كان من الكتاب والمفكرين البارزين الذين جاهروا بأفكارهم الفلسفية والأدبية في ظل أنظمة سياسية عاتية بعد ثورة 23 يوليو، كانت هناك ثمة انفراجة بين الجمهورية المصرية الفتية والوليدة، والإدارة الأمريكية، ونتج عن هذه الانفراجة علاقات متنوعة علي المستوي الثقافي، والأكاديمي، وكذلك السياسي، للدرجة التي أفسحت السفارة الأمريكية صدرها لتعيين مثقف مصري يدعي ماهر نسيم، ليشرف علي إصدارات سياسية وثقافية تعمل علي التعريف بالثقافة الأمريكية والمجتمع الأمريكي، وبالتالي كان ماهر نسيم يصدر كتبا معادية للشيوعية بشكل واضح وسافر، حيث إن الدولة نفسها كانت تشجع هذا الاتجاه، قبل أن تتبلور معالم هذه الدولة، وهناك كتاب شهير تحت عنوان "هذه هي الشيوعية"، اشترك فيه ثلاثة كتاب منهم محمد سعيد العريان، هاجموا الشيوعية بضراوة، والذي كتب مقدمة الكتاب كان جمال عبد الناصر، وفي ظل هذه الأجواء حصل الكاتب والأديب والأكاديمي زكي نجيب محمود علي منحة لمدة عام للتدريس في جامعتين أمريكيتين، هذا العام امتد لعامين، حيث اختير في العام الثاني كمستشار ثقافي في سفارتنا بواشنطن، حيث إن كاتبنا هو الشخص الأمثل الذي يمكن أن يؤدي هذا الدور الثقافي في أمريكا، إذ كان انحياز زكي محمود لثقافة الغرب شبه مطلق، ولديه يقين بأن الثقافة الغربية هي الأصل الذي يشع علي كافة الفروع في العالم أنواره، ولم يكن اكتشافه للثقافة العربية الأصيلة إلا في وقت متأخر، رغم أنه غاص وخاض غمار مناقشات وحوارات بصددها كثيرة، ولم يكن انحيازه الفكري والفلسفي للوضعية المنطقية هو السبب الوحيد الذي كان يشكل حجر زاوية الهجوم عليه وعلي مواقفه وأفكاره ومنهجه، بل أن شكه العميق بأصالة الثقافة العربية وجدواها وتأثيرها هو الذي كان يجلب عليه هذا الهجوم، ورغم أنه كان محل هجوم دائم، إلا أن أشد الذين هاجموه كانوا يكنون له قدرا من المحبة والتقدير والمودة، وعلي رأس هؤلاء محمود أمين العالم الذي هاجمه مبكرا في عام 1950، وفي مجلة "علم النفس التكاملي"، تحت عنوان "ماوراء المدرك الحسي"، ردا علي مقال لزكي عنوانه "المدرك الحسي"، ولم يكن هذا هو المقال الوحيد الذي كتبه محمود العالم، بل أنه كتب يلاحقه بسلسلة مقالات علي مدي عمرهما المديد، وبعد كل هذه الخلافات والمحاورات والمناوشات يقول العالم :"إنه بحق واحد من أبرز وأعمق وأصدق وأشرف دعاة الاستنارة والعاملين المجاهدين من أجلها في فكرنا العربي المعاصر" ويستطرد العالم مستدركا "ولست فيما أقوله متخليا عن كل ما اختلفت وأختلف فيه مع زكي نجيب محمود حول منهج الوضعية المنطقية، وإنما هي محاولة لتفسير سر هذا التقدير والحب العميقين اللذين أحملهما لهذا المفكر والإنسان"، هذا ما قاله محمود العالم المتسامح والذي يرفع شعار "المحبة دوما رغم الاختلاف"، وبالطبع فهذا التقدير لم ينله زكي نجيب محمود من آخرين، وأطلق عليه الدكتور غالي شكري "العقل المراوغ "، وتناول ابراهيم فتحي سيرته الذاتية التي شغلت ثلاثة مجلدات :"قصة نفس وقصة عقل وحصاد السنين" بالنقد الحاد، أما حسن حنفي فأفرد له دراسة طويلة في كتابه "حوار الأجيال"، ورأي أن الحوار مع عقل نجيب محمود أجدي بكثير جدا من أفعال التفضيل التي ينالها الكاتب والمفكر، ورأي أن هذه الاحتفاليات لا تليق بمفكر وكاتب من طراز زكي نجيب محمود، وكانت هذه المقدمة بالطبع خير تمهيد لكي يتناول حسن حنفي مسيرة زكي محمود الفكرية بالنقد والتشريح والتحليل من منطلق المختلف وليس المؤتلف، أما تلامذة زكي نجيب الذين تعلموا علي يديه، وشربوا أول أقداح الفلسفة في محرابه، فاستطاعوا أن يحولوه إلي أيقونة، وأنوه علي سبيل المثال إلي الدكتورة أميرة حلمي مطر التي أشارت إلي جهوده المتنوعة في الفلسفة والتراث وعلم الجمال، واعتبرته أحد فلاسفة العصر المرموقين، ومن الذين لا يدانيهم أحد. لذلك كان زكي نجيب محمود يمثل إشكالية فكرية ونقدية كبيرة، والذين كتبوا عن بداياته أغفلوا أنه كان من كتاب مجلة "السياسة الأسبوعية " والتي كان يرأس تحريرها الدكتور محمد حسين هيكل، وهنا نعرف أن زكي محمود نشأ في حضن إحدي المدارس الليبرالية الكبيرة، وكانت هذه المدرسة منفتحة علي الثقافة الغربية بشكل واسع، وكان زكي نجيب الشاب اليافع، يكتب مقالات في الأدب والثقافة منذ عام 1928، وكان عمره ثلاثة وعشرين عاما فقط، ورغم أنه كان من كتاب جريدة السياسة الأسبوعية، إلا أنه كان تلميذا نجيبا لأفكار عباس محمود العقاد وسلامة موسي في الوقت نفسه، ومن المعروف أن محمد حسين هيكل وعباس العقاد علي طرفي نقيض سياسيا، ولكن زكي محمود استطاع أن يحيا في منطقة تزعم العزلة لنفسها، وهي الثقافة، إذ أن جميع من شاركوا في صياغة روح العصر في المنتصف الأول من القرن العشرين، كان لهم تقدير كبير للثقافة الغربية، وتعتبر هذه الثقافة وجدواها وفاعليتها هي القاسم المشترك بين الجميع، لكن كل هؤلاء كانوا علي خلافات سياسية، ولكن الثقافة كانت الأبقي، والسياسة كانت ترتبط بمراحل، لذلك كنا نري الدكتور طه حسين علي عداء شرس مع حزب الوفد في مطلع الثلاثينيات، وهاجم مصطفي النحاس زعيم الحزب بطريقة وحشية، ثم نجده بعد ذلك متصالحا وكاتبا في جرائد الحزب، وفي 1951 كان وزيرا في حكومة هذا الحزب، وكذلك فعل العقاد، لكن الثابت والقاسم المشترك هو العامل الثقافي الغربي، وكان زكي نجيب محمود متشددا في الانحياز للعقاد، وكان يستشهد به كثيرا، واستطاع أن يأخذ أفكاره ويناقشها بشكل موسع، وليس علي غرار سيد قطب الذي أخذته أفكار العقاد نحو فضاء آخر تماما، ومن المدهش أن يعقد مفكرنا زكي نجيب محمود بين شعر العقاد وشعر إليوت، وينحاز للعقاد شاعرا بشكل كبير، ويهاجم الشعراء الجدد علي طريقة العقاد، ولن ينسي شعراء المدرسة الحديثة الشعرية البيان الذي أصدرته لجنة الشعر بالمجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب، ليهاجم الحركة الشعرية الجديدة، وكان كاتب البيان هو زكي نجيب محمود نفسه، وجاء في البيان :"إن مراجعة سريعة لكثير مما يسمي الشعر الجديد لتكفي للدلالة علي أن أصحابه واقعون تحت تأثيرات إذا حللناها وجدناها منافية لروح الثقافة الإسلامية العربية التي هي الروح المميزة لشخصيتنا الفنية علي مدي العصور مما يجعل كتاباتهم مرفوضة حتي ولو أخرجناها من دنيا الشعر لندخلها في عالم النثر الفني، وذلك لأنها تشيع في كياننا العضوي عنصرا غريبا يهدمه ولا يعمل علي بنائه ونمائه، من ذلك ميلهم الشديد نحو الاستعانة في التعبير بعناصر يستمدونها من ديانات أخري غير العقيدة الإسلامية بل ومما تأباه هذه العقيدة، كفكرة الخطيئة وفكرة الصلب وفكرة الخلاص، بالإضافة إلي ما يستبيحونه لأنفسهم بالنسبة لكلمة الإله كأنما هي لاتزال عندهم كلمة بمعناها الوثني"، ولم يكن هذا الكلام حبيس بيان لجنة الشعر فقط، بل كان زكي نجيب يردده في دراساته التي جمعها في مجلد ضخم تحت عنوان "فلسفة وفن"، في الوقت الذي كان يقف فيه عزيز أباظة في عيد العلم، ويخطب أمام جمال عبد الناصر ويناشده التدخل لإنقاذ "الفصحي" من شعراء العامية وكتاب القصة والمسرح ممن يستخدمونها، ومن الواضح في البيان أن المقصود هو الشاعر الشاب صلاح عبد الصبور، والذي كان العقاد وصفه هو ورفاقه من الشعراء ب"القرمزة" أي الشيوعية، هنا أراد زكي نجيب محمود أن يضع نفسه، وينتمي، ويكتب البيانات، وهذا لا ينفي أنه كان يثير الجدل بما يكتب، ولكن كل هذه الانحيازات لم تكن انحيازات فكرية عميقة، بقدر ماكانت مواقف إيديولوجية، والذي يقرأ كتابه "أيام في أمريكا" سيلاحظ أنه منحاز كما أسلفنا للثقافة الغربية، ولذلك كان استقباله للمجتمع الأمريكي استقبالا مريحا، فهو يشيد بالقس الأمريكي الكاثوليكي الذي قابله في الطائرة، ويضفي قدرا من الانسانية العالية التي لمسها منذ أن خطت قدماه الأرض الأمريكية، واستقبلته سيدة تسأله عن وجهته، ويعرف أن هناك 24 منظمة "إنسانية" تعمل هذه الخدمة لوجه الله، وتدور حوارات دافئة بينه وبين الأمريكان، ويقابل هناك أناسا يحكون له حكاياتهم البسيطة دون أدني لف أو دوران، وعندما صدر الكتاب في طبعته الأولي، نال قدرا من الانتقاد، لذلك نجد كاتبنا يقدم مايشبه التفسير لموقفه المنحاز للثقافة الأمريكية، وظل مفكرنا علي هذه العقيدة حتي نهايات حياته في 3 سبتمبر 1993، رغم أنه بدأ مشروعه الفكري التوفيقي بكتابه "تجديد الفكر العربي " عام 1971، ليجد صيغا متعددة لتوصيل أسلاك كهربائية بين الثقافتين، رغم أنه قضي معظم انحيازاته للفكر الغربي، وحتي كتابه الصغير والشهير والذي صدر عن "المكتبة الثقافية"عام 1960 وكان عنوانه "الشرق الفنان" لم ينتصر فيه لهذا الشرق، ولكنه جعله كما يقول عنوانه هو مكان السحر والخرافة والأسطورة، علي عكس الغرب الحسي الصناعي المتقدم الحضاري، وتأكيدا لمقولة كيبلنج "الشرق شرق والغرب غرب"، وبالتالي فهما لن يلتقيا، ولكن محاولات زكي نجيب محمود التوفيقية، لم تكن إلا نكئاً لجراح قديمة، وهذا ماناقشه د. حسن حنفي في دراسته العميقة بالتفصيل، واعتبر أن زكيا كان يحاول أن يصل بين "الأنا" السلبية، و"الآخر" الإيجابي، يقول حنفي في هذا الصدد: "لما كان الأنا أقرب إلي السلب منه للإيجاب، وكان الآخر أقرب إلي الإيجاب منه إلي السلب، فإن السؤال الآن ما هو جدل الأنا والآخر، جدل السلب والإيجاب؟، وهل يصل الجدل إلي أقصي حد في ثنائيات متعارضة بين الموضوع ونقيضه أم أن له حلا في مركب بينهما؟ " ويستطرد حسن حنفي في تحليل طويل منتقدا مشروع زكي نجيب محمود بطريقة علمية ليس فيها أي تجريح، ولكنه يطرح عدة ملاحظات علي كتاب زكي: "عربي بين ثقافتين" قائلا في إحدي هذه الملاحظات: "(عربي بين ثقافتين) هو في الحقيقة عربي مع ثقافة ضد أخري، مع ثقافة الآخر ضد ثقافة الأنا، مع ثقافة العلم والعقل والطبيعة ضد ثقافة الدين والوجدان"، وأظن أن هذا النزر من توصيف حسن حنفي لكتاب زكي نجيب محمود، ينطبق علي معظم رحلة زكي الفكرية عموما، رغم كافة المجهودات التي بذلها في المقارنة بين الثقافتين، أو محاولة الجمع بين هاتين الثقافتين، رغم أن زكيا علي اعتقاد كامل أن هذا لن يحدث، لقناعته بتفوق ثقافة الآخر علي، بل في مواجهة ثقافة "الأنا"، والذي يتأمل عناوين كتبه، كما ألمح غالي شكري، سيدرك الانحياز الكبير لكاتبنا لثقافة الآخر، ولا أريد أن أقول العمالة أو الانسحاق أمام هذا الآخر، وهناك من يربطون بين مواقف زكي نجيب محمود وبين ترجمته لكتاب "آثرت الحرية" للجاسوس الروسي كرافتشنكو، هذا الكتاب الضخم، والمعادي للتجربة السوفيتية، ونقله زكي عام 1949، أيام حكم ستالين. ولعل كتابه "شروق من الغرب" لا يعني سوي عنوانه، أن الغرب هو صاحب الإضاءة والمنارة والحضارة، وهو كتاب أدبي بديع، ومهما كانت الانتقادات التي توجه لكاتبنا، إلا أننا لا نستطيع أن نغفل أنه كاتب مقال من الطراز الأول، وهو أستاذ لمدرسة عريضة تأثرت بأسلوبه في الكتابة، هذه الكتابة الهادئة العقلية الرصينة، هذه الكتابة التي يكمن وهجها في فكريتها وليس في حماسة المفردات، لأن زكريا كان يتجنب دوما هذه الحماسة، وكان يحاول أن ينأي دوما عن معتركات السياسة، رغم أن كتاباته تتورط بأشكال مختلفة في هذه المعتركات، فعندما جاء الميثاق، تم تفسيره علي وجوه عديدة، فهناك من اعتبره ميثاقا ماركسيا، لأنه قال بالاشتراكية العلمية هناك من اعتبره إسلاميا، وهكذا، وكان زكي نجيب محمود في لجنة المائة التي كانت تقدم قراءات في الميثاق، ولكنه لم يقدم، ولكنه كان علي مدي سنوات الخمسينيات يقدم نفسه علي أساس أنه عروبي، ولكن هذه العروبية ذابت وتبخرت أيام السادات، عندما حاولت الحقبة الساداتية أن تركل هذه العروبة بعيدا، وتعيد شعارات "مصر للمصريين"، ولكن في شكلها البائس، لأن هذا الشعار لم يرفع في وجه العرب والعروبة مطلقا، ولكنه كان مرفوعا ضد الإنجليز والفرنسيين والأتراك كذلك، وكان الذي عمل علي تفعيل هذا الشعار أحمد لطفي السيد في أوائل القرن العشرين، لذلك نلاحظ أن عودة هذا الشعار كانت عودة خبيثة ومشبوهة وغير موفقة، وحتي شعار "العلم والإيمان" لم يكن شعارا نزيهاً، ولم يكن إلا غرضا لعرض، وعن طريقه أعاد أنور السادات كل دراويش الإسلام السياسي لإرهاب الشيوعيين، وسار زكي نجيب محمود في هذه الجوقة لدرجة قصوي، حتي أنه في مقالاته الأهرامية كان ينتصر بشكل قوي للسلطة وشعاراتها، حتي أنه انتصر لهذه السلطة عندما شرعت في الصلح مع اسرائيل، وكان مع التطبيع، وكان مقاله التحليلي الطويل الذي ضمنه كتابه "ثقافتنا في مواجهة العصر"، وتحت عنوان "العنصرية والعسكرية معا"، يحاول أن يناقش فيه الغطرسة الإسرائيلية في ذلك الوقت، ولكنه بعد ذلك كان من المؤيدين لخطي السادات السلامية علي طول الخط، ولذلك كان زكي محمود مرضيا عنه بشكل كبير، فهو لا يقترب من السياسة إلا بحساب، ولا يناقش موضوعاتها إلا في إطار الرسمي، لذلك كان في العهد الناصري رئيسا لتحرير أهم مجلة فكرية في العالم العربي وهي مجلة "الفكر المعاصر" وكان في العهد الملكي قريبا من أهم مجلتين ثقافيتين وهما "الرسالة" لصاحبها أحمد حسن الزيات، و"الثقافة" لصاحبها أحمد أمين، وكان منتميا للجنة الترجمة والتأليف والنشر، ونقل عددا هائلا من الكتب، وشارك بقدر وافر في ترجمة موسوعة "قصة الحضارة"، وفي السبعينيات حصل علي جوائزمهمة. زكي نجيب محمود الذي تمر ذكري رحيله العشرين في هذا الشهر، رغم كل ما يلاحظ علي مسيرته، فهو من الكتاب والمفكرين البارزين الذين جاهروا بأفكارهم الفلسفية والأدبية في ظل أنظمة سياسية عاتية، وإن كانت هذه الأفكار تنتمي في بعضها إلي النمط المحافظ، إلا أننا لا نستطيع أن نغفل ما أثارته هذه الأفكار علي مدي حياته كاملة.