحمد عباس صالح أياماً بديعة كلها شعر وفن وأخبار وذكريات ونميمة ثقافية كذلك. ويبدو أن جابر أراد أن يثبت لى محبته فى نهاية تلك الزيارة التى اهتممت فيها به كثيراً، وبالطريقة التى يجيدها أخبرنى ما يوغر صدرى على جمال الغيطانى والصديق العزيز الناقد صبرى حافظ، ونسيت الموضوع كله، إذ لا أحب إستدعاء ما يغضبني، إلا أننى (ولا أعرف لماذا) تذكرت الحكاية وانا وجمال نلمع حذاءينا فى الفيشاوي، وخطر لى أن أحكى لجمال الوشاية المقرفة التى حاول جابر طعنه بها، إذ لم يك من العدل أن أحمل تلك الحكاية العفنة وحدي، كما لم يك من العدل- كذلك- أن أترك جمال (على عماه) فيما يتعلق بجابر، بينما هو يغرقنى فى شعور محبة جارف فضلاً عن الإخلاص المتفانى الذى راح يشرح لى به، ليس- فقط قطع الأثر التى تحوطنا، ولكن رؤيته التى اعتصرها عقله ووجدانه لصديق أحبه وأخلص له العمر بطوله منذ حكاية (يوميات شاب عاش من ألف عام) إلى اليوم .. وما أن فرغت من الحكاية حتى انفجرت مع الغيطانى فى ضحك صارخ بل لعلها المرة الأولى التى تعرفت فيها- تطبيقياً- على معنى الضحك ملء الأشداق وقد لفت انتباه الجالسين على المقهى من مشارب مختلفة، وبعض السائحين، ورجل يعزف على العود شادياً: «الحلو مخاصمنى .. شاهدة يامه .. قوليله يامه .. يصالحنى يامه» .. الجميع توقفوا والتفتوا إلينا ونحن نضحك وننثنى وننفرد، ونضرب كفينا ببعضيهما، ثم نعاود الضحك من جديد فطسانين على ما سميته حركات جابر القرعاء!!
............................................
امتد بينى وجمال مودة كبيرة منذ حكاية رفت السادات لمجموعة من المثقفين عام 1981 فى حملة سبتمبر الشهيرة، حين قرر الرئيس إبعاد بعض الصحفيين والمثقفين من أعمالهم الصحفية، وفى ذلك التوقيت كنت فى السادسة والعشرين وأقوم بعمل مدير مكتب جريدة الشرق الأوسط الدولية فى القاهرة بالنيابة، إلى أن أصبحت مديراً له يوم 6 أكتوبر 1981 (يوم اغتيال السادات).
ولا أعرف ما هى طبيعة المشاعر التى دفعتنى إلى اختراق حاجز الرعب البوليسي- وقتها- والاقتراب من بعض أولئك الأدباء والمثقفين وإستئذانهم فى الكتابة لصحيفة الشرق الأوسط، وقد أظهر بعضهم دهشته، وأشفق بعضهم من إسرافى على نفسي، واعتذر بعضهم بلطف ينهى الموقف الذى وضعتهم فيه بما يبدو وكأنه حماقه!
وصدقنى بعضهم وبدأوا العمل معى بتوجس فى البداية، ثم بانطلاق كبير وضمنهم كان الغيطاني، والأستاذ عبد الله إمام، الذى حيا موقفى فى مذكراته على نحو يجاوز ما إستحق، وإن كنت فخوراً جداً بأننى فعلتها، فى زمن كانت سلطة السادات البوليسية لا تسمح بتحدى إرادته وبالذات فى زمن الأزمة التى إستبقت وأعقبت أحداث سبتمبر .. على أية حال إنشغلت أجهزة الأمن عن متابعة فعلتى بحادث اغتيال السادات، وحين تماسكت الأوضاع صار عمل مجموعة الصحفيين والمثقفين المغضوب عليهم معى أمراً واقعاً، وخصوصاً مع أجواء المصالحة التى سادت فى بدايات عهد الرئيس مبارك حين أفرج عن المعتقلين وإستقبلهم فى قصر الرئاسة وبينهم محمد حسنين هيكل الذى خرج ليدلى بتصريح تاريخى .. أكرر (تاريخي) يقول فيه أنه مدين للرئيس مبارك وأنه سيقف معه باستمرار ولن يهاجمه أبداً، وهو- كالعادة- ما فعل هيكل كل شئ إلا مع مبارك!!
كلما تذكرت تلك الحكايات أندهش جداً فقد كنت طوال عمرى بعيد عن (المغامرة) إلا فى حالات الإبداع المهنى أو الأدبي، كما أننى لست من أدعياء البطولة، ولم أحك تلك الحكاية إلا اليوم.
عمل الغيطانى معى وأبدع مجموعة من الموضوعات الصحفية بعضها كان عن العمارة ودرب الطبلاوى حيث يوجد قصر المسافر خانة الذى إحترق عام 1996 (بعد 15 عاماً من كتابة الغيطانى ذلك الموضوع عن القصر الذى كان مقراً منذ 1969 السكنى الفنانين ومنهم عز الدين نجيب، وحامد ندا).
ومن ضمن التحف الصحفية التى أبدعها الغيطانى فى تلك المرحلة تحقيقاً مصوراً عن السجاد، وقد لفت نظرى فبادرته بالسؤال عن حكايته مع السجاد فى أول زيارة عادنى فيها، وقال:»لم أختر السجاد إلا بعد أن دخلت مجاله .. ظروف حياتى أدت إلى دخولى التعليم الفنى .. الوالد كان مصراً أن نحصل (أنا وأخوتى الثلاثة) على الشهادة الكبيرة (الدكتوراه) وقد تحصلها الثلاثة الآخرون، فيما شعرت أن أبى بدأ (يتعب) ولم يعد قادراً على مصروفات تعليمى وهو الموظف الصغير بوزارة الزراعة، ورفض أبى الإقتناع بتأجيل حكاية شهادتى الكبيرة، إلا بعد حلفت له على المصحف، أننى سأواصل مسيرة التعليم، ودخلت إلى عالم مدرسة العباسية الثانوية الفنية قسم: (نسج السجاد)، وكان فى ذهنى أن أتخصص فى نسيج المكن المعقد ولما وجدت نفسى أمام نول مكون من أربع خشبات حدثت لى صدمة، ولكن المدرس قال لى متعجباً أتريد أن تذهب إلى النسيج الميكانيكى وتترك جمال السجاد اليدوي. وتخرجت من المدرسة إلى كلية الفنون التطبيقية التى أمضيت فيها سنتين أدرس الصباغة والطباعة لأننى لم أجد قسماً للسجاد فيها.
علمتنى دراسة السجاد (الإتقان)، كما أنه فن له علاقة بالتاريخ والرمزية، وعلمنى الصبر الشديد وبما إلتقى مع إحدى خصالى الشخصية وهى الدأب والتأني.
بدأت القراءة فى سن مبكرة جداً وأول ما قرأت كان ترجمة للبؤساء من تأليف فيكتور هوجو، ثم بدأت أقرأ (بالتداعي) روايات عن الثورة الفرنسية لأسكندر ديماس، ولما قرأت تاريخ الإسلام لجورج زيدان، رحت أبحث عن الكتب ذات العلاقة بذلك التاريخ،وهنا وجدت السجاد يلتقى مع ذلك الباب الذى إنفتح أمامى لدراسة التاريخ الإسلامي.
أكثر الأنواع قرباً إلى قلبى كان (البخاري) الذى تنتجه بعض القبائل التى تعيش فى أوزبكستان مكان هو جزء من الإمبراطورية الفارسية..كان لكل قبيلة بصمتها والسجادة هى ذاكرتها لأن العلامات فيها مرتبطة بأحداث وسنين زاد فيها الفيضان أو إنفجرت الحروب..وهكذا.
وبعد ذلك أعطى الإسلام للسجاد بعدا رمزيا ودينيا فظهرت الحديقة والجنة على البسط وهو ما يتجلى بشكل صريح فى (شيراز وكرمان) وفى سجاجيدها شجر وطيور تنسخ القاعدة الإسلامية بعدم تصوير المخلوقات على عكس بخارى التى يميزها التجريد وتتسم بلونها الأحمر كفصوص الياقوت، وأشكال زخارفها التى تعتمد المستطيل المتكرر المشطوف من أجنابه، وبداخله أربعة أقسام ترمز للجهات الأربع الأصلية.
السجاد البخارى فيه فكرة اللون الواحد الذى فيه كل الألوان،كمثل الفكرة الصوفية التى ترى الله أصل الأصول..أصل الوجود..الواحد».
وأذكر أن زارنى فى مكتب جريدة الشرق الأوسط بعضاً من كبار أصدقائى وصحبتهم- بعد ذلك- إلى مطعم على سور نادى الزمالك إمتلكه وأداره علاء الحامولي- رحمه الله- لاعب نادى الزمالك والمعلق الرياضى الشهير، وكان إسم المطعم (وايت روك فايف) إشارة إلى لقب ذلك اللاعب ورقم الفانله.
وطلبت من علاء أن يجهز لى وليمة من فتة الكوارع بالموزة وهو ما أقرنى عليه ضيوفى مكرم محمد أحمد وصلاح الدين حافظ رحمه الله، وشريف عطية مدير إعلام رئيس الجمهورية وهو شقيق المحامى الكبير رجائى عطية وتربطهما قرابة لصيقة بمحمد حافظ إسماعيل مستشار السادات للأمن القومي.
وكنت طوال الجلسة، وكلما هم صلاح الدين بالحديث أقول له:»إسكت أنت يا أستاذصلاح إنت أقلية فى القعدة دي»، فلما أبدى إستغرابه فى المرة الأولى لتلفظى بالعبارة، شرحت له أن مكرم وعلاء الحامولى وشريف عطية وأنا منايفة بينما هو من المنيا ومن ثم فلاحق له فى الكلام ديمقراطياً.
وقد سألنى صلاح هامساً:»إنت إزاى صغير كده وبتعرف تشغل ناس كبار زى عبد الله إمام والغيطاني»..ولم أجد ما أرد به على صلاح سوى «حكمة ربنا يا صلاح» فضحك وأردفت بالمصمصة، فضحك أكثر.
وتعود جمال الغيطانى أن يحدثنى عن الموسيقى التركية والغناء الفارسي، حتى أننى أمضيت معظم لقائى به فى لندن لا نتحدث إلا عن تلك الموسيقي، وفى مكالماتنا المعتادة فى بواكير الصبح راح يسمعنى شيئاً من تلك الموسيقى والغناء واضعاً سماعة الهاتف على جهاز التسجيل كما تعود أن يقدم لى شروحاً بديعة عنها..ياليته دونها!!
هو يقول عن الموسيقى إنه كان من جيل تعود السير على نموذج أو باترون لويس عوض (أى قراءة الأدب اليونانى وسماع الموسيقى الكلاسيك) لكن جمال مال أكثر- وبعد مدة- إلى الموسيقى العربية الكلاسيك وكان يواظب على الإستماع إليها من خلال فرقة صغيرة فى المركز الثقافى بالغوري، وأحب- من خلالها- موسيقى عبد الوهاب التجريدية مثل (غزل البنات- فكرة- أسوان) أكثر من غنائه ويقول كذلك:»مرة كنت قاعد بجوار يحى حقى فى الغورى وفاجأنى بقوله: إنت سميع أنا لاحظتك والفرقة بتعزف..عاوزك بالليل تدور على إذاعة إستامبول فى الموجة المتوسطة» طبعا يحيى حقى كان متأثراً بأصوله التركية وقد وجد جمال نفسه مندفعاً وراء الإستماع إلى الموسيقى التركية، مبهوراً- هو- بالصوت الجميل الذى قاده- تلقائياً- إلى المعني، حتى صار خبيراً يدرك الفوارق بين الموسيقى العثمانلية ونغمات الأناضول وديار بكر، وهكذا مشى فى نفس الطريق إلى الموسيقى الفارسية والصينية، وإقتنى مئات الشرائط، ثم صار خبيراً يحضر مؤتمرات عالمية لتلك الأنواع من الموسيقي.
يقول جمال:»أنا- دائماً- باحث عن الخصوصية أحب أن أسمع شيئا لا شبيه له..أيامنا كان النموذج أو المنبع الذى ينبغى أن يتوخاه الأديب هو أعمال «موباسان» أو»تشيكوف»..ولكننى كنت أريد شيئاً مختلفاً، وأنا مدين للقاهرة بتكوني، وعندما قرأت (بدائع الزهور فى وقائع الدهور) لأحمد بن إياس و(خطط) المقريزى وجدت كتابة مختلفة تساءلت: لماذا لا نكتب مثلها؟ ..الكتابة هى صراع بين المعانى الهائمة فى الروح أو الدماغ، وبين الكلمات التى ترسم بالحبر على ورق..وكلما تمكن الأديب تقصر المسافة بين المعنى والكلمة».
وقد وجدت فى لغة القرن 19 ما يحقق لى الخصوصية التى أبحث عنها وأستخدمتها- أولاً- فى (هداية أهل الورى إلى بعض ما جرى فى المقشرة)، ونشرها لى فى (المساء) الأستاذ عبد الفتاح الجمل الذى كان له فضلاً كبيراً على جيلى من الأدباء».. (هكذا قال لى كل الأدباء الذين أعرفهم، ولما إلتقيت عبد الفتاح الجمل- رحمه الله- لمرة واحدة وجدته كبيراً متواضعاً حيياً يكاد ينكر أنه ساعد أحداً)!!
ويكمل جمال:»اللغة حالة وليست أسلوبا، وهى تتغير من عمل إلى آخر، وأنا أجاهد مع اللغة واكتشفها وتكتشفنى من خلال الوصايا والفتاوى والحوليات والأوامر والمراسم..وقد عمقت تجربة التصوف إحساسى بتلك المسألة، لأن التصوف أعلى مستويات اللغة، والمتصوف يكتب من خلال حالة وليس من خلال قالب متسق، وهذا هو الفارق- مثلاً بين الثعالبى وابن عربي.. تلك اللغة- كذلك- ساعدتنى فى التمويه على الوضع السياسى والحالة الثقافية التى كانت سائدة فى الستينيات..إذ أن هناك تشابه أو تطابق بين قيم العصر المملوكى وما هو سائد حتى اللحظة الراهنة وبالذات الإعتماد على المقرب وليس صاحب الكفاءة..ولقد ذهلت- مثلاً- حين قرأت مذكرات عبد اللطيف البغدادي، وتأملت الطريقة التى كانت تدار بها مصر، وإجتماعات مجلس قيادة الثورة وكانت عبارة عن وشايات..فلان قال عليك..وفلان قال عليا»!
ويواصل الغيطاني:»كتبت الزينى بركات- بذلك الإحساس، وأرسلتها للنشر وأجازها الرقيب على أنها مخطوط قديم ولم يفطن لما إحتوته من إسقاط قوى جداً..إذن لعبت اللغة دوراً فى حماية الفكر!..كنت أقرأ المصادر القديمة ونصوص الأدب العالمى الحديث وقدمت خليطاً بين الاثنين..ولا أعتقد أن أحداً من الأدباء المصريين دخل إلى العائلة العالمية سوى نجيب محفوظ، إذ له القدرة مثل تشيكوف على كتابة- حتي- نص صغير لكن فيه أكثر من مستوى للفهم والإدراك، وهو ما أسميه: (الطبقات السحرية) التى جعلتنى أفهم أعمال تشيكوف- مثلاً- بطريقة مختلفة كلما عدت إليها بمستوى ثقافة وإدراك مختلف..نعم هو نجيب وحده الذى بلغ ذلك القدر أما الباقون فهم slory-tellers أو حواديتجية»!!
ذلك النظام الصارم الذى يخضع الغيطانى نفسه له فى كل شىء حتى إبداعه يدفعنى إلى معاودة قراءة دراسة مهمة جداً خطها خوان جويتيسولو الكاتب فى الأسبانى وترجمها طلعت شاهين بعنوان: الأصالة والمعاصرة فى أعمال جمال الغيطاني.
«الغيطانى يهرب من شراك الخطاب المتكرر (التبنى الأعمى لقوالب واقعية القرن19) والتأثيرات المبالغ فيها لكتاب أساسيين من السهل تقليدهم (كافكا وفوكتر وجارسيا ماركيز)، وكذلك يتفادى الوقوع فى شراك دوامة الطليعية التى تستهلك نفسها دون فائدة ترجى منها، كما أن كتابة الغيطانى بعيدة عن خطر الجماعات المتكونة عبر تراكمات فنية وأدبية متعالية من الإبداعات ذات الدسامة المترهلة..الغيطانى يقرأ القاهرة كنظام يؤكد ماضيه الخاص، وهو ما يجعله يمتلك إمكانية مواجهة الحاضر بطريقة متوافقة مع الزمن تماماً.
..........................................................
هذا (النظام) الذى أخضع الغيطانى نفسه إليه كان يبدو لى ومن خلال علاقتى الطويلة به عملاً أشبه بالنقش الدؤوب على النحاس الذى عاش وسط حرفييه سنوات مازال يذكرها بالخير..سقا الله أيامها.
وحول فرط انضباط الغيطانى وانصياعه (للنظام) تحضرنى خاطرة مضحكة إذ أنه تعود على إفطار خاص لا يتناول سواه منذ أربعين عاماً هو الزبادى (كان فى السلطانية الفخار زمان ثم- الآن- نوع من الزبادى الفرنسى له شركة أصبحت تنتجه فى مصر) ومعه ملعقة من عسل النحل وأخرى من زيت حبة البركة، وهو يؤكد لى كلما جاء ذكر ذلك الانضباط الغذائي: «أنه يقوى جهاز المناعة وبالذات مع الشيخوخة»..ثم يردف بإخبارى عن مقولة لنجيب محفوظ هي: (المعدة على ما تعودها) وفى المرات الثلاث والتسعين التى حكى لى فيها من الغيطانى موضوع الإفطار على امتداد ربع قرن لم ينس أن يخبرنى بمقولة نجيب!!.
......................................................
وفى عام 1987 بدأ صديقى الأستاذ عصام رفعت رئيس تحرير الأهرام الاقتصادى مشروعاً جاهد لينقل مجلته من الشكل الجامد ثقيل الظل البعيد عن الاحتياج الصحفى إلى شكل عصرى يراعى بعض الاعتبارات المهنية، وهو ما قاومته إدارة المؤسسة التى كانت تخاف نجاح أى من قيادات الصف الثانى لكيلا يكون النجاح طريقها للترشح إلى مقعد رئاسة التحرير فى الجريدة الأم، إذ كان رئيس المؤسسة أشبه بالإمبراطور الرومانى الذى خاف من نبوءة ميلاد عيسى فراح يقتل الأطفال لكيلا يظهر فيهم مسيح!!.
نهايته..بدأ التطوير الذى خاض عصام رفعت تجربته ضد إرادة قيادة المؤسسة، وضد الجمود الإيديولوجى الذى استملك من عقول بعض العاملين فى ذلك المطبوع وجعلهم يتصورون أن نوع أفكارهم لا يتناسب مع تطورات المهنة على الرغم من أن أيديولوجياتهم الفكرية مكتظة بأفكار عن (التقدم) و(التغيير).
وضمن التطوير طلب منى عصام أن أكتب سلسلة من الحوارات فى الاقتصاد، فأجبته: لو كان من تطلبه مع اقتصاديين فسوف لا يكون جديداً، وهناك من هو أفضل منى ليثرثر معك أو مع القارئ حول آراء لمتخصصين يوغلون فيها إلى مزيد من التخصص، والجديد- بالنسبة لي- أن أجريها مع عناصر من النخبة الثقافية فى البلد لا علاقة لها بالإقتصاد (هذا وقت أن كانت هناك نخبة فى البلد وليس مجموعة من الرعاع المتنطعين المتلطعين على أبواب القنوات الفضائية أو مداخل السفارات الأجنبية يبحثون عن فرص الظهور والشهرة والمال).
وافق عصام رفعت وبدأت- فعلاً- تلك السلسلة بحوار مع نجيب محفوظ، وسلكت درب مشروع صحفى كبير هو: (صالون الاقتصادي) تتابعت معى فيه أسماء كبيرة لرموز الثقافة والأدب والصحافة الذين شعرت أننى أقود بهم مظاهرة أطلقت عليها اسم أحد أهم أفلام جان لوك جودار «على آخر نَفَس» إشارة لكونها محاولة أخيرة وتتبنى مشروعا للتغيير، إلا أن المحاولة لم تتوقف حتى بعد 27 عاماً من إطلاقها وتجددت تحت مسميات مختلفة احتضنت مقالاتى أو حواراتي.
وضمن من أضاءوا ساحة (صالون الاقتصادي) كان جمال الغيطانى الذى جاء حديثه ضمن حملة قادها أدباء أعضاء فى حزب التجمع فيها قراءة نقدية لحزبهم، اندمج فيها البعض مسايرة للموجة، فى حين قدم البعض وثائق سياسية هى فى أبسط أوصافها (تحليل تاريخي) للمرحلة، وانتهت حوارات الأدباء التجمعيين برد مطول للأستاذ خالد محيى الدين، وهو رجل طيب وطنى وفاهم وصلب جداً، ومن فرط طيبته أن «فرجني» قبل بدء الحوار ورقة أرسلها إليه حسين عبد الرازق الذى كان يشغل منصب قيادى فى الحزب يقترح فيها ردوداً بعينها على أدباء الحزب الذين تمردوا فى حواراتهم معى بشكل غير مسبوق..إلا أن الأستاذ خالد أزاح تلك الورقة جانباً بعد أن أطلعنى عليها، وقرر أن يتحدث بحرية نعم..بحث الرجل عن الحرية فى مارس 1954، وبحث عنها خارج أطر زنازين عقائدية وحزبية حاولت- دائماً- محاصرته.
.........................................................
مرة أخري..نهايته..
قال جمال الغيطانى لى فى حواره بصالون «الاقتصادي»:
أمراء الانفتاح شديدو الشبه بأمراء العصر المملوكى الثاني..الفلاح المصرى لم يهجر أرضه أيام الشدة المستنصرية ولكن الانفتاحيين ورموزهم السياسية شجعوه تشجيعاً منتظماً على الهجرة منذ السبعينيات..طبقة الباشوات قبل ثورة يوليو كانت أكثر أصالة من طبقة الانفتاح لأنها كانت فى موقعها الطبيعى من السياق التاريخي..كتبت استمارة فى حزب التجمع عند نشأته ولكننى لم أشعر- يوماً- أننى عضو فى ذلك الحزب..التجمع تمثيل لليسار المصرى ولكنه رأس بلا جسد..امتناع اليسار عن دخول معارك ضد الأعداء الحقيقيين ليوليو سواء فى الوفد أو التيار الدينى هو لون من ألوان الإنتهازية السياسية..أشعر أن هناك ضرورة لظهور حزب يسارى جديد..كل فصائل المعارضة تنافق وتتملق التطرف..التيار الدينى أخذ أسلوب اليسار وتحرك به ففاز- حتي- بأصوات العمال فى الدوائر التى كان اليساريون يعتبرونها ملعبهم).
كان حواراً نارياً..وعمدت إلى أن أقدم له بشقفة من كتاب «التجليات» للغيطانى إخترتها بعناية شديدة.
«الموت موتان..موت أعظم وموت أصغر..أما الموت الأعظم فيتمثل فى السكوت على الجور والتغاضى عن الزيف وإخماد الضمائر، وغض البصر عن الحق المهضوم، والإنشغال عنه بطلب المنصب الزائف والمال المكتنز، كذا الرضا بالأمر الواقع والنأى عن محاولة تغييره والتقاعس عن الجهاد.
..أما الموت الأصغر فهو بطلان الحواس وتوقف الأنفاس وهجوع القلب وبرودة الجسد عند مفارقة الروح ويبوسة الأطراف».
....................................................
ومن أكثر ما لفت نظرى فى شخصية جمال الغيطانى الروائى العالمى أوجه متعددة لإبداعه ولإهتماماته فهو كاتب العمود اللاذع الذى نذر قلمه لمحاربة التطرف وهو الذى إستنطق كبار الصحفيين ومنهم مصطفى أمين فى سلاسل لا تنسى من الحوارات والكتب وهو- طبعاً- الروائى صاحب الصيغ الفريدة والتراكيب اللغوية والفكرية المدهشة التى تبدو كتابتها مغامرة وقراءتها مغامرة كذلك- مقصدها الإستكشاف ونجاحها الإكتشاف.
ولكن واحداً من أهم جوانب فيض الإبداع ذلك الرجل هو عمله كمراسل حربى لأخبار اليوم، وبما طبع شخصيته- قبل نتاجه- بسمات الجيش فى وطنيته وإنضباطه وجديته وإستقامته وعدالته.
هو الذى كتب- للمرة الأولي- عن قائد الصاعقة إبراهيم الرفاعى الذى يقدمه لنا البعض فى التليفزيون والصحافة الآن على أنهم (إكتشفوه) فيما لم يره أحد بعينه قبل إستشهاده.
وهو سريع التلبية لخوض كل معارك الجيش، ولعمرى لم أرى جمال متألماً وغاضباً قدر مارأيته حين رفع البعض من النشطاء الساقطين والسياسيين المنحطين (وبعضهم يصدغ الآن متصدراً قوائم الترشح للإنتخابات البرلمانية المقبلة) هتاف:»يسقط..يسقط حكم العسكر»
كنت أداعبه فأقول: (أنت الرجل الذى جَيَشَ الصحافة) فيرد المداعبة: (وأنت الرجل الذى صَحَفَ الجيش) إشارة إلى جنديتى وقد أمضيتها عسكرياً فى مجلة النصر التى تصدرها القوات المسلحة.»
........................................................
سيبقى الغيطانى العلامة الأهم ونقطة إشارية دالة على جيل من المبدعين أطلق عليه عبارة محيى الدين بن عربي: (يمشون على الأرض وهم شهداء).. سيبقى جمال الأهم إذ لا تتجدد أهمية الكاتب بحفل مقرف يقيمه وزير الثقافة ويدعو إليه من يتصور أنهم سيتوسطون له فى الرئاسة لتمديد بقائه على كرسى الوزارة.. ويتحدث فيه كل من ليس له علاقة بالأدب بوصفه سلطة نقد وسلطة تقييم وسلطة تصعيد وسلطة إصدار أحكام!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.