ولقد تأثر الفتي بعد ذلك كما لم يتأثر في حياته «بنكسة 1967» التي كانت صدمة عصبية ونفسية لمن آمن «بعبد الناصر» ولايزال فكانت مرارة الهزيمة لديه أشد وطأة من أي صفعة تلقاها في حياته. تصادف ميلاده في ذات اليوم الذي رأت فيه كوكبة متألقة نور الحياة وفي الرابع عشر من نوفمبر بدأت أنفاسه الأولي تدب في جسده إنه نفس اليوم مع اختلاف السنين الذي ولد فيه عميد الأدب العربي «طه حسين» ورئيس وزراء «الهند» العظيم «جواهر لال نهرو» وملك الأردن «الحسين بن طلال» وولي عهد بريطانيا الأمير «تشارلز» وغيرهم من رموز الزمان والمكان في مسيرة الإنسان، وجاء ميلاده في قرية تشم منها رائحة التاريخ إذ أن قرية «كوم النصر» مركز «المحمودية» محافظة «البحيرة» قد قامت علي أنقاض قرية فرعونية قديمة تعود الناس أن يطلقوا عليها «الكوم الكفري» وآلت ملكية أراضيها مع عدد من القري المجاورة لها لعصامي مصري امتلكها لما حققه من أرباح في تجارة القطن منذ بدايات القرن العشرين وهو «المغازي باشا» الذي يمت لصاحب هذه السطور بصلة قرابة مباشرة فهو الخال المباشر لجدتيه «ست عبد ربه» أم أبيه و «ياسمين ونس» والدة أمه فعاش صاحبنا حياة ريفية متميزة فهو ابن موظف نشط وقريب من الباشا الكبير عضو الهيئة الوفدية العليا في عصري «سعد زغلول» و«مصطفي النحاس» وهو أيضاً يدرس في مدرسة قريبة من قريته تعتمد أسلوباً حديثاً في التربية تحت مظلة «وزارة المعارف»، ولقد ظل الفتي أول دفعته بل ومدرسته في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية بل لقد تفوق في الشهادة الإعدادية لكي يكون الأول علي مديرية «البحيرة» وتأهل للدراسة في مدرسة «المتفوقين» ويبدأ خطواته الأولي في النشاط العام «رئيساً لاتحاد طلاب المحافظة» تحت رعاية المحافظ الفريد من نوعه «وجيه أباظة»، وفي يوم انفصال الوحدة المصرية السورية ألقي صاحبنا كلمة وطنية مؤثرة في طابور الصباح شدت إليه الأسماع والأبصار والأفئدة حتي ظنه «حسين» ابن المحافظ مدرساً وليس فقط طالباً، وقد اعتملت في قلب الفتي وعقله تصورات ذاتية عن الحياة والناس والدين فاستغرق في أداء الصلوات وانتظم علي طريق الكتاب الكريم والسنة المحمدية متسائلاً في أعماقه عن سر الكون وفلسفة الخلق حتي اضطربت لديه بعض المعايير واهتزت في صراع مباشر بين عقله وقلبه نوازع الإيمان ودوافع اليقين وتبلورت شخصيته علي نظرية الشك الذي يغلفه نوع من الخوف أمام العجز في تفسير حقيقة الموت حتي كانت إحدي خالاته تخيفه طفلاً بوصول «يوم القيامة» إلي محطة القطار فأصبح كل شئ يقدم عليه الفتي مغلفاً بأوهام ومخاوف ومحاذير مضت كلها معه علي طريق الحياة تطفو علي السطح أحياناً وتستقر في الوجدان دائماً، ومن هنا تولدت مفاتيح شخصيته فهو شديد الإيمان بقيمة العدل، شديد النصرة لمفهوم الحق، شديد الحساسية لقيم الجمال، يسعي دائماً في الخير، يخاصم الشر، يرغب في إرضاء الجميع، ولقد فقد في مطلع طفولته الباكرة أخاه «يحيي» الذي ولد لديه حزنا دفينا لازال يعاوده حيناً بعد حين وهو يتذكر دموع أمه وجده علي رحيل الطفل الجميل الذي كان يصغره بأعوام ثلاث حيث أفلت فتانا من وباء «التيفود» والذي اختطف عدداً كبيراً من أطفال ذلك الزمان مع نهاية أربعينيات القرن العشرين، وظل طالباً مرموقاً في مدرسته محبوباً من زملائه متعلقاً ببعض أساتذته فتعلم المنهج العلمي في التفكير من «عوض حنا» مدرس الرياضيات الذي غرس لديه القدرة علي الوصول إلي المطلوب من خلال القياس الصحيح والاستبعاد الدقيق بين فرضيات النتيجة للوصول إلي الإجابة الصحيحة، كما كان تفوقه في اللغة العربية علامة بارزة في مسيرته الخطابية سواء في المدرسة أو الجامعة، وعندما التحق بكلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» مختلفاً عن معظم أقرانه الذين يتجهون إلي جامعة «الإسكندرية» التي لا تبعد إلا ستون كيلو متراً عن قريته بدأت اهتماماته في التبلور وشخصيته في الاكتمال، وفي إحدي المناسبات الوطنية في العصر الناصري حيث المد القومي والمشاعر العربية الكاسحة دعاني أستاذي الدكتور «ثروت بدوي» لإلقاء كلمة أمام طلاب الكلية وكانت البداية فقد حظيت بعد ذلك بشعبية طلابية كبيرة حتي انتخبت في العام التالي «رئيساً لاتحاد طلاب الكلية» ثم حزت علي الجائزة الأولي في «الخطابة» في أسبوع شباب الجامعات حيث انعقدت المسابقة في قاعة الإمام «محمد عبده» بجامعة «الأزهر» التي شاء الله أن يأتيها الفتي بعد ذلك محاضراً بدعوة من رئيس الجامعة في عدد من المناسبات، كما نال الفتي الجائزة الأولي في «المقال السياسي من «المجلس الأعلي للعلوم والفنون والآداب» وكان موضوعه يدور حول «دور الهاشميين في التاريخ العربي الحديث»، كما نال جائزة مماثلة حول دراسة بعنوان «ذبائح الليل» تعرض فيها لتأثير الفقر علي سقوط المرأة في براثن الرذيلة، وعندما بدأت تجربة منظمة «الشباب الاشتراكي» وجاءته دعوة للانضمام إليها من الدكتور «حسين كامل بهاء الدين» مؤسسها وأمينها العام كان صاحبنا مبادراً ونشطاً ومتألقاً حتي جري تعيينه في «اللجنة المركزية» للمنظمة مسئولاً عن التثقيف لكل شباب العاصمة المصرية، وفور تخرجه استدعته «المخابرات العامة» ضمن مجموعة من زملاء دفعته ورفاق دراسته لاختبار الالتحاق بذلك الجهاز السيادي الأمني الكبير وكان من بين الأسئلة المطروحة سؤال بعنوان هل أنت عضو في تنظيم سياسي أو تجمع شعبي آخر؟ فأجاب الفتي في براءة وصدق كلفاه دائماً الكثير بأنه عضو في «التنظيم الطلائعي» الذي جري تجنيده فيه بعد لقاء منفرد بينه وبين السيد أمين عام «الاتحاد الاشتراكي العربي «نائب رئيس الجمهورية» «علي صبري» في مكتبه بينما كان لايزال الطالب في سنته النهائية بكلية «الاقتصاد والعلوم السياسية»، لذلك استدعي الأمر بعد عدة شهور نقله من علي قوة «المخابرات العامة» ليكون ضمن قائمة المعينين بقرار جمهوري بدرجة «ملحق دبلوماسي» في 8 ديسمبر1966 ، ولقد تأثر الفتي بعد ذلك كما لم يتأثر في حياته «بنكسة 1967» التي كانت صدمة عصبية ونفسية لمن آمن «بعبد الناصر» ولايزال فكانت مرارة الهزيمة لديه أشد وطأة من أي صفعة تلقاها في حياته علي امتدادها، فقد اختفي أخاه الأكبر لعدة أسابيع في المعتقلات الإسرائيلية إلي أن عاد هارباً من الأسر بمعجزة إلهية هدية سماوية لأبويه الطيبين، ومضت رحلة الحياة بالشاب ابن القرية والمدينة معاً ليقترن بزميلته الصغيرة في منظمة «الشباب» التي كانت قد تخرجت لتوها من مدرسة «الليسيه» لتخطو نحو دراسة الصحافة في جامعة «القاهرة»، بينما التحق خطيبها «بمعهد الدراسات الدبلوماسية» الذي صار بعد ربع قرن مديراً له، وفور انتهاء دراسته التجريبية في «معهد الدراسات الدبلوماسية» التي تعرف فيها علي رائده وقدوته صديقه «أسامة الباز» صدرت الحركة الدبلوماسية بنقله إلي القنصلية العامة في «لندن» التي كان يترأسها القنصل العام «محب السمرة» المعروف بالكرم والكفاءة واتساع شبكة المعارف والأصدقاء، ولقد تشكلت لدي الفتي في تلك المرحلة رؤيته لمعظم الشخصيات العامة وكبار المسئولين الذين عرفهم بعد ذلك من المترددين علي مبني القنصلية بدءاً من الجراح العالمي الذي نفتخر به «مجدي يعقوب» مروراً «بتوفيق الحكيم» و«يوسف إدريس» وصولاً إلي الدكتور «إبراهيم بدران» الموسوعي الوطني والجراح الكبير إلي جانب حشد من الأدباء والفنانين الذين تعلم منهم صاحبنا الكثير وتكونت له ببعضهم صداقات امتدت لعشرات السنين، ثم بدأ هاجس الدراسات العليا يطفو علي السطح خصوصاً أن صاحبنا كان قد أنهي بنجاح دراسته في السنة الإعدادية «للماجستير» وبدأ يتأهل لكتابة أطروحته للدكتوراه تحت إشراف أحد أساتذته الراحلين فتقدم الفتي بتوصية من أستاذه «د.بطرس بطرس غالي» وأستاذ آخر من أصل مصري في جامعة «أكسفورد» هو «د.رؤوف كحيل» إلي كلية «الدراسات الشرقية والإفريقية» التي وقفت وراء تأسيسها «وزارة المستعمرات البريطانية» في مطلع القرن الماضي تحت مظلة جامعة «لندن» حيث كان يقبع علي كرسي دراسات «الشرق الأوسط» فيها الأستاذ الشهير «فاتيكيوتس» وظل الفتي متأرجحاً بين موضوعات الدراسة المختلفة حتي نصحه الأستاذ المشرف بأن يختار موضوع «الأقباط في السياسة المصرية» مع دراسة تطبيقية عن «مكرم عبيد باشا» سكرتير عام «حزب الوفد» لسنوات طويلة فكانت منعطفاً هاماً في حياة ذلك الشاب المصري الذي يشده الفضول إلي المعرفة وتشغله هواجس المستقبل.