»كان عقلي قد اصطخب بعشرات الصور ل »مدام ماجدة« كما أناديها أو »الأستاذة« كما أطلق عليها أحياناً أخري، كانت الصور تتداعي لذهني بشكل سريع ومتعاقب وتملأ قلبي بالحزن والحنين« تأملت الكتاب الجديد الصادر عن دار العين للنشر بمشاعر عديدة متداخلة حتي إنني حرت فيما يجب أن أقوله، منحني الكتاب ثقة في أن النبل مازال قادراً علي أن يجد من البشر نفراً يستحقون حلوله فيهم، الكتاب يضم مجموعة من مراجعات الكتب التي قدمتها الكاتبة الصحفية ماجدة الجندي خلال إحدي عشرة سنة من إشرافها علي صفحة غذاء العقول التي اقترحتها وأصبحت محررتها إلي عام تسعة من هذا القرن ثم أقصيت عنها لسبب غريب، إذ ظهرت علي شاشة التليفزيون مع مني الشاذلي علي قناة دريم وكان ذلك في أعقاب حادث احتراق قطار بني سويف، قالت بالنص: إن مشكلة مصر تتلخص في أن القاطرة منفصلة عن القطار، في اليوم التالي شن رئيس تحرير الأهرام وقتئذ حملة ترويع ضدها وكلف سكرتيره الاتصال بها، قال لها بالنص: »الأستاذ أسامة شالك من الصفحة..« تفاصيل ما جري بدقة سترويها ماجدة يوماً وأشار إليها الإنسان الذي يقف وراء صدور هذا الكتاب، انقطعت صلتها بالأهرام منذ ذلك الحين بعد ظهور أعراض السرطان بعد شهر واحد من إنهاء علاقتها بالصفحة، سافرت إلي الولاياتالمتحدة حيث تقيم ابنتي ماجدة وبدأ علاجها الصعب المستمر حتي الآن، في عام اثني عشر تم إنهاء خدمتها من الأهرام نهائياً وذلك ضمن مخطط طبقه الإخوان يقضي بإحالة الصحفيين غير المرغوب فيهم عند بلوغهم سن الستين إلي المعاش، بينما ينص قانون الصحافة علي إمكانية بقاء الصحفي حتي سن الخامسة والستين وقد راح ضحية هذا الترتيب عدد كبير من أكفأ الصحفيين، وللأسف لم يتم إعادة النظر في هذا الإجراء بعد تحرير مصر من الإخوان، في العام الأخير بدأ الأديب ابراهيم فرغلي والناشرة المحترمة فاطمة بودي مؤسسة ومديرة دار العين في التخطيط لإصدار كتاب لماجدة الجندي وليس عنها، سمعت بداية عن ذلك المشروع وكيف سيكون ثم توالت الأحداث وسافر ابراهيم إلي الكويت حيث يعمل في مجلة العربي، وأثناء وجودي في الخارج، أيضاً وجود ماجدة الجندي سمعنا عن صدور الكتاب، بعد عودتي أهداني أخي محمد شعير نسخة منه وفوجئت به كما فوجئت ماجدة، لعله الكتاب الأول في المكتبة العربية الذي يصدر بمعزل عن صاحبه، لقد أعطت ماجدة عمرها للصحافة ولم تخطط لإصدار كتاب رغم إلحاحي عليها بإصدار تحقيقات أدبية جميلة عن أوجه حياة المصريين أنجزتها أثناء عملها في مجلة صباح الخير، وعدد كبير من الحوارات المتميزة مهنياً، من الصعب أن أكتب عن رفقة عمر طويلة في هذا الحيز، ولكن ابراهيم فرغلي أقدم علي ما لم أقم به وما لم تفعله ماجدة، إذ عكف علي مراجعة وفحص صفحة غذاء العقول وهذا جهد ليس بالهين، فالمساحة الزمنية تمتد إلي أحد عشر عاماً، تأثرت عندما علمت أن العاملين في أرشيف الأهرام تعاونوا معه إلي أقصي حد، وأبلغوه الود الجميل إلي ماجدة ودعواتهم بالشفاء، أنجز ابراهيم فرغلي اختيار ما سيضمه الكتاب وينم عن جهد وحاسة رفيعة في التقدير، لم يكتف بذلك بل كتب مقدمة أعتبرها وثيقة إنسانية ومهنية عن ماجدة الجندي، بادرت الدكتورة فاطمة بودي بإصداره أنيقاً جميلاً، العنوان واختياره رائع »كما تدور عجلة الفخار«. امتناني بلا حدود لنبل ابراهيم فرغلي وإنسانيته ومجهوده، كذلك للدكتورة فاطمة بودي، المقدمة طويلة اكتفت بها جريدة التحرير ونشرتها مشكورة، إلا أنني اقتطف منها هذه: مشوار في صحبة ماجدة الجندي كثيراً ما كانت تستوقفني واحدة من الصور التي كانت تصحب مقالات ماجدة الجندي في صحيفة »الأهرام« يطل فيها وجهها بابتسامة هادئة مطمئنة تمتزج بمسحة من السماحة، لكنها لا تخفي لمحة قلق شاردة تطل من عينيها. كلما رأيت تلك الصورة استوقفتني، ربما لشعوري أن هذه الصورة تمكنت، بشكل ما، أن تقتنص روح ماجدة الجندي كما أعرفها، الأم التي تري في أمومتها أولوية أولي علي أي قيمة أخري، المتسامحة، المهمومة بما يحدث حولها بشكل يكاد يكون مرضياً، إذ تري في كل ما يمر بالبلد مؤثراً علي مستقبل أبنائها. حين سمعت خبر مرضها بالسرطان، هنا في الكويت، حيث أعيش منذ سنوات، شعرت بروحي تهمد فجأة كأنها تلقت صفعة مدوية، وفي لحظات كان عقلي قد اصطخب بعشرات الصور ل »مدام ماجدة«، كما أناديها، أو »الأستاذة« كما أطلق عليها أحياناً أخري، وكانت الصور تتداعي لذهني بشكل سريع ومتعاقب وتملأ قلبي بالحزن، بالحنين، وبالافتقاد. اللقاء الأول في مقر مجلة »الأهرام العربي« القديم، اجتماعات القسم الثقافي الذي كانت ترأسه آنذاك، حيث تزاملت مع الصديق سيد محمود ومحمد بركة وسواهما. اليوم الذي اقترحت فيه عليّ أن أنتقل للعمل معها في صفحة »غذاء العقول« التي أسستها في »الأهرام« في العام 0002 في عهد إبراهيم نافع، كصفحة كُتب أسبوعية متخصصة. اليوم الذي أعلنت لي فيه خبر تعييني في »الأهرام« بعد سنوات طويلة من الانتظار، حيث جاءت مهرولة إلي أمام باب مقر »الأهرام العربي« القديم، في الطابق الثالث بالمبني القديم لمؤسسة الأهرام، وعلي وجهها ترتسم ملامح انفعالاتها، فرحة وسعيدة ومبتهجة كما لم أرها، لتحتضنني وهي تخبرني بقرار التعيين، كأنها هي التي تم تعيينها، اليوم الذي تلقيت فيه أول ترقية في »الأهرام« لأصبح أصغر رئيس قسم مناوب في الأهرام، لحظة إعلاني لها عن قرب زواجي وتشجيعها لي، ومحبتها لاختياري لهايدي، التي كانت قد عملت معنا لفترة في »الأهرام العربي« المكالمة الهاتفية التي تقليتها منها بينما كنت أتجول وحيداً، قلقاً ومتوتراً وخائفاً، في المستشفي، قريباً من غرفة العمليات، حيث أنتظر ولادة ابنتي الكبري ليلي، ولا تزال كلماتها المشجعة ترن في أذني، بل ولازلت أذكر مكان تلقي اتصالها، الذي جاءني كأمل، بصوت حنون ومشجع. ملامح وذكريات نعم مرَّ شريط الذكريات بسرعة، فيما كانت تتداعي لقطات عدة لمواقف وملامح ماجدة الجندي، وبينها ملامح من أشجانها التي كانت تحكي لي عن أسبابها أحياناً وبعضها كان يتعلق بشئون عامة في البلد كانت تتابعها يومياً وهي تشعر بالأسي، وبعضها الآخر كان يتعلق بشئون حياتها الخاصة، وبقلقها المستمر علي ابنها الأكبر »محمد« وابنتها »ماجدة« عبر مراحل عديدة في حياة كل منهما. كما تذكرت بكاءها المرير في أيام وفاة والدتها رحمها الله وافتقادها الرهيب لها في الأيام التي أعقبت الوفاة. كانت التداعيات تنداح علي ذهني بلا توقف، مروراً حتي بلحظات الغضب التي مرت بها إثر خلاف مع شخص أو آخر، وكثيراً ما كنت أنا سبب ذلك الغضب لأسباب مهنية عدة، لكنها كانت مشاحنات وقتية سرعان ما تنتهي وتمر، وسرعان ما تستعيد هي هدوءها وحنانها كأن شيئاً لم يكن. وأذكر أنها في إحدي مرات غضبها، لأسباب لم أعد أذكرها الآن، أحالتني لمدير التحرير آنذاك، الأستاذ محمد زايد رحمه الله، الذي جلس معي قليلاً، واستمع إليّ ثم قال لي: أنا لا أشعر بوجود مشكلة، »روح لها بس وقل لها كلمتين حلوين والموضوع هيخلص«، وعملت بنصيحة الرجل، واستقبلتني مدام ماجدة بفرحة أم عاد إليها ابنها العاق! مر شريط الذكريات بعقلي، وشعرت بسخونة مقلتي، وبحزن قاتم شديد يحل علي روحي، ولم يخفف من قلقي إلا صوتها، حين جاءني علي الهاتف، عابراً المسافات والزمن، وهي تحكي لي تفاصيل المرض، والظروف المأساوية التي صاحبت وصادفت وتزامنت مع تلك الفترة، حيث كان أسامة سرايا رئيس تحرير »الأهرام« الأسبق، قد عزلها فجأة من الإشراف علي الصفحة، وبلا سابق إنذار، ولأسباب سياسية لا يمكن وصفها في تقديري سوي بالواهية والتافهة، أما تفاصيل الأسباب فقد أشارت إليها مدام ماجدة في مقال لها نشر قبل فترة في صحيفة »التحرير«. كنت أعرف وقع هذا الأمر عليها، لأنها لم تكن تعتبر »صفحة الكُتب« التي أسستها واجتهدت في أن تجعل منها واحدة من أكثر صفحات الثقافة نجاحاً، في »الأهرام«، وربما في الصحافة المصرية، أقول لم تكن تعتبرها مجرد صفحة تشرف عليها، بل كانت أملها في الحياة، ونافذتها علي العالم، ومكمن تحققها، وسبيلها في ممارسة متعتها في الكتابة، ويقينها في أنها وسيلتها لنشر المعرفة إلي عقول عديدة كانت تنتظر المعرفة وتشغف بها ولا تعرف كيف تصل إليها. احتقار الثقافة وبالرغم من استيائي من إبعادها عن الصفحة، فلم أكن في قرارة نفسي مندهشاً، فقد كانت الثقافة في »الأهرام«، خلال العقد الأخير علي الأقل، من أضعف أقسام الصحيفة، والحائط المائل كما يقال، موضوعة تحت أهواء قسم الإعلان، الحاكم الفعلي للمؤسسة، والذي كان يخطط تقريباً محتوي وشكل الصحيفة، وفقاً لأهواء المعلنين، وأصبحت المؤسسة العريقة، مثل مصر كلها مستلبة لصالح أصحاب رأس المال والنظام معاً، وهو نظام لم يحترم الثقافة ولا المثقفين، والشواهد أكثر من أن تُعد في هذه المساحة علي أي حال. ومع تولي رئاسة تحرير »الأهرام« شخصاً لا علاقة له بالثقافة، مثل أسامة سرايا، وهو الأمر الذي كان مثار تندرنا جميعاً حين كان رئيساً لتحرير مجلة »الأهرام العربي«، كان من المتوقع أن تزداد الأمور سوءا ولو كان هناك رئيس تحرير من قامة أساطين الصحافة المصرية في عهدها الذهبي، لكان حرياً بهذه الصفحة »غذاء العقول« أن تكبر وتتحول إلي ملحق مهم عن الكتب. لكن أسامة سرايا لم يكن استثناء في الحقيقة، ومع الأسف، في الصحف القومية والمستقلة علي السواء، فقد كانت الصحافة الثقافية ضحية أشباه الصحفيين وبعض أشباه المثقفين الذين تولوا الصحافة علي مدي العقدين الأخيرين. بقيتُ علي اتصال معها خلال فترة وجودها في الولاياتالمتحدة للعلاج، كلما سمحت الظروف بالاتصال. وكان صوتها في أيام العلاج بالكيماوي يأتيني متعباً، مرهقاً، وكانت كلماتها أحياناً تخرج بطيئة وربما بصعوبة، لكني كنت رغم ذلك أشعر بأنها ستتجاوز محنتها، وعندما تمتلك أقل قدر من الطاقة تمكنها من الحديث سرعان ما تشرع في الكلام عن البلد وأحوال البلد، وكنت أستمع إلي صوت محمد ابنها بجوارها يلومها علي الانشغال بالأخبار السيئة القادمة من مصر خوفاً عليها. والحقيقة أيضاً أنني حين عرفت ما بذله محمد وماجدة أو »ماجي«، كما يطلق عليها، من أجل أمهما خلال فترة مرضها كنت أقول لنفسي إن أمومتها الطاغية لم تذهب هدراً حقاً. وكانت المفاجأة، لمدام ماجدة قبل غيرها، هي ماجي، ابنتها التي كانت تتعامل معها كصديقة، لكنها في النهاية كانت دوماً تراها من منظور أمومتها هي التي تحتاج لرعايتها، لدرجة أن مدام ماجدة، في بداية مرضها، كانت، إضافة لمفاجآتها الشخصية بطبيعة مرضها، متوترة ومحتارة في الكيفية التي يمكن بها أن تخبرها بها عن مرضها، وإذا بتلك الفتاة الصغيرة التي كانت في مقتبل حياتها، تكشف عن جانب من النضج وتحمل المسئولية، مكناها ليس فقط من أن تتماسك حين علمت بمرض الأم، بل وأن تتكيف مع حقيقة وطبيعة المرض بنضج وأمل كامل في أن الشفاء يحتاج إلي جهد كبير لابد من أن يبذل، وقررت أن تحمل والدتها بالمعنيين المعنوي والمادي، وتنطلق في درب العلاج، وقرأت كل شيء عن المرض وكيفية علاجه ومراحل العلاج، لتعبر بأمها إلي طريق الشفاء من المرض، بكل ما تملك من قوة، وسخّرت حياتها لهذا الهدف، ربما لنحو عامين أو أكثر، حتي تكلل مسعاها، وأمنيات كل محبي مدام ماجدة بتجاوز محنتها المرضية. علاقة استثنائية أقول إن العلاقة مع الأستاذة ماجدة كانت استثنائية ليس فقط لأنها صاحبة أفضال عديدة عليّ، ذكرت بعضها ولم أذكر أفضالاً أخري عديدة، بل ولأن ظروف العمل جمعت بيننا لنحو عشر سنوات تقريباً، وأتاحت لي أن أتعرف عليها عن قرب، وأن أشاركها الكثير من تقلبات الحياة، حزناً وفرحاً وغضباً وأملاً. كما جمع بيننا حب الكتب، من خلال العمل المشترك في صفحة الكتب لسنوات طويلة، وأظن أننا كنا علي قدر كبير من التفاهم في مفهوم الصفحة وهدفها، ولذلك كنت أشعر أنني أعمل بحرية مطلقة، فهي كانت تثق فيّ بشكل شبه مطلق، وأظن أن انطلاقي من مدرسة »روزاليوسف«، حيث عملتُ في بداية حياتي، كان جزءاً مكملاً لعلاقتي بمدام ماجدة، التي كانت واحدة من رموز مؤسسة »روزاليوسف«، ومجلة »صباح الخير«، قدّمت فيها تاريخاً طويلاً من العمل الصحفي بالغ التميز، في التحقيقات الصحفية، كان كل موضوع منها بمثابة درس بليغ في الكتابة وجمع المعلومات والتحري عن القضية موضوع التحقيق، كما تشهد أيضاً لموهبتها الكبيرة عدة حوارات ومقابلات أجرتها مع العديد من الشخصيات العامة في مصر والعالم، سواء في »روزاليوسف« أو في »الأهرام«، وسوف يتضمن القسم الثاني من هذا الكتاب مجموعة الحوارات التي أجرتها مع عدد من كتاب العالم ونُشرت في صفحة »غذاء العقول«. أظن أن هذا المشترك كان سبباً لتفاهمنا بسرعة حول شكل الإخراج الفني لصفحة الكتب، التي أرادت مدام ماجدة أن تضع فيها لمستها المؤسسة علي المفاهيم الجمالية، التي كانت عنواناً مميزاً لمدرسة »روزاليوسف« والتي شاركنا في تنفيذها الزميل المخرج الفني نبيل السجيني. ربما كنت أختلف مع مدام ماجدة في بعض وجهات النظر التي تختص بفلسفة الصفحة وفكرة عرض الكتب، في سياق التطور الطبيعي للصفحة، متحيزاً لضرورة النقد أحياناً، حتي باختيار كتب لا تعجبنا لكي ننتقدها، خشية الإفراط في مدح أفكار الآخرين دون نقدها، وتجنباً للانحراف، أحياناً، إلي منهج يعكس الإعجاب بالكتاب، أي أن يتحول الأمر إلي الكتابة عن »الإعجاب بالكتاب« وليس بمضمونه، لكنها كانت تؤمن بمفهوم الحق الكامل في المعرفة والتي ينبغي أن تتاح وتقدم للقارئ، وأن تتاح له فرصة التعرف علي الكتب من خلال عرض شيق وجذاب، وكانت تعتقد أن النقد يأتي في اختيار الكتاب من البداية. وفي كل أسبوع كنت أستمع منها لتفاصيل ما تقرأ، أو حيرتها بين كتابين يثيران إعجابها وتشعر بالحيرة عن أيهما تكتب، تتحدث عن شغفها بما تقرأ، وتنتقل من ذلك إلي ما يتماس مع موضوع الكتاب في واقعنا الذي كان يصيبها بمرارة حقيقية، وكان أكثر ما يثير إحباطها أنه بالرغم من كل ما يقال ويكتب، فإن أحداً من المسئولين لا يكترث أو يعقب أو يرد أو يوضح.