حمدى قنديل للأمر وجه آخر فمعظم مذيعي «التوك شو» الذين ملأهم الغرور فأخذوا يصيحون في مشاهديهم كل ليلة ناصحين مرة ومحذرين أخري، بل إن الأمر تعدي ذلك إلي سبهم أحيانا. يعرف العزيز الأستاذ ياسر رزق كم ترددت في تلبية دعوته لكتابة هذا المقال، وحاولت تأجيله أسابيع، رغم مكانة دار « أخبار اليوم « لدي، وهي التي خطوت فيها أولي خطواتي في دنيا الصحافة منذ أكثر من خمسين عاما، ورغم تقديري له كنجم متفرد في صحافة مصر اليوم.. لم أشأ أن ينشر أول مقال لي عن الإعلام الآن في الوقت الذي يتعرض فيه الإعلام لهجمة قاسية مستحقة بعد أن انفلت عياره حتي هدد مصالح مصر القومية في الخارج وزيف وعي مواطنيها في الداخل.. كنت أري أن ما كُتب في الصحف في الأيام الأخيرة يكفي وزيادة، لكنني رضخت في النهاية لنشر المقال لسبب وحيد : أنني أريد للجميع أن يعرف أن هذا الأداء الأخرق للإعلام هو أيضا محل سخط الإعلاميين أنفسهم.. فيما يتعلق بي فقد ظللت طوال حياتي المهنية أعمل من أجل الارتقاء بالمهنة، سواء أثناء عملي بمنظمة اليونسكو أو باتحاد الاذاعات العربية.. وعندما قدمت برامجي خلال القنوات العربية الحكومية والخاصة حرصت علي هدف واحد أن الإعلام رسالة.. وفي السنوات الأخيرة عندما ابتعدت عن الشاشة سجلت رأيي بوضوح في السقوط المدوي للإعلام الذي كان أبرز كبواته أزمة مباراة الكرة بين مصر والجزائر في 2009.. وقتها كتبت في « المصري اليوم « أقول إن الإعلام الرياضي « أودي بنا إلي كارثة تحمل مسئوليتها بالدرجة الاولي دكاكين بعض البرامج الرياضية التي أصبحت كيانات شبه مستقلة داخل قنواتها، تعمل وفق أجندات خاصة لتحقيق مصالح مادية ومعنوية وشخصية، وتجاري من أجل ذلك مشاعر العامة، تنفح فيها المزيد من جرعات الإثارة والتهييج، لتصبح الجزائر بالنسبة لنا بلد المليون بلطجي، وتغدو جميلة بوحيرد غانية في سوق الدعارة «.. اليوم تطغي علي المشهد الاعلامي دكاكين برامج الأخبار السياسية، أو ما يسمي « التوك شو «، التي أصبحت هي الأخري – باستثناءات معدودة - كيانات شبه مستقلة همها التهييج والإثارة يعيش أقطابها بمختلف مشاربهم السياسية علي النواح والصراخ.. (يلفت النظر هنا أن صاحبة دكان أون تي في لجأت اليوم هي الأخري إلي إطلاق تهم الدعارة الرخيصة علي المغرب).. وقد انتعش سوق هذه البرامج في مناخ الاستقطاب السياسي الذي عاشته مصر مؤخرا، ومع تصدر عدد من ذيول مبارك للمشهد الإعلامي.. هكذا نلاحظ أنه كلما هدأت أزمة أشعل أقطاب هذه البرامج أزمة أخري، وعندما يعلو صوت هنا يخرج صوت أكثر ضجيجا ليزايد هناك.. وكلما وجد صراخهم صدي كلما هطلت علي برامجهم الإعلانات، واكتنز أصحاب القنوات مزيدا من المال وراج سوق أصحاب البرامج، وهذا ما يفسر سكوت إدارات القنوات علي هذي مذيعيها.. في المحصلة النهائية « البيعة « مجزية.. للأمر وجه آخر فمعظم مذيعي « التوك شو « – الذين ملأهم الغرور فأخذوا يصيحون في مشاهديهم كل ليلة ناصحين مرة ومحذرين أخري، بل إن الأمر تعدي ذلك إلي سبهم أحيانا - أتوا من بيئة متوسطة أو أدني من المتوسطة، فاذا بهم بين يوم وليلة يصعدون إلي طبقة اجتماعية أرقي بعد أن سالت الملايين في أيديهم، ويشترون الفيلات في 6 أكتوبر، ويرسلون أولادهم إلي مدارس أجنبية، ويقضون إجازة نهاية الأسبوع في الخارج.. تحتاج منهم هذه النقلة إلي ثبات نفسي شديد حتي يتمكنوا من اجتيازها، ولكن القليل منهم يملكون هذا الثبات، ولذلك فليس من الغريب أن يتعالي الباقون علي المشاهدين، بل ويظنون أنفسهم في مرتبة أهم من الوزراء وكبار الساسة ويختالون بشهرتهم التي يعتقدون أنها تعلو علي شهرة النجوم.. وربما لا يستطيع إلاّ علماء النفس التصدي لهذه الحالة المرضية التي يمكن وصفها بأنها « متلازمة « الكاميرا / الميكروفون / البنك.. الخطر الأكبر عندما يكون الجهل وغياب الانتماء والوعي الوطني عنصرا آخر في هذه المتلازمة، فيشرع هؤلاء في اللعب بمقدرات الوطن والفتوي في كافة الأمور التي يدرون عنها أو لا يدرون، لا يهم، وتنادي واحدة منهم بطرد الفلسطينيين من مصر ومصادرة أموالهم، وأن « يروح جرحي غزة في داهية «، ويعلو فحيح أخري « ملعون أبو أم القومية العربية « وملعون «زفتة « 25 يناير.. حذرت وغيري من هذه اللغة الغريبة علي إعلامنا عدة مرات في الفترة الأخيرة، كان آخرها عندما كنت ضيفا علي مقدمة البرامج القديرة ليليان داود وعندما استضافني أيضا الكاتب الكبير عبد الله السناوي في « صالون التحرير «، وقلت إن « الإعلام منفلت وسوقي ويستفز الجماهير «، وأنه في حاجة لضوابط جديدة، فما كان من إحدي المذيعات اللائي تبقين من قمامة مبارك إلاّ أن خرجت في وصلة ردح تؤكد تفوقها في الفجر علي النائحات المستأجرات، في حين خرج مذيع أخر من مخلفات أمن الدولة يسوق اتهامات داعرة لكل رموز 25 يناير بالعمالة، ويؤكد بالأرقام المرتبات التي كانوا يتقاضونها من أجهزة المخابرات الأجنبية.. أظن أن هذا يكفي ليؤكد كيف تردت شاشة التلفزيون من منبر لأساتذة التنوير العظام إلي منصة للإعلام العكاشي، ويحثنا اليوم علي أن ندعو الإعلام أن ينضبط، وأن يتولي ذلك بنفسه وإلاّ تولته الدولة نيابة عنه.. تحضرني هنا مقولة لرئيس اليمن المخلوع علي عبد الله صالح عندما قال إنه « علينا أن نحلق رؤوسنا بأنفسنا وإلاّ حلقها لنا غيرنا «، إذ لا جدال في أنه إذا ما حلقتها لنا الدولة فلن تتركنا إلاّ ونحن جميعا مصابون بالصلع وسط تهليل المجتمع الذي سمعنا نداءه بكل طوائفه مؤخرا ينادي بتطهير الإعلام بعد أن سانده أيام وقوفه أمام حكم الظلام الإخواني.. لهذا لم يكن غريبا عندما اجتمع المجلس الأعلي للثقافة في الأسبوع الماضي، وهو المجلس الذي يضم أبرز القامات الثقافية والفكرية في البلاد، أن يستفز الانفلات الإعلامي أعضاءه فينادي العديد منهم بالحجر علي الحريات الإعلامية، وفي مناسبات أخري دعا آخرون في الأسبوع الماضي أيضا إلي إخضاع دور الإعلام ورسالته لحوار مجتمعي عام.. من ناحيتي فإنني أشارك كثيرين الرأي أن الإعلام من الخطورة بحيث يجب ألا يترك للإعلاميين وحدهم، ولكنه عندما يأتي الأمر إلي وضع اللوائح والقوانين فالأحري أن نعطي الإعلاميين فرصة لينظموا مهنتهم بأنفسهم، ويصدروا مواثيق الشرف التي يرونها لازمة لذلك، ويحددوا العقوبات التي تكفل حماية الجمهور العام من أخطائهم، فإذا ما فشلوا في ذلك فلنا عندئذ حديث آخر.. ومن حسن الحظ أن الجماعة الإعلامية تضم غالبية شريفة وأنها تنبهت في الآونة الأخيرة، إلي ضرورة تشكيل المجلس الوطني للإعلام والصحافة الذي نص الدستور علي قيامه وتعجل الرئيس السيسي تشكيله، وكان لي الحظ أن أكون واحدا من الداعين له ضمن من دعوا لذلك من أعضاء « المبادرة المصرية لتطوير الإعلام « وغيرهم، ومن اجتهدوا في وضع الدراسات اللازمة لذلك.. ومن حسن الحظ أيضا أننا استطعنا أن ننهي الخلافات بشأن قيام نقابة للعاملين بالاذاعة والتلفزيون العام والخاص من المقرر أن تري النور خلال أيام، وأن يكون لها دورها الفاعل في ضبط أداء المهنة.. ومن البديهي أننا إذا لم نواصل هذه الجهود بدأب وإخلاص للمهنة وللوطن فسوف يكون الفضاء الإعلامي مرتعا للسلطة تصول فيه وتجول كما تشاء، ولن يفيد عندئذ الندم.