محمد بركات هل سنسير قدما في إقامة العاصمة الجديدة أم سيبقيالحال علي ما هو عليه وتظل القاهرة كما هي؟! فجأة ودون سابق إنذار تذكرت القاهرة وهي خالية من الزحام، هادئة وجميلة، وخالية من التلوث السمعي والبصري وغيرهما من الملوثات والمنغصات،...، كنت سائرا علي هدي، ذاهبا لقضاء أمر من الأمور الحياتية، عندما ساقتني قدماي إلي وسط البلد بعد أن تمت أخيرا وبنجاح محاولات إعادته إلي سابق عهده، وصورته القديمة التي كدنا ننساها، أو نسيناها بالفعل طوال السنوات الثلاث الماضية منذ احتلاله بقوة الأمر الواقع والصوت العالي من جانب البعض منا ممن أطلقوا علي أنفسهم وأطلقنا عليهم الباعة الجائلين. تذكرت تحت وقع العودة بقلب القاهرة إلي ما كان عليه من هدوء وجمال، ذلك الإحساس المفعم بالراحة والإنشراح، الذي انتابني خلال أيام عيد الفطر الماضي وأنا أتجول في القاهرة بعد أن خلت من غالبية سكانها الذين غادروها إلي أماكن أخري لزيارة أهلهم في موطنهم ومحافظاتهم الأصلية، أو هربوا منها إلي المدن الساحلية بحثا عن نسمة هواء نقية ومنعشة. اختفاء كانت القاهرة «شكل تاني».. شكلا مختلفا عما ألفناه واعتدنا عليه وتأذت أعيننا به،..، فلا زحام ولا أزمة مرور ولا أبواق سيارات ولا ضجة ولا ضجيج،..، الطرق شبه خالية، والشوارع تخلصت من آلاف.. بل ملايين السيارات التي كانت مكدسة ومحتشدة بها طوال اليوم وفي كل ساعة من ساعات النهار أو الليل، كما اختلفت أيضا مئات بل آلاف السيارات التي كانت مركونة بجوار الأرصفة وفوقها أيضا بلا نظام وبلا ضابط ولا رابط. رائحة الهواء مختلفة، غير مخلوطة بعوادم السيارات ودخان الشكمانات وذرات الهباب والتراب العالقة بها والتي جعلت لهواء القاهرة رائحة خاصة منفرة، ثقيلة وخانقة،...، والآن هي مختلفة بلاشك. ليس هذا فقط، بل جحافل الناس اختفت أو قلت بصورة واضحة ولافتة،..، حيث ذهب الناس إلي أهلهم خارج القاهرة، واختفت تلك الحشود البشرية التي كانت تتزاحم وتتدافع في شوارع وطرقات القاهرة طوال أيام الأسبوع، وفي كل الأوقات بلا هوادة وبلا راحة ليلا أو نهارا، وكأنهم في مولد وصاحبه غائب، ولكنه مولد بلا موعد سنوي محدد لانعقاده أو الاحتفاء به، وهو مولد لا ينقضي فهو قائم ومستديم في كل لحظة وكل يوم، وفي كل شوارع وحارات وأزقة وميادين القاهرة منذ شروق الشمس وحتي ما بعد منتصف الليل، بل وحتي مطلع نهار أو صبح اليوم التالي، دون توقف ودون راحة،...، كل يوم السيرك منصوب في الشوارع وجميع مخاليق ربنا محشورة في الشارع أيضا، والشوارع كلها مخنوقة بالناس والسيارات وجميع وسائل النقل الثقيل منها والخفيف، الخاص منها والعام، الكل يندفع ويتدافع،...، وبين كل منهم وأمامه أو خلفه هناك ميكروباص يتمايل وينحرف يسارا ويمينا دون مراعاة لأبسط قواعد المرور أو آداب السير في الشوارع والطرقات،..، ووسط كل هذا ومن قبله ومن بعده هناك العشرات بل المئات،..، لا بل الآلاف المؤلفة من الباعة الجائلين الذين امتلكوا كل ميادين وشوارع وأرصفة ونواصي القاهرة. كل ذلك لم يكن موجودا، اختفي، تبخر، وكانت القاهرة بدون ذلك شكلا مختلفا أهدأ وأجمل كثيرا مما اعتدنا عليه. 15 مليونا هذا الذي رأيته في القاهرة من اختلاف هادئ وجميل كان رائعا في وقعه وتأثيره عليّ،..، وأظن علي غيري أيضا، ممن ضاقت نفوسهم بما يتعرضون له من معاناة يومية وعنت دائم، وسط زحام القاهرة وتكدسها وتلوثها الهوائي والسمعي والبصري الدائم والمستديم، وما يحتشد بها من البشر وجميع الكائنات الأخري،...، هذا إذا كانت الظروف قد أتاحت لهم رؤية ما رأيت، ومشاهدة ومعايشة القاهرة في ثوبها المختلف، وقد تخففت من سكانها، ونفضت عن نفسها جميع المنغصات المحشورة في داخلها رغما عنها، حيث إنها كانت مصممة لأن تكون في الأصل والأساس عاصمة لمصر، فإذا بها تتحول إلي موئل ومرتع وسوق لكل مصر... ومسكن ومأوي لربع أهلها تقريبا،..، وهو عدد هائل لو تعلمون. وحتي نتخيل حال القاهرة الذي لا نحس به رغم أنه يكاد يخنقنا جميعا، إن لم يكن قد خنقنا بالفعل، فعلينا ان نعلم أن تلك المدينة المسكينة كانت عاصمة للدولة المصرية، حينما كان تعداد مصر كلها لا يزيد علي بضعة ملايين تعد علي أصابع اليد الواحدة، وكان سكانها وهي العاصمة الجديدة لا يزيدون علي بضعة آلاف، ثم إذا بها تتوسع وتتضخم وتمتليء وتنتفخ علي مر السنوات والعصور، كي تصبح الآن محشورة بما يزيد علي الخمسة عشر مليونا من البشر، بل وعلي الأرجح أصبح هذا العدد يقترب كثيرا من العشرين مليونا. ترحيل النازحين ورحلة البحث عن حلول لوضع القاهرة غير المحتمل ومشاكلها التي لم تعد تطاق، ليست طرحا جديدا أو فكرة مبتكرة، حيث انها علي عكس ذلك كانت قضية مطروحة علي بساط البحث والمناقشة، من جانب الحكومة وجميع المسئولين، بل والرؤساء أيضا، خلال السنوات الماضية، وحتي الآن. ولنا أن نتخيل ان هذه القضية شغلت الرئيس جمال عبدالناصر في بداية حكمه وبعد سنوات قليلة من قيام ثورة 23 يوليو 1952، وبالتحديد خلال تولي عبدالناصر رئاسة الوزراء وتولي زكريا محيي الدين وزارة الداخلية، وهو ما دفع الحكومة وقتها لبحث المشكلة وكيفية علاجها، بعد أن طفحت علي السطح، وأصبح واضحا أن هناك أعدادا كبيرة للنازحين إلي القاهرة من أبناء الأقاليم والمحافظات الأخري، وخاصة محافظات الصعيد،..، وان غالبية هؤلاء النازحين ليس لهم عمل ولا مساكن مناسبة للإقامة المستديمة أو الدائمة، وهو ما أصبح عبئا علي العاصمة يصعب استمراره أو القبول به. وأذكر، ان لم تخني الذاكرة، نظرا لحداثة السن في ذلك الوقت، ان وزير الداخلية قد اتخذ قرارا في ذلك الوقت بإخلاء القاهرة من النازحين أو الوافدين إليها من المحافظات الأخري، ممن ليس لهم عمل بها، وممن ليس لهم مكان إقامة أو مسكن مناسب ومستديم بها،...، ومن البديهي أن هذا القرار لم يكن نتاج رؤية وزير الداخلية وحده، ولكنه كان معبرا عن رؤية الحكومة كلها. وأذكر، ان هذا القرار قد أحدث ضجة في ذلك الوقت، ولاقي ارتياحا من البعض، ولكنه أيضا لم يجد ترحيبا من البعض الآخر،..، وفي كل الأحوال فإنه لم ينفذ، وتم التراجع عنه بعد فترة. العشوائيات بعد فشل فكرة ترحيل النازحين للقاهرة من المحافظات الأخري علي إثر تراجع الحكومة عن الفكرة أو غض الطرف عنها، في الخمسينيات، شهدت القاهرة بداية توسع وامتداد عمراني شديد في جميع الاتجاهات شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، ولكن من المؤلم والمؤسف في ذات الوقت ان بعض هذا التوسع والامتداد كان مخططا وتحت نظر الدولة، ولكن الكثير منه لم يكن خاضعا للتخطيط أو رقابة الدولة. وهو ما أدي إلي تآكل الغالبية العظمي من الأراضي الزراعية التي كانت تحيط بالقاهرة من جميع الاتجاهات، وتحولت إلي غابات أسمنتية ومبان بشعة غير متسقة، ومناطق عشوائية غير مؤهلة للإقامة أو السكن المناسب للحياة الإنسانية الكريمة. ومع تفاقم المشكلة، وتحول القاهرة إلي كيان ضخم مكتظ بالسكان، وعجزها عن توفير الخدمات والمرافق اللازمة والمناسبة لكل سكانها، وتدهور حالة هذه المرافق وقصورها المستمر، لم يجد الرئيس السادات في السبعينيات من القرن الماضي حلا لهذه المشكلة المستعصية، سوي ان يطلب من الحكومة القائمة في هذا الوقت، ضرورة أن تبحث عن وسيلة فعالة للقضاء علي المشكلة، وعلاجها علاجا ناجزا ونهائيا. السادات كان الرئيس السادات قد خرج منتصرا في حرب أكتوبر 1973، وبدأ في إعادة اعمار مدن القناة التي كانت الحروب قد دمرتها تماما منذ عام 1967 حيث النكسة وطوال حرب الاستنزاف، وصولا إلي العبور ونصر أكتوبر. وفي ظل هذا الإنجاز الرائع نشأت فكرة إقامة عاصمة جديدة بدلا من القاهرة، وبالتحديد عاصمة إدارية جديدة يتم نقل جميع الوزارات والمؤسسات والإدارات الرسمية لها، بحيث تتخفف القاهرة تدريجيا من أحمالها الإدارية الضخمة والمتعددة، التي جعلت منها مركزا ومقرا لجميع الوزارات والإدارات، وبذلك يقل الاقبال عليها ويتحول الجذب والثقل إلي مكان جديد وعاصمة جديدة يمكن السيطرة عليها بالتخطيط والمتابعة. وكان الحل هو أن تكون مدينة السادات هي العاصمة الجديدة، وهي البديل عن القاهرة المتضخمة والمكتظة والمزدحمة وغير المحتملة والتي أصبحت لا تطاق ولا تحتمل. لا تغيير وفي هذا الاطار تم فعلا اختيار مدينة «السادات» الواقعة في مكان متوسط علي الطريق الصحراوي القاهرةالإسكندرية وفي موقع قريب من محافظة المنوفية وأيضا البحيرة وغيرهما من محافظات الدلتا، وفي نفس الوقت تكون بعيدة بعدا كافيا عن القاهرةوالإسكندرية، بحيث لا يكون هناك تخوف أن تتحول إلي امتداد عمراني لهذه المدينة أو تلك،...، وتم بالفعل خلال الثمانينات والتسعينيات إقامة عدد من المباني والإنشاءات اللازمة لنقل الوزارات إليها استعدادا لوضع القرار موضع التنفيذ، وبحيث تصبح مدينة «السادات» هي فعلا وقولا العاصمة الإدارية للبلاد،..، ولكن الأمر لم يتغير، واستمر علي ما هو عليه مع انتهاء القرن العشرين، وحتي بداية القرن الحادي والعشرين، بل واستمر أيضا علي ما هو عليه طوال السنوات العشر الأولي من الألفية الثالثة، وما بعدها وحتي الأمس القريب، عندما أعلنت الحكومة عن التفكير في إقامة عاصمة جديدة بدلا من القاهرة علي أن تكون علي طريق القاهرةالسويس الصحراوي، مع رؤية متكاملة للعاصمة الحالية والعاصمة الجديدة. وطبقا لما هو معلن فإن الموقع المقترح للعاصمة الإدارية الجديدةيقع بين طريقي «القاهرة العين السخنة» و«القاهرةالسويس الصحراوي» علي أن يتم نقل جميع الوزارات والإدارات الحكومية إلي العاصمة الجديدة كما كان مخططا من قبل، وتبقي القاهرة كعاصمة تاريخية ذات طابع ثقافي وتراثي وحضاري عام كما ذكرنا سابقا،...، وبذلك تكون العاصمة الجديدة أكثر اقترابا من البحر الأحمر،..، وهذا يعني الكثير. سؤال؟ والسؤال الآن: هل سنسير قدما في إنشاء وإقامة العاصمة الجديدة؟!،..، أم سيبقي الحال علي ما هو عليه وتظل القاهرة كما هي، ونحن كما نحن؟!،..، سؤال ستجيب عليه الأيام القادمة.