تشغل الرأي العام المصري في الآونة الأخيرة العديد من الأسئلة التي تتعلق بقضية مياه نهر النيل, ومستقبل العلاقة بين مصر ودول حوض النيل, خاصة بعد سعي تلك الدول لإيجاد آلية جديدة لتقاسم مياه نهر النيل مؤخرا علي أساس مايسمي بالاستخدام المنصف, ونركز في لقائنا التالي مع الدكتور عباس محمد شراقي أستاذ الجيولوجيا الاقتصادية بجامعةالقاهرة علي الموقف الأثيوبي, وهل تؤثر السدود التي تقيمها علينا في مصر, ولكي نكون أكثر تحديدا فقد طرحنا علي الدكتور شراقي التساؤلات التالية: 1- ما الامكانات المائية لإثيوبيا؟ 2- ما الدوافع التي جعلت إثيوبيا تعلن مواقفها الأخيرة بشأن مياه النيل؟ 3- لماذا تتطلع إثيوبيا إلي حصة إضافية رغم وفرة المياه لديها ؟ 4- ما دور الجيولوجيا في الحفاظ علي حق مصر في مياه النيل؟ 5- هل إثيوبيا قادرة فعلا علي إنشاء مشروعات مائية كبيرة؟ 6- وما حجم الضرر الذي قد يلحق بمصر والسودان؟ 7- كيف تتم تنمية الموارد المائية بدول الحوض؟ 8- ما مستقبل التعاون المشترك بين دول الحوض؟ أجاب الدكتور شراقي: تسعي مصر دائما إلي تنظيم علاقتها بدول حوض النيل والعمل علي استخدام الأسلوب الأمثل للاستفادة من مياه نهر النيل بما يعود بالنفع علي كل دول الحوض, والاتفاقيات المبرمة بين مصر ودول حوض النيل يبلغ عددها15 اتفاقية بدءا من1891 وانتهاء بمبادرة حوض النيل عام1999 وبعد فشل اجتماع وزراء شئون المياه لدول حوض النيل في ابريل من العام الحالي وعلي الأراضي المصرية بشرم الشيخ أعلنت دول المنبع عدا إريتريا التمرد وعزمهم علي إنشاء مفوضية جديدة تقوم علي إلغاء جميع الاتفاقيات السابقة, وإيجاد آلية جديدة لتقاسم مياه النيل علي أساس مايسمي بالاستخدام المنصف. وبدأت إثيوبيا بالفعل اعلانها عن افتتاح سدود جديدة وعزمها أيضا علي إنشاء سدود أخري دون استشارة مصر. ويوضح أن إثيوبيا هي عبارة عن هضبة مرتفعة, صعبة التضاريس حيث تصل أعلي نقطة بها إلي4620 متراي فوق سطح البحر وأقل نقطة-122 وعلي الرغم من أن إثيوبيا تملك9 أنهار كبيرة, وأكثر من40 بحيرة بينها بحيرة تانا, إلا أن نصيب الفرد السنوي فيها من المياه المخزنة يصل إلي38 مترا مكعبا فقط( مقابل700 متر مكعب للفرد في مصر), بخلاف نصيبه من مياه الأمطار والتي يصل مقدارها سنويا علي إثيوبيا إلي936 مليار متر مكعب, يتبخر80% منها بسبب المناخ المداري وارتفاع درجة الحرارة ليجري علي السطح122 مليار متر مكعب فقط, ولا يبقي منها سوي25 مليار متر مكعب حيث يخرج97 مليار متر مكعب خارج الأراضي الإثيوبية توزيعها كالتالي:80 مليار متر مكعب إلي نهر النيل, و8 مليارات متر مكعب إلي كينيا و7 مليارات مترا مكعب إلي الصومال وملياران إلي جيبوتي. وتعد إثيوبيا الدولة الوحيدة في الحوض التي لا تستقبل أي مياه من خارج أراضيها. وبعد انتهاء الحرب الأهلية في إثيوبيا تتجه أنظار الحكومة إلي التنمية الداخلية مما جعلها تفكر في مياه النيل. ويوضح الدكتور شراقي أن إثيوبيا تعاني من العديد من المعوقات الطبيعية التي تواجهها عند إقامة مشروعات تنموية سواء كانت مائية أو زراعية أهمها: 1- التوزيع الزمني غير المتجانس للأمطار, حيث تهطل الأمطار في فصل واحد فقط وقصير( يونيو ويوليو وأغسطس), عكس معظم دول المنبع التي تسقط عليها الأمطار معظم فترات العام بالإضافة إلي البحيرات والأنهار الدائمة, وبالتالي فإن الزراعة المطرية في إثيوبيا تتم في موسم واحد فقط وهو موسم المطر بينما الزراعة المروية لا تشكل سوي3% فقط من الزراعات الإثيوبية. 2- التوزيع الجغرافي غير المتجانس أيضا لسقوط الأمطار, التي تتركز غرب وجنوب إثيوبيا بينما الشرق خاصة في مثلث عفار يعاني من ندرة المياة. 3- ارتفاع معدل البخر والذي يصل متوسطه إلي87% رغم ارتفاع الأراضي الإثيوبية عن سطح البحر. 4- صعوبة التضاريس حيث الانحدارات الشديدة(1 2%) والأودية الضيقة العميقة. 5- نوع الصخور يلعب أيضا دورا سلبيا بالنسبة لمشروعات تخزين المياه في إثيوبيا, إذ تشكل الصخور الصلبة حوالي75% من مساحة السطح( بازلت50% وصخور ماقبل الكمبري المتحولة25%), أما ال25% المتبقية فأغلبها صخور رسوبية جيرية متشققة, وبالتالي صخور غير مناسبة لتكوين خزانات مائية سواء كانت سطحية أو جوفية. ولقد تم إنشاء حوالي70 سدا صغيرا في شمالي إثيوبيا( حوض نهر عطبرة) خلال الخمسة عشر عاما الماضية وفشل منها45 سدا في القيام بغرض الإنشاء لأسباب جيولوجية وجيوتكنيكية بنسبة70% ولم تتأثر مياه النيل بهذه الخزانات بل شهدت بحيرة ناصر أعلي منسوب لها(178 مترا) في أكتوبر1998 ودخول المياه إلي منخفضات توشكي بكمية تتعدي ال25 مليار متر مكعب وتكوين مايعرف ببحيرات توشكي والتي مايزال بعضها حتي الآن. 6- وفي يناير الماضي افتتحت إثيوبيا سد جيبي2( علي نهر أومو المتجه إلي بحيرة توركانا كينيا, وهو خارج حوض نهر النيل) وبعد مرور احد عشر يوما فقط ومع أول فيضان تم تدمير جزء كبير من النفق الخاص به نتيجة ارتطام كتل صخرية به, ويجري الآن إصلاحه الذي سوف يستغرق أكثر من6 أشهر. 7- التعرية الشديدة للصخور ومايصحبها من إطماء حيث يصل المتوسط السنوي لكمية الطمي المنقولة إلي أكثر من12 طنا للفدان, وقد تسبب هذا الإطماء في خفض السعة التخزينية للسدود السودانية المنشأة علي الأنهار النابعة من الأراضي الإثيوبية بنسبة50 إلي75%, فماذا عن السدود التي تنشأ داخل الأراضي الأثيوبية. السعة التخزينية للسد العالي لم تتأثر كثيرا( نحو2% خلال الأربعين سنة الأخيرة) ويرجع ذلك إلي السدود الإثيوبية والسودانية التي تحجز معظم الطمي قبل أن يصل إلي السد العالي. وبحيرة تانا التي هي أكبر بحيرة في إثيوبيا ومنبع النيل الأزرق يصل سمك الرواسب بها إلي100 متر علما بأن متوسط عمق المياه في البحيرة8 9 أمتار. 8- نوعية المياه التي ترتفع درجة ملوحتها في المنطقة الأخدودية المنخفضة في وسط إثيوبيا بسبب البخر الشديد وقلة الأمطار. 9- شدة الفيضانات نتيجة الأمطار الغزيرة والانحدارات الشديدة. 10-كثرة الزلازل نتيجة مرور الأخدود الإفريقي بإثيوبيا والذي يقسمها نصفين وكذلك كثرة الفوالق والتشققات في الصخور الإثيوبية, مما يسبب عائقا كبيرا في إنشاء السدود من الناحية الهندسية. 11- التصحر في أماكن كثيرة في إثيوبيا لأسباب طبيعية أو بشرية. خلاصة القول إن المشكلة الحالية تكمن في أن إثيوبيا تعاني بالفعل نقصا شديدا في المياه وهي أكثر دول الحوض معاناة من نقص المياه رغم أنها المساهم الرئيسي في مياه النيل. كما أن طبيعة الأراضي الإثيوبية لاتصلح لإقامة سدود كبري لتخزين المياه مهما تكن التكنولوجيا المستخدمة, وإذا افترضنا ذلك فكيف يتم نقل المياه المخزنة إلي المناطق الوعرة التضاريس؟ ويري الدكتور شراقي أنه بالتالي لا داعي للذعر الذي تسببت فيه بعض وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة. وفي الوقت نفسه فالمشكلة ليست هينة وهناك تصدع حقيقي في علاقة مصر بدول الحوض. وبناء علي هذه الحقائق يأتي تعامل مصر مع إثيوبيا وبقية دول حوض النيل مبنيا علي روح الأخوة الإفريقية والتعاون المشترك لا للاستفزاز السياسي. وأن يستمر دور مصر في التعاون وتقديم يد العون والمساعدة للدول الإفريقية خاصة دول حوض النيل, ليس في مجال تنمية الموارد المائية فقط, بل في شتي المجالات الأخري مثل التعليم والزراعة والتجارة والصناعة وغيرها. ومفتاح الحل للأزمة الحالية يبدأ من إثيوبيا وإعطائها الأولوية عند إقامة مشروعات مائية في دول الحوض. تعد اثيوبيا من الدول التي بها أدني معدلات الحصول علي الكهرباء في العالم, حيث يصل جملة ماتنتجه اثيوبيا أقل من1000 ميجا وات(80% من الإثيوبيين يعيشون بدون كهرباء). ويؤكد الدكتورشراقي أنه لن يؤثر علي حصة مصر والسودان أن تقام بعض المشروعات المائية الصغيرة التي تتناسب مع الظروف الطبيعية الإثيوبية لتوليد الكهرباء للاستفادة من المناطق شديدة الانحدار, أو لإقامة بعض المشروعات الزراعية المطرية أو المروية التي في الأغلب ستكون محدودة المساحات نظرا للطبيعة الجيولوجية والتضاريسية الصعبة. [email protected]