السىد النجار »نقدم منحا.. نطرح مبادرات.. نعقد مفاوضات.. نتحدث بود وصداقة.. نهر واحد ورؤية واحدة.. تعاون لا صراع.. ولكن يبدو أننا ننادي في فراغ الصحاري الأفريقية« تعودت أن ألقي بحقيبة سفري في غرفة الفندق بمجرد وصولي إلي أي مدينة أزورها.. انطلق هائما حتي ساعة متأخرة من الليل.. اتعرف علي الشوارع والميادين.. أتأمل ملامح الشعوب وسلوكياتهم.. اتجول بين المحال والمطاعم.. في أول زيارة للعاصمة الاثيوبية أديس أبابا.. تكاشفني المدينة بإحساس عدم الوئام منذ اللحظات الأولي.. علي مائدة طعام بأحد مطاعم وسط المدينة.. تدور الثرثرة العادية التلقائية مع الصديق عبدالمنعم مبروك كبير مذيعي صوت العرب.. والسائق الأثيوبي الذي بادرنا بدعوته معنا علي الغداء.. أبدي ملاحظة عابرة.. بقولي.. لكن هل هذا معقول.. هكذا قلب المدينة يبدو كأحد الأحياء بمدينة مصرية نائية.. شوارع غير مرصوفة ومباني متواضعة.. فيرد السائق »المعزوم«.. أنتم السبب.. تأخذون منا المياه، ولا تتركون لنا فرصة لتنمية بلدنا؟! يتكرر المشهد مرة ثانية وبعد عشر سنوات.. ولكن في بلد أفريقي آخر.. أوغندا.. في الطريق من العاصمة كمبالا إلي مدينة عنتيبي مقر القمة الأفريقية يناير 0102.. يخيم الظلام علي الطريق.. إنارة خافتة تبدو من منازل فقيرة علي الجانبين.. وفي براءة أغضبتني أسأل المرافق الأوغندي »لماذا لا تضيئون طريقا رئيسيا بين مدينتين كبيرتين«.. ويبادرني الرد »أنتم السبب.. مصر تأخذ المياه ولا تترك لنا فرصة لإنارة بلادنا وتنمية شعبنا«.. تكرار المشهد يحمل لهجة اتهام.. أقرب إلي العداء.. يجعلني أروي ما حدث مع أحد الدبلوماسيين المصريين.. وبحضور رئيسة إحدي الجمعيات الأهلية المصرية.. أسر لهم بما في نفسي بينما نحن في انتظار جلسة مباحثات لرئيس وزراء مصر مع رئيس وزراء أثيوبيا حول اقتراح لعقد قمة لقادة دول حوض النيل للخروج من مأزق الاتفاق الإطاري الذي وقعته 5 من دول المنبع رغم رفض مصر والسودان.. قلت لا أتوقع خيرا ورويت انطباعي.. فاجأتني رئيسة الجمعية المصرية بقولها.. ستجد هذا الاحساس عميقا لدي الاثيوبيين والأوغنديين خاصة، ولكنه موجود ضد مصر في معظم دول حوض النيل.. وهو أمر مقصود بفعل اعلامي مشبوه أمريكي غربي، للعداء ضد مصر، وتحميلها كل مظاهر التخلف والفقر التي يعيشونها.. أصبحت قضية مياه النيل بالنسبة لهما قضية قومية علي مستوي عامة الشعب.. مثلما شعرت في حديث السائق الأثيوبي والموظف الأوغندي البسيط. أحداث تواترت علي مدي الأيام الماضية.. فرضت اجترار حديث الذكريات.. وتجبرنا جميعا، ألا نتوه في صخب حياتنا الداخلية وتنابذ الساسة وأهل الحكم.. وأن ننتبه وبقوة إلي قضية المصير.. مياه النيل.. فلأول مرة تبدأ مؤشرات دخول الاتفاق والذي ترفضه مصر حيز التنفيذ مع بدء البرلمان الاثيوبي التصديق علي الاتفاق الذي تم توقيعه في عنتيبي عام 0102.. وسوف تتوالي بالطبع تصديقات باقي دول حوض النيل الأخري.. الحدث الثاني.. اعلان اثيوبيا بدء الاجراءات التنفيذية لإقامة سد النهضة.. وأخيرا اجتماع مجلس المياه العربي بالقاهرة.. ومنه انطلقت صرخة التحذير الأخيرة.. قبل ان نتباكي علي حقوقنا المهدرة.. ومياهنا الضائعة.. زرت العاصمة الأثيوبية أديس أبابا أكثر من خمسة عشرة مرة خلال السنوات العشر الماضية.. وذلك بحكم عملي لتغطية مؤتمرات القمة الافريقية.. لم أشعر بتحسن لهجة العداء لمصر بين الاثيوبيين بشأن مياه النيل.. وهي القضية التي تابعتها طوال السنوات الماضية، دون أي تطور ايجابي بالتوصل إلي توافق يلبي الحد الأدني لمطالب دولتي المصب مصر والسودان، وهم يقفون عند نقطة الصفر.. نشكل مبادرات تعاون دون استجابة.. نوسط من نشاء من الدول العربية والأوروبية.. دون زحزحة الموقف.. اجتماعات ومؤتمرات ومفاوضات.. ولا نتيجة.. نقدم منحا ومشروعات تعاون.. وكأن شيئا لم يكن.. نتحدث بلهجة ود وصداقة، نهر واحد.. حوض واحد.. رؤية واحدة«... تعاون لا صدام، تفاقم لا صراع.. وكأننا ننادي في فراغ الصحاري الأفريقية.. وأخيرا قالوها صراحة.. اعملوا حسابكم مياه النيل سوف تقل.. ونحن لازلنا نتحدث نفس اللهجة المعادة المكررة الانشائية، عن الصداقة والتعاون وجولات جديدة من المفاوضات.. لغة جعلتنا في موقف الضعف حتي لو كانت معبرة عن النوايا الطيبة.. ولم نلمح مرة إلي ان القضية بالنسبة لنا حياة أو موت بالفعل.. وأن مصر هبة النيل حقيقة ولم تكن وصفا شاعريا من المؤرخ الفذ هيردوت.. دون ان ننتبه للمؤامرة منذ عشرات السنين »نعم مرة أخري حديث المؤامرة«.. جعلنا من النيل نقطة ضعف.. عكس ما تعاملوا هم معنا بأن مركز قوتهم.. عام 0861 كان أول تهديد لمصر من حاكم الحبشة.. عندما حذر الملك حينموت حاكم مصر قائلا له »إن نهر النيل سيكون كافيا لمعاقبتكم حيث وضع الإله في قبضتنا منبعه وخيراته ويمكننا بذلك إلحاق الضرر بكم«. ما قاله.. الحاكم الاثيوبي منذ 333 عاما.. هو ما يردده حكام أثيوبيا علي مدي الخمسين عاما الماضية، وغيره من حكام دول حوض النيل، حتي أشتدت الأزمة من التهديد بالقول إلي الفعل الحقيقي.. ولازال المسئولون المصريون يستخدمون لغة تطييب الخواطر والتهوين.. إلي حد قول وزير الري الدكتور محمد بهاء الدين.. لا خوف علي حصة مصر من مياه النيل.. وأن مشاركة إسرائيل في سد النهضة مجرد صدفة بفوز احدي الشركات الاسرائيلية في مناقصة اعمال التشييد.. أنها المصيبة لكلام وزير فني في قضية سياسية بالأساس، ووزير خارجية غائب أو مغيب.. ويبدو أن المسئولين بالعامرة مصر يحتاجون إلي من يذكرهم بقول الكاتب المسرحي الانجليزي جرهام جرين »إن التاريخ لا تعمره البراءة«.. وما قاله قبله ميكافيللي »أن تخيف الآخر أهم لمصلحتك من أن تكسب وده«.. ونحن اليوم فاشلون في أن نخيف أحدا أو نكسب وده حتي لو كانت اسرائيل، التي تتسرب.. وتتوغل في سدود وأدغال أفريقيا، لإحكام قبضتها، بعون أمريكي، ورضاء أوروبي وترحيب أفريقي.. نحن نري أن اسرائيل وجدت في أفريقيا بالصدفة والقانون الدولي معنا، والاسرائيليون يرتعون إينما كانت مصلحتهم عملا بقول الكاتب الأمريكي لويس لافام »القوانين وضعت لغير المحظوظين الذين ولدوا دون جينات الفضيلة«. اليوم نحن نحتاج إلي التنفيذ الفعلي لمقولة الأمير خالد بن سلطان الرئيس الشرفي للمجلس العربي للمياه في اجتماع الجمعية العمومية للمجلس بالقاهرة.. عندما قال »القوة ضلع مهم في ثلاثية العوامل الفاعلة في حل المشاكل المائية.. الإرادة.. الإدارة.. القوة التي تحميهما.. التقرير الذي قدمه الأمير خالد.. كاشف للحقيقة بقول واحد.. »ما تفعله أثيوبيا.. كيد سياسي.. أكثر من كسب اقتصادي«. الكيد السياسي كيد سياسي.. هذا تاريخ العداء الذي يرتدي ثوب الفضيلة بحاجة دول حوض النيل للتنمية والكهرباء.. مياه النيل 0661 مليار متر مكعب سنويا.. حصة مصر منهما فقط 5.55 مليار متر مكعب سنويا- وهذه الكمية محددة بالاتفاقيات الثنائية والدولية منذ عام 1981 ومرورا باتفاقية 9291 وحتي الاتفاق الأخير 9591 بين مصر والسودان مع بدء إنشاء السد العالي، بينما ما نحتاجه اليوم لا يقل عن 37 مليار متر مكعب سنويا. ولا تمتلك مصر أي مصدر آخر للمياه، بينما أثيوبيا لديها 11 نهرا بمعدل أكثر من ألف مليار متر مكعب سنويا، ومياه أمطار 329 مليار متر مكعب أخري، والكونغو الديمقراطية يوفر نهرها 0061 مليار متر مكعب سنويا، وهكذا باقي دول الحوض، ومنها تنزانيا علي سبيل المثال تضم 002 نهر داخل أراضيها. الكيد السياسي تزعمته أمريكا مع بدء توتر العلاقات في عهد الرئيس عبدالناصر ورفض البنك الدولي تمويل السد العالي.. واتجاه بوصلة التحالف إلي الاتحاد السوفيتي الذي تولي تمويل السد.. حينها أرادت أمريكا ممارسة كل الضغوط علي مصر ومفاد رسالتها »خلوا السد ينفعكم« وتطوع مكتب الولاياتالمتحدة لاستصلاح الأراضي بإعداد الدراسات الفنية التي انتهي منها عام 7591 باقامة 62 سدا علي مياه النيل الأزرق كفيلة عند اكتمالها بحرمان مصر من نقطة مياه.. كان انذارا بالعطش والجوع والظلام.. لا مياه شرب ولا ري أراضي.. ولا زراعة.. ولا توليد كهرباء.. ولا صناعات أو سياحة.. كان بمثابة حكم بالموت علي شعب بأكمله.. ولكن تأتي الرياح بمالا تشتهي السفن وتغرق اثيوبيا في حرب أهلية لاكثر من 02 عاما. وخلالها يتقارب الاتحاد السوفيتي من نظام منجستو هيلا ماريام.. الذي يؤجل كل مشروعات المياه الضارة بمصر. أنه الكيد السياسي برفض اثيوبيا كل المبادرات ومشروعات التعاون التي طرحت منذ عام 4691 وحتي اليوم.. واصرارها علي إقامة سد النهضة علي النيل الأزرق مصدر 68٪ من مياه النيل.. السد الذي حددت الدنيا كلها مخاطره علي مصر.. عدا نحن الذين ندرس حتي اليوم سيقام علي مسافة قريبة مع الحدود السودانية، علي ارتفاع سبعمائة متر، ويخزن 07 مليار متر مكعب من المياه.. كفيلة بإغراق الخرطوم تماما إذا تعرض السد للانهيار.. ولم تنس اثيوبيا أو للدقة اسرائيل ان تكون فاعلا شريكا في السد، لتكون حربا أقليمية إذا تعرض لأي عمل عسكري. والنصف مشتبه فيه.. نصف الشعب المصري متهم.. والنصف الآخر مشتبه فيه.. حالة من الفوضي.. تاهت فيها الحقيقة.. وغابت العدالة.. اهتزت القيم وتردت الأخلاق.. تيار من الحقد والضغينة، وسط هذه الحالة كان قرار المستشار أسامة الصعيدي قاضي التحقيق في بلاغ إهدار المال العام ضد أحمد شفيق وآخرين.. جاء القرار بمثابة ضوء أمل في متاهة البلاغات الكيدية.. أحد المحامين تقدم بالبلاغ بكلام مرسل دون أدلة أو براهين.. فعل فعلته واختفي.. لم يجد المستشار أسامة الا اصدار قرار ضبط واحضار لمقدم البلاغ، وتوجيه تهمة البلاغ الكاذب له.. فسارع بالتنازل عن البلاغ معتقدا انه سيفر من يد العدالة. المستشار أسامة الصعيدي لم يعدل بتصرفه هذا ميزان العدل فقط، بل عدل كل معوج في سلوكنا وكشف عورات مجتمعنا.. ونأمل ان يكون درسا للساعين للشهرة ببلاغات إنشائية ضد الشخصيات العامة. مصطفي الفقي.. المفكر لا يسكن الدور المسروق في سلاسة جميلة مفهومة.. أمتعنا المفكر الدكتور مصطفي الفقي بحلقات تليفزيونية تحت عنوان »سنوات الفرص الضائعة«.. قدم د. الفقي تقييما موضوعيا علميا منصفا لحقبة الرئيس السابق.. ما له وما عليه.. أضفت »خفة دم« الدكتور الفقي وطرائفه وقفشاته متعة غلفت معرفته الواسعة وحكمته واقتداره في سرد الأحداث واستخلاص النتائج والدروس والمواقف لتكون نبراسا لتصحيح المسار وعظة ونصيحة لكل من يجلس علي كرسي الحكم. ثقافة الدكتور الفقي وبلاغته والقبول الذي وهبه الله له.. جعلت منه محاضرا متميزا في اختيار مصطلحاته الواصفة وكلماته المعبرة.. من أوصافه الشهيرة لمن لم يحظ بمنصب رسمي مثل »وزير«.. قال عن نفسه وغيره من جيله انه مثل »الدور المسروق«.. عندما ترشح وزيرا وهو شابا.. قالوا صغير السن.. وعندما أعادوا الترشيح بعد ذلك قالوا كبير في السن.. وأنا اختلف معه.. فقد احتل د. الفقي أهم المناصب وأغلاها.. وهو قلوب المصريين ومحبتهم.. فهو قامة فكرية وقيمة سياسية كبيرة.. يحتاج المصريون والعرب دوره التنويري أهم وأكبر بكثير من أي دور وظيفي.. حتي لو كان أمينا عاما لجامعة الدول العربية.. فمن حسن حظه ان غاب عن هذا المكان في هذه الفترة التي سيكون حساب التاريخ فيها عسيرا لكل من شغل موقعا بجامعة الاستسلام والغموض المشبوه غدا.. الأيام قادمة لحساب مثل هؤلاء المسئولين.. غدا.. الأيام تحمل الموقع الذي يستحقه المفكر السياسي الكبير د. مصطفي الفقي.