في لبنان ،لا يختلف الصحفيون عن السياسيين .. ومن النوادر الحقيقية المتداولة، أن احد الرؤساء اللبنانيين لا أتذكر اسمه الآن قال لرؤساء تحرير وأصحاب الصحف ،عندما التقاهم في بيروت:»أهلا بكم في عاصمة وطنكم الثاني لبنان « ولم يكن الرجل يسخر، رغم مرارة التعبير وقسوته، ولكنه يقر حقيقة يعرفها الجميع، أن هناك من اللبنانيين، من ينتمي وجدانيا علي الأقل إلي دولة أخري أو أكثر بعضهم إلي فرنسا «الأم الرؤم «أو أمريكا «سيدة العالم «أو سوريا بحكم الجوار، وفي الآونة الأخيرة إلي إيران، بعد نجاح ثورة الخميني، أو دول الخليج بعد الفوائض المالية وظهور النفط، وكلها صاحبة تأثير واضح وصريح ،علي مجمل الوضع في لبنان . والأمر نفسه ينطبق علي السياسيين ،وكل النخبة اللبنانية، فالكل له وطن آخر، يتبني مواقفه، بدرجة حولت لبنان ،إلي ساحة «حروب بالوكالة» سوريا التي لم تطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل ،استخدمت حزب الله وتيارات أخري ،كبديل في المواجهة ضد تل أبيب عبر الجنوب اللبناني، «كما أصبح لبنان ،ميدانا» لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية .ومجالا للتدخلات في الشأن الداخلي اللبناني، والأدلة عبر التاريخ لا تعد ولا تحصي ،آخرها فشل أعضاء مجلس النواب، في الاتفاق علي اسم رئيس لبنان الجديد، في خمس جلسات للبرلمان ،علي مدي الشهرين الماضيين، مما يعني أن لبنان يعيش في فراغ رئاسي ، منذ 25 مايو الحالي ،بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشيل سليمان ،والتي استمرت 6 سنوات في قصر بعبدا، دون أن يعرف احد من كل الطوائف السياسية والأحزاب والتيارات والجماعات، متي سينتهي هذا المأزق؟ والركود الذي يدخله لبنان، بعد أن قبلت الطبقة السياسية، بأن يتحول شأن داخلي ،وقضية من صميم اهتمام اللبنانيين ،إلي «بازار «ومزاد تشارك فيه، كل الدول المحورية علي المستوي الإقليمي والدولي . وكأن المطلوب هو اختيار أمين عام للأمم المتحدة ،وليس رئيس دولة حرة مستقلة، ذات سيادة اسمها لبنان . ومن الإنصاف، الإشارة إلي أن الأزمة الحالية ليست الأولي، فقد تكررت أربع مرات ،علي مدي 12 استحقاقا رئاسيا لبناني. منذ أن نال استقلاله ،آخرها في الفترة من سبتمبر 2007 وحتي مايو 2008 ،حيث عاش لبنان بدون رئيس ،حتي نجحت الاتفاقيات الدولية والإقليمية، في التوافق علي اسم الرئيس ،فانفتح الطريق أمام عقد اجتماع لمجلس النواب ،وتم الاتفاق علي اسم ميشيل سليمان. ولعل التركيبة المعقدة للنظام السياسي، وطريقة انتخاب رئيس الجمهورية ،تمثل جزءا كبيرا من الأزمة ،حيث ينص الدستور والاتفاقيات ،علي أن تكون رئاسة الجمهورية، للطائفة المارونية .ورئاسة مجلس النواب إلي الشيعة. بينما رئاسة الحكومة إلي السنة . كما أن مجلس النواب منوط به، اختيار رئيس الجمهورية ،ونظرا لعدم إمكانية تحقيق تيار، أو حزب ،أو حتي طائفة للأغلبية في البرلمان، كما أن أي مرشح للمنصب ،يحتاج إلي موافقة ثلثي أعضاء المجلس النيابي ،أي 86 من أصل 120 نائبا ، فإن العملية تخضع إلي المساومات، والصفقات السياسية ،وتفتح الباب واسعا أمام التدخل الإقليمي والدولي، وهو الحاصل الآن في لبنان، بعد فشل مجلس النواب في الاتفاق علي اسم الرئيس الجديد، بين اثنين من قيادات الموارنة ،ولكنهما يمثلان توجهات مختلفة ،ومواقف سياسية متباينة ،الأول سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية ، وهو احد أركان قوي 14 آذار، برئاسة سعد الحريري زعيم تيار المستقبل، وبين المرشح الآخر العماد ميشيل عون ،زعيم كتلة التغيير والإصلاح، احد رموز قوي 8 آذار، واللاعب الرئيسي فيها هو حزب الله، وخلال الجلسات الخمس السابقة، غاب أعضاء البرلمان التابعون لحزب الله وعون، وحضر أعضاء 14 آذار ، اللقاء الديمقراطي بزعامة وليد جنبلاط ،الذي يمثل مع مجموعة رئيس مجلس النواب نبيه بري «رمانة الميزان «. وقد ساهم سعد الحريري، في محاولة حل الأزمة الحالية، إدراكا منه أن حزب الله، هو المستفيد الأكبر من حالة الفراغ الرئاسي ،لأنه يعطيه القدرة علي المناورة وممارسة الضغوط علي الآخرين، وشجع سمير جعجع احد حلفائه، علي الخروج من السباق الرئاسي ،بعد الجلسات الخمس لمجلس النواب ، وعدم حصوله علي الأصوات اللازمة. الأزمة في لبنان محتدمة، والشلل هو سيد الموقف. وحل الأزمة الحالية ،في أن يتوصل أعضاء المجلس النيابي ،إلي شخصية توافقية ،من الوسط المسيحي، بعيدا عن المطروحين الآن، جعجع وعون ،أو انتظار الاتفاق الخارجي ،حول المرشح الرئاسي ،وهو أمر يبدو صعبا في تلك المرحلة ،إذا عرفنا أن القضية تتعلق بتفاهم سعودي قطري من جهة مع الطرفين الإيراني السوري ،مع توفير شبكة دعم أمريكي فرنسي والملفات المعلقة بين الدول الثلاثة علي الأقل ،متعددة ومتشعبة ، وقد لا يكون لبنان هو نقطة البداية فيها . ولبنان ومعه العالم العربي، في الانتظار ..! !