في عام 1973 قام د. زكي نجيب محمود أحد أعضاء المجمع العلمي المصري - بتطبيق منهج فكري استنبطه كاتب أمريكي لإيجاد المميز الفاصل بين الثقافة الأمريكية عما سواها من ثقافات. وكان هذا المنهج يقوم علي اختيار عشوائي لبعض ملامح الحياة الأمريكية التي لا تتوافر في حياة الشعوب الأخري، ثم يتناول هذه الملامح بالتحليل في محاولة فكرية جادة لإيجاد القاسم المشترك بينها رغم تباين هذه الملامح. توصل الكاتب الأمريكي إلي الحقيقة التالية: أن ما يميز الثقافة الأمريكية أساساً، هو الاهتمام بطريق السير والحركة أكثر من الاهتمام بما يتولد عن ذلك السير ويتجمد علي صورة معينة محدودة حيث إن الحركة الحرة تكون مكونة من وحدات متكررة إلي غير نهاية معلومة. أي أن طابع الثقافة الأمريكية هو انطلاق حركة غير مقيدة منذ البداية بلا توقف. اثار هذا المنهج التحليلي فكر د. زكي نجيب محمود وأراد أن يُجري نفس التجربة علي الثقافة المصرية الصميمة لعله يتوصل إلي الطابع الذي يميزها عن بقية الثقافات الأخري، فاختار بطريقة عشوائية الملامح المصرية الآتية: (1) القرية المصرية. (2) أبوالهول. (3) الأزهر. (4) أم كلثوم. (5) أحمد شوقي. (6) مولد السيد البدوي. (7) خان الخليلي. ثم أخذ يفكر جدياً في محاولة لإيجاد القاسم المشترك بين هذه الملامح فتوصل إلي الآتي: (1) القرية المصرية معمارياً تميل إلي التكتل وتلاصق المباني حتي أن القادم من بعيد يراها كأنها كومة واحدة لها رأس. فأغلب الطرق مغلقة من أحد الطرفين وليست في خطوط مستقيمة. ذلك لأن القرية في حقيقتها الاجتماعية أسرة واحدة تجد الدفء في الجوار وتجد الطمأنينة في تعانق الكل في جسم واحد. فالطرق تضيق وتنحني ليقترب أعضاء الأسرة بعضهم من بعض. وعلي هذا الأساس لا تقبل القرية الشخص الغريب إلا إذا انخرط في كيانها وتأقلم مع نسيجها لئلا يغير ركناً أساسياً فيعكر صفو حياتها. لذلك معيار القرية هو دوام بقائها وكل تغير مقبول إذا جاء في ذلك الإطار الدائم. (2) أبو الهول كسائر الآثار المصرية يبني العقل علي أساس الفطرة ليكتسب الدوام، فهو رأس إنسان (إشارة إلي البصيرة الواعية) مركب علي حقيقة فطرية مرتبطة بالطبيعة وهي جسم أسد، ومن هنا جاء الرمز متمسكاً بالأساس الفطري الثابت. (3) الأزهر تتلخص رسالته الحضارية في أنه جمع أشتات التراث العربي عندما تعرض ذلك التراث للبعثرة والفناء علي أيدي التتار، وهنا نجد الدوام واجه التشتت والفناء. (4) أم كلثوم ترسل الغناء كأنها تقيم عمارة علي أسس ثابتة، فترسله في جو من الوقار المهيب فلا تكاد تفرق بين قصيدة دينية ونشيد وطني وقطعة غزلية كل ذلك في إطار الفن الغنائي متخذاً صورة تضمن له الدوام. (5) أحمد شوقي يقول الشعر وكأنه يخاطب معه الزمن غير المتقيد بأفراد البشر يجيئون ويذهبون. (6) مولد السيد البدوي كأي مولد آخر يعطيك إحساساً بالحياة المصرية بشتي عناصرها، فليست كل مظاهر الإحتفال تعبداً ولا مرحاً ولا تجارة إنما هي مزيج من كل ذلك فحلقة الذكر الصوفية بجوار حلقة الرقص الشعبي، والحلقتان لصيقتان ببائع الحمص والحلوي. هذا الأسلوب من الحياة لم توضع له قواعد وقوانين لكن الحياة تجري في انبثاقها الفطري سنوياً. (7) خان الخليلي يمثل رواسب عصور تأبي أن تزول وتضيف إليها عوامل العصر الجديد دون أن تغير معالمها. ففيه الماضي يزاحم الحاضر، في كل قطعة معروضة تلمح التكامل البشري الذي لم يمزقه تعدد الاختصاص، وفيه تمتزج الصناعة بالفن ويمتزج المصنوع بالصانع بعكس الحال في الصناعة الآلية الجديدة، وهذا هو سبب تدفق السائحين الأجانب. من هنا استخلص المفكر المصري العظيم د. زكي نجيب محمود: أن فكرة الدوام تعلو علي اللحظة العابرة فهي كامنة في الثقافة المصرية بشكل ظاهر أو بشكل خفي. فالدوام هو معيار الثقافة المصرية في التغيير الذي نقبله أوالتغيير الذي لا نقبله. فالذي يطرأ علي حياتنا العميقة بفائدة دون ضرر نقبله، أما الذي يجئ ليهدم لنا الإطار فهو مرفوض تماماً. فالفنان المصري والمفكر المصري والإنسان المصري بصفة عامة حريته مشروطة بالتزام الثوابت التي تدوم. من هنا فالوافدون الجدد علي المجتمع المصري بأفكار غير متناسقة مع المجتمع - الذي تمتد جذور ثقافته إلي عدة قرون مضت - لن تجد رواجاً بداخل المجتمع، فالشخص الغريب مرفوض إلا إذا انخرط في كيان المجتمع وتأقلم مع نسيجه لئلا يغير ركناً أساسياً فيعكر صفو حياة المجتمع بأسره . من هنا فإن الجماعات الإرهابية مرفوضة من المجتمع المصري كله .