مدبولي: نعمل مع الوزارات المعنية على تسهيل إجراءات التسجيل العقاري للوحدات السكنية    تعاونيات البناء والإسكان تطرح وحدات سكنية ومحلات وجراجات للبيع بالمزاد العلني    برنامج الأغذية العالمي: الوضع الإنساني بقطاع غزة كارثي.. ومخزوننا الغذائي بالقطاع نفد    بيروت ترحب بقرار الإمارات بالسماح لمواطنيها بزيارة لبنان اعتبارا من 7 مايو    رئيس حزب فرنسي: "زيلينسكي مجنون"!    فاركو يسقط بيراميدز ويشعل صراع المنافسة في الدوري المصري    سيل خفيف يضرب منطقة شق الثعبان بمدينة طابا    انضمام محمد نجيب للجهاز الفني في الأهلي    أوديجارد: يجب استغلال مشاعر الإحباط والغضب للفوز على باريس    زيزو يخوض أول تدريباته مع الزمالك منذ شهر    إسرائيل تدرس إقامة مستشفى ميداني في سوريا    التموين: ارتفاع حصيلة توريد القمح المحلي إلى 21164 طن بالقليوبية    الزمالك: نرفض المساومة على ملف خصم نقاط الأهلي    الشرطة الإسرائيلية تغلق طريقا جنوب تل أبيب بعد العثور على جسم مريب في أحد الشوارع    حرس الحدود بمنطقة جازان يحبط تهريب 53.3 كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    استشاري طب شرعي: التحرش بالأطفال ظاهرة تستدعي تحركاً وطنياً شاملاً    المخرج طارق العريان يبدأ تصوير الجزء الثاني من فيلم السلم والثعبان    البلشي يشكر عبد المحسن سلامة: منحنا منافسة تليق بنقابة الصحفيين والجمعية العمومية    ترامب يطالب رئيس الفيدرالي بخفض الفائدة ويحدد موعد رحيله    الهند وباكستان.. من يحسم المواجهة إذا اندلعت الحرب؟    حادث تصادم دراجه ناريه وسيارة ومصرع مواطن بالمنوفية    التصريح بدفن جثة طالبة سقطت من الدور الرابع بجامعة الزقازيق    ضبط المتهمين بسرقة محتويات فيلا بأكتوبر    تعديل بعض أحكام اللائحة التنفيذية لقانون سوق رأس المال    مفتي الجمهورية: نسعى للتعاون مع المجمع الفقهي الإسلامي لمواجهة تيارات التشدد والانغلاق    23 شهيدًا حصيلة الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة منذ فجر اليوم    مديرية العمل تعلن عن توفير 945 فرصة عمل بالقليوبية.. صور    رسميًا.. إلغاء معسكر منتخب مصر خلال شهر يونيو    مورينيو: صلاح كان طفلًا ضائعًا في لندن.. ولم أقرر رحيله عن تشيلسي    فيبي فوزي: تحديث التشريعات ضرورة لتعزيز الأمن السيبراني ومواجهة التهديدات الرقمية    كلية الآثار بجامعة الفيوم تنظم ندوة بعنوان"مودة - للحفاظ على كيان الأسرة المصرية".. صور    نائب وزير الصحة يُجري جولة مفاجئة على المنشآت الصحية بمدينة الشروق    مصر تستهدف إنهاء إجراءات وصول السائحين إلى المطارات إلكترونيا    الداخلية تعلن انتهاء تدريب الدفعة التاسعة لطلبة وطالبات معاهد معاونى الأمن (فيديو)    رابط الاستعلام على أرقام جلوس الثانوية العامة 2025 ونظام الأسئلة    رغم توقيع السيسى عليه ..قانون العمل الجديد :انحياز صارخ لأصحاب الأعمال وتهميش لحقوق العمال    في السوق المحلى .. استقرار سعر الفضة اليوم الأحد والجرام عيار 925 ب 55 جنيها    صادرات الملابس الجاهزة تقفز 24% في الربع الأول من 2025 ل 812 مليون دولار    كندة علوش: دخلت الفن بالصدفة وزوجي داعم جدا ويعطيني ثقة    21 مايو في دور العرض المصرية .. عصام السقا يروج لفيلم المشروع X وينشر البوستر الرسمي    إعلام الوزراء: 3.1 مليون فدان قمح وأصناف جديدة عالية الإنتاجية ودعم غير مسبوق للمزارعين في موسم توريد 2025    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : انت صاحب رسالة?!    تقرير المعمل الجنائي في حريق شقة بالمطرية    بالفيديو.. كندة علوش: عمرو يوسف داعم كبير لي ويمنحني الثقة دائمًا    بلعيد يعود لحسابات الأهلي مجددا    بدء الجلسة العامة لمجلس الشيوخ لمناقشة تجديد الخطاب الدينى    الأوقاف تحذر من وهم أمان السجائر الإلكترونية: سُمّ مغلف بنكهة مانجا    غدا.. الثقافة تطلق برنامج "مصر جميلة" للموهوبين بالبحيرة    وزير الصحة يبحث مع نظيره السعودي مستجدات التعاون بين البلدين    في ذكرى ميلاد زينات صدقي.. المسرح جسد معانتها في «الأرتيست»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم 4-5-2025 في محافظة قنا    الرئيس السيسي يوافق على استخدام بنك التنمية الأفريقي «السوفر» كسعر فائدة مرجعي    دعوى عاجلة جديدة تطالب بوقف تنفيذ قرار جمهوري بشأن اتفاقية جزيرتي تيران وصنافير    الأزهر للفتوى يوضح في 15 نقطة.. أحكام زكاة المال في الشريعة الإسلامية    هل يجوز للزوجة التصدق من مال زوجها دون علمه؟ الأزهر للفتوى يجيب    خبير تغذية روسي يكشف القاعدة الأساسية للأكل الصحي: التوازن والتنوع والاعتدال    الإكوادور: وفاة ثمانية أطفال وإصابة 46 شخصا بسبب داء البريميات البكتيري    تصاعد جديد ضد قانون المسئولية الطبية ..صيدليات الجيزة تطالب بعدم مساءلة الصيدلي في حالة صرف دواء بديل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفاوضات مياه النيل‏..‏ شهادة للتاريخ - 3‏

مقال اليوم يتعلق بالحلقة الأخيرة شهادتي علي تطورات ملف مفاوضات مياه النيل‏.‏ وأستطيع القول في البداية‏,‏ إن الحديث في موضوع أي مفاوضات سياسية حديث شائك بطبعه‏,‏ ومحفوف بكثير من المحاذير‏. أولها وأهمها أنه ربما يتعرض من قريب أو بعيد لموضوعات وأحداث قد يعتبرها البعض سرا من أسرار تلك المفاوضات‏.‏ أما مصدر القلق الثاني‏,‏ فهو ارتباط تلك المفاوضات بمواقف أطراف لاتزال تشغل مناصب حساسة وهامة هنا أو هناك‏,‏ وربما لا يرغب هؤلاء في الكشف عن تفاصيل تلك المواقف في المرحلة الحالية‏,‏ أو حتي في المستقبل‏.‏ وأخيرا‏,‏ أن العملية التفاوضية التي نتحدث عنها‏,‏ وهي تتعلق بمفاوضات الاتفاق الإطاري لمبادرة حوض النيل‏,‏ لاتزال قائمة‏,‏ علي الأقل نظريا‏,‏ ومن ثم قد يعتبر البعض أن الحديث في موضوع هام وحساس مثل هذا قد يكون له تأثيره علي مجري المفاوضات‏.‏
من هنا‏,‏ ولتجنب الخوض في ذلك الجدل الذي أزعم أن جزءا كبيرا منه قد يكون مبالغا فيه‏,‏ فقد ارتأيت أن اخصص شقا كبيرا من ملاحظاتي علي الإطار العام والمناخ الذي حكم العملية التفاوضية مع دول حوض النيل منذ بدايتها وحتي اليوم‏,‏ دون التطرق إلي تفاصيل فرعية سوف يأتي اليوم الذي تنكشف فيه عاجلا أم آجلا‏.‏ إلا أن المؤكد في كل ما سوف أتناوله من ملاحظات‏,‏ وهو ما وعدت القارئ به منذ بداية إعداد تلك المقالات‏,‏ أنني سوف أحترم عقله قبل أي شيء‏,‏ وأحترم دواعي قلقه المشروع وأتفاعل معها بكل جدية‏,‏ وسوف أسعي جاهدا نحو الإجابة علي كل ما قد يتراءي له من أسئلة واستفسارات‏.‏
وأود التوضيح هنا‏,‏ أن ذلك الاهتمام المتزايد بقضية مياه النيل مؤخرا هو اهتمام طبيعي يعكس قلقا مشروعا لدي المواطن المصري‏,‏ وأن ذلك القلق لم يكن ليوجد لولا الشعور العام بعدم الثقة فيما يمكن أن تفضي إليه تلك المفاوضات من وضع ربما يؤثر علي مصالح مصر المائية‏.‏ وقد زاد من حالة القلق هذه‏,‏ تلك الزوبعة الإعلامية التي واكبت فشل الجولات الأخيرة من المفاوضات‏,‏ والتي تم تصويرها خطأ علي أنها مباراة صفرية انتهت بانتصار دول المنابع علي دول المصب‏,‏ وهي في واقع الأمر أشبه بنتائج اختبارات نهاية العام في بعض مدارس القطر المصري قديما‏,‏ والتي اشتهرت بعبارة‏'‏ لم ينجح أحد‏'.‏ والمقصود هنا‏,‏ أن المعيار الوحيد للنجاح الذي تعارف عليه المسئولون عن إدارة هذا الملف بدول حوض النيل منذ البداية‏,‏ وممثلو المؤسسات المانحة الذين ضخوا ملايين الدولارات من أجل دعم تلك المبادرة‏,‏ هو قدرة هذه الدول علي التوصل إلي اتفاق يحظي بدعم وتأييد جميع دول الحوض‏,‏ وإذا تعذر ذلك‏,‏ فهو قدرتهم علي مواصلة الحوار واستكمال المسيرة‏,‏ مع الإبقاء علي شعرة معاوية لا تنقطع أبدا مهما كانت الظروف‏.‏
وأنتقل من تلك المقدمة السريعة إلي استعراض بعض الملاحظات الرئيسية المرتبطة بموضوع مفاوضات مياه النيل‏,‏ علي النحو التالي‏:‏
مصر الأكثر حرصا علي التوصل إلي اتفاق منذ اليوم الأول
‏1‏ أن مصر كانت منذ اليوم الأول لإطلاق تلك المفاوضات‏,‏ الطرف الأكثر حرصا علي التوصل إلي اتفاق يرضي جميع الأطراف‏,‏ بل وحماية العملية التفاوضية من الانهيار في أوقات الأزمات‏,‏ لا لسبب يتعلق بضعف في مواقفها‏,‏ أو لشح في حججها القانونية والفنية‏,‏ أو ضعف في قدراتها الدبلوماسية و السياسية‏,‏ وإنما لأنها كانت المحرك الفعلي لمبادرة حوض النيل منذ بداية إطلاقها‏,‏ ولأن شعبها هو الشعب الوحيد الذي عرف قيمة نهر النيل وبني حضارته علي ضفافه‏,‏ وعرف منذ قديم الأزل أن النهر هو منبع الخير ومصدر الرخاء والتنمية لجميع الشعوب والدول المطلة عليه‏.‏ وانطلاقا من هذا المنطق والفهم‏,‏ لم تبخل مصر في يوم من الأيام عن رصد مواردها وخبراتها لخدمة أشقائها في دول حوض النيل‏.‏
‏2‏ أن المفاوض المصري دخل تلك المفاوضات من موقف قوة قانوني وفني‏.‏ ويخطيء من يتصور ولو للحظة واحدة‏,‏ أن المرونة التي أبدتها مصر خلال مراحل التفاوض المختلفة كانت لشعور ما بضعف حججها‏,‏ بل علي العكس من ذلك تماما‏,‏ فمنذ اليوم الأول الذي أعلنت فيه مصر عن مبادرة حوض النيل‏,‏ وعن استعدادها للدخول في عملية تفاوضية نعلم مسبقا أنها لن تكون سهلة وستطول لسنوات عديدة‏,‏ وتدرك مصر جيدا قوة موقفها القانوني المستمد من اتفاقيات دولية توازي في قدسيتها اتفاقيات الحدود التي أقرت منظمة الوحدة الأفريقية منذ عهد الاستقلال عدم جواز المساس بها‏.‏ بل والأهم من ذلك‏,‏ قوة وصلابة وضعها المائي‏,‏ وهي صلابة حقيقية وليست وهمية‏,‏ مستمدة من دراسات علمية تفصيلية منذ اتخاذ قرار بناء السد العالي وإلي اليوم‏,‏ وتحليلات وتنبؤات حسابية لإيراد النهر‏,‏ ومسح شامل للطبيعة الطبوغرافية لدول المنابع‏,‏ واقتصادات استخدام مياه النهر في تلك الدول مقابل استخدام مياه الامطار والمياه الجوفية الاكثر سهولة ووفرة وأقل تكلفة‏.‏ والنتيجة التي تم التوصل إليها بناء علي كل تلك التقديرات كانت وستظل لسنوات طويلة قادمة‏,‏ أن نهر النيل سيستمر في تدفقه الطبيعي نحو الشمال بمشيئة الله‏,‏ ولن يستطيع أي طرف مهما توفر له من موارد وخبرات‏(‏ وكلاهما قليل للغاية‏)‏ أن يؤثر تأثيرا ملموسا علي أمن مصر المائي لعقود طويلة قادمة‏.‏
‏3‏ أن المفاوض المصري رغم إدراكه لصلابة موقفه كان يعلم منذ اليوم الأول حجم المسئولية الملقاة علي عاتقه‏,‏ وأن التخطيط السليم يحتم افتراض أسوأ الاحتمالات حتي ولو كانت شبه مستحيلة أو غير متوقعة في الأمد القريب‏.‏ ومن هنا‏,‏ كان الأكثر مرونة‏,‏ والأطول نفسا‏,‏ والأكثر تحملا لكثير من‏'‏ سخافات‏'‏ التفاوض‏,‏ والتهديدات الجوفاء‏,‏ إدراكا من جانبه بأن بناء الثقة هو أساس التعاون‏,‏ وأن المنفعة المشتركة ولو قليلة‏,‏ أفضل من منفعة منفردة ولو كثرت‏,‏ وأن نزع أسباب الخلاف أساس لبناء علاقات جوار قوية وصحية‏.‏ وعلي أساس هذا الفهم الشامل للأمور‏,‏ والذي أزعم انه كان واضحا جليا في عقل ووجدان كل فرد من أفراد الفريق التفاوضي المصري المشكل من جميع أجهزة الدولة المعنية‏,‏ كانت تتخذ القرارات ويتم اختيار أفضل البدائل‏.‏ وأود الإشارة هنا إلي أنه في أحلك فترات التفاوض‏,‏ لم يغب للحظة عن ذهن أي مسئول مصري‏,‏ سواء داخل فريق التفاوض أو خارجه من المشرفين علي العملية التفاوضية‏,‏ أن معيار النجاح لم يكن أبدا يتمثل في القدرة علي التوصل إلي اتفاق مع باقي دول الحوض تحت أي ظرف او مقابل أي ثمن‏,‏ وإنما في الحفاظ علي توازن معادلة صعبة من ثلاثة أضلاع‏:(‏ الأول‏)‏ إظهار المرونة والرغبة في التوصل إلي اتفاق‏,(‏ الثاني‏)‏ التمسك الكامل بثوابت الموقف المصري وعدم التفريط للحظة واحدة في أمن مصر المائي‏,(‏ والثالث‏)‏ هو الحفاظ الدائم علي شعرة معاوية مع الأطراف الأخري‏.‏ وهي معادلة صعبة في حقيقة الأمر‏,‏ أتصور أن الحفاظ علي توازنها كان شرطا لضمان استمرار العملية التفاوضية دون انهيار طوال الأعوام الماضية‏.‏
قضية مياه النيل تم تسييسها لتحقيق أهداف سياسية
‏4‏ أن مسئولية إدارة هذا الملف لم تكن في أي مرحلة ما واقعة علي عاتق شخص واحد أو جهة بعينها‏.‏ وإنما كانت تتولاها لجنة وطنية عليا‏,‏ ممثلة بها جميع الجهات المعنية علي أعلي مستوياتها‏,‏ وهو أمر طبيعي نتيجة حساسية الموضوع وتشعب جوانبه الفنية والسياسية والقانونية والأمنية‏.‏ ولقد مثلت خلية النحل هذه‏,‏ بأذرعها الدبلوماسية وغير الدبلوماسية‏,‏ العلنية والخفية‏,‏ قوة دعم رئيسية للمفاوض المصري في كافة مراحل التفاوض‏,‏ والتي أزعم أنه كان لها دور رئيسي في حلحلة كثير من المشاكل ومواجهة تحديات كثيرة كادت تعصف بالعملية بأكملها أكثر من مرة‏.‏
‏5‏ حقيقة اخري يجب ألا تغيب عن الأذهان‏,‏ هي أن قضية مياه النيل مثلت لسنوات طويلة قضية رأي عام أولي لدي حكومات ومجتمعات دول المنابع‏,‏ بل وتم تسييسها بشكل مفرط من قبل الكثيرين لتحقيق أهداف سياسية‏,‏ وبشكل أثر تأثيرا مباشرا علي أسلوب ومنطق إدارة المفاوضات علي الجانب الآخر‏,‏ وتسبب بشكل رئيسي في تعنت مواقف بعض الدول خلال المفاوضات دون أسباب مقنعة أو حجج مقبولة‏.‏ ويشهد علي ذلك موقف مراقبي البنك الدولي‏,‏ وأحاديث بعض المسئولين في تلك الدول خلف الأبواب المغلقة‏,‏ التي أكدوا خلالها أكثر من مرة عدم وجود أية نية لديهم للمساس بأمن مصر المائي‏,‏ وإدراكهم بأن بناء الثقة وتنفيذ مشروعات التعاون المشترك علي الأرض هو الضمان الوحيد للتوصل إلي اتفاق يرضي جميع الاطراف‏,‏ ولو بعد حين‏.‏
‏6‏ أن الامانة تقتضي ألا يتم إغفال أو تناسي ما نجحت مصر في تحقيقه علي مسار بناء الثقة والتعاون مع دول الحوض علي مدي السنوات الماضية‏.‏ وهو ما مكنها من التوصل إلي اتفاق حول جميع مواد الاتفاقية الإطارية باستثناء مادتين او ثلاث علي الاكثر‏.‏ وربما يتصور البعض أن ذلك كان بالأمر الهين‏,‏ أو أن المواد التي تم الاتفاق عليها لم تكن ذات أهمية او حساسية لدي الطرفين‏,‏ وهو بكل تأكيد تصور وتقييم خاطيء وغير دقيق‏.‏ فقد بدأت تلك المفاوضات في ظل ظروف مشبعة بالريبة والشك‏,‏ وانعدام الثقة‏,‏ حتي ان المفاوض المصري والإثيوبي علي سبيل المثال لم يكونا يتبادلان السلام بالأيدي‏,‏ أو يتحدثان بشكل مباشر وإنما عبر وسطاء‏,‏ وكانت قاعات التفاوض تعج بالاتهامات المتبادلة والغضب والتجريح‏.‏ أما بعد سنوات من الحوار وإزالة الشوائب والبناء التدريجي للثقة‏,‏ فقد نجحت دول الحوض في ان تنفذ مشروعات مشتركة عديدة علي أرض الواقع‏,‏ وأن تدير حوارا يتسم بقدر كبير من العقلانية‏,‏ ويعكس رغبة متبادلة في الالتقاء عند نقطة وسط تحقق مصالح الجميع‏,‏ وهو ما تمت ترجمته عمليا بالاتفاق علي معظم مواد مشروع الاتفاقية الإطارية‏,‏ بما في ذلك المواد القانونية الشائكة التي تحدد اسس ومباديء التعاون في استخدامات النهر‏.‏
‏7‏ أن أحد أهم مظاهر النجاح التي أتحدث عنها‏,‏ والتي لا يجب إغفالها أو التقليل من أهميتها‏,‏ هي قدرة دول الحوض علي التوصل إلي اتفاق بشأن البنود الخاصة بمباديء وقواعد التعاون فيما بينها‏,‏ وهي مبادئ مستمدة من قواعد القانون والعرف الدولي‏,‏ كمبدأ عدم الإضرار بالغير‏,‏ والاستخدام المنصف والعادل للمياه‏,‏ والمعايير الواجب مراعاتها عند توزيع الحصص المائية‏,‏ وقصر الاستفادة من مياه النيل علي دول الحوض‏,‏ وغير ذلك من مبادئ كان الاتفاق عليها أمرا ليس بالسهل أو اليسير في بداية المفاوضات‏.‏ وقد أعقب ذلك اختراق رئيسي آخر عام‏2007,‏ حينما اصطدمت المفاوضات بمعضلة تناول العلاقة بين الاتفاقية الإطارية الجديدة والاتفاقيات الأخري القائمة‏,‏ والتي تعترض عليها باقي دول الحوض‏.‏ وهنا‏,‏ نجحت كل من مصر وأوغندا في استحداث مفهوم جديد هو مفهوم‏'‏ الأمن المائي‏'‏ ليكون بديلا مقبولا للجميع يضمن تناول استخدامات مصر المائية‏,‏ دون التطرق المباشر لموضوع الاتفاقيات القائمة‏.‏ وأود التوضيح هنا‏,‏ أن المفاوض المصري كان يدرك جيدا أن الشق الرئيسي الأكثر أهمية لمصر في كل تلك الاتفاقيات هو حماية استخداماتها الحالية من مياه النيل‏(55,5‏ مليار متر مكعب سنويا‏),‏ وأن ما يتجاوز ذلك من موضوعات عالجتها تلك الاتفاقيات أصبح موجودا بالفعل في الاتفاقية الإطارية الجديدة‏,‏ ولذا ليس هناك ما يدعو إلي القلق إذا ما تم تبني مفهوم‏'‏ الأمن المائي‏',‏ شريطة النص الصريح علي أن تحقيق الأمن المائي لجميع دول الحوض‏,‏ يجب ألا يؤثر سلبا علي الاستخدامات الحالية لدول الحوض والحقوق المرتبطة بها‏.‏ وأخيرا‏,‏ جاء النجاح الأهم والأكبر‏,‏ والمتمثل في اتفاق دول الحوض علي مبدأ‏'‏ الإخطار المسبق‏'‏ فيما يتعلق بالمشروعات التي تعتزم بعض دول الحوض القيام بها‏.‏ وهو مبدأ كانت تعترض بعض الدول عليه في بداية المفاوضات‏,‏ إلا أنها وافقت عليه في النهاية بعد مفاوضات طويلة‏,‏ وتم تشكيل لجنة فرعية للنظر في تحديد إجراءات تنفيذ هذا المبدأ‏.‏
‏8‏ أن مفهوم الأمن المائي الذي تحدثت عنه باعتباره دليلا علي نقلة نوعية شهدتها المفاوضات عام‏2007‏ بعد جمود في حسم فقرة‏'‏ الاتفاقيات القائمة‏'‏ لأكثر من ثلاث سنوات‏,‏ لم تتمكن دول الحوض من الاستفادة منه والبناء عليه للتوصل إلي صياغة مقبولة تتضمن النص الصريح علي احترام الاستخدامات والحقوق الحالية في مياه النيل‏(‏ في إشارة ضمنية لاستخدامات وحقوق مصر والسودان‏).‏ وأود الإشارة هنا إلي أن المسئولين في دول الحوض كانوا قد أكدوا للجانب المصري طوال تلك الفترة احترامهم الكامل لاستخدامات مصر من مياه النيل‏,‏ وعدم وجود أي نية لديهم للإضرار بأمن مصر المائي‏,‏ إلا أن مشكلتهم الرئيسية تتمثل في عدم مقدرتهم علي النص علي ذلك صراحة في الاتفاق الإطاري في المرحلة الحالية‏.‏
أما الآن‏,‏ وبعد استعراض كل تلك الحقائق المرتبطة بفهم ديناميكيات إدارة هذا الملف منذ البداية وحتي يومنا هذا‏,‏ أود التذكير بأن الهدف من وراء كل ذلك كما أوضحت من قبل‏,‏ هو إحاطة القارئ بالأضلاع الثلاثة الرئيسية التي حكمت التعامل مع موضوع مياه النيل‏,‏ وهي الإلمام الشامل بحقيقة الوضع المائي لمصر ولدول حوض النيل في الحاضر والمستقبل‏,‏ ووضع إستراتيجية متكاملة تشارك فيها جميع أجهزة الدولة المعنية للتقارب وربط المصالح مع دول حوض النيل‏,‏ وأخيرا حسن بناء الموقف التفاوضي المصري وإدارة العملية التفاوضية‏.‏ ولاشك أن معيار النجاح الحقيقي سيظل دائما هو مدي قدرتنا علي تحقيق الأهداف المرجوة في كل ضلع من الأضلاع الثلاثة‏,‏ والحفاظ علي التوازن المطلوب بينها جميعا‏.‏
أتصور أيضا أن هناك بعض الأسئلة التي ستظل تطرح نفسها لبعض الوقت باحثة عن حلول مقنعة‏,‏ وأهمها‏:‏ ما هي أسباب وصول الأمر إلي الأزمة الحالية التي قررت فيها دول المنابع فتح باب التوقيع علي الاتفاقية يوم‏14‏ مايو الجاري دون شرط انضمام مصر والسودان؟ وما هو الموقف المصري المتوقع للتعامل مع تلك الأزمة حاليا وفي المستقبل؟ وكيف سيتم تحديد سيناريوهات التعامل مع الأزمة‏,‏ وما هو مستقبل العلاقة مع دول حوض النيل في ظل تلك التطورات؟ وما هو مستقبل بقاء مبادرة حوض النيل من عدمه؟ والحقيقة التي أود التأكيد عليها هنا‏,‏ هي أن تاريخ العلاقات المائية بين مصر ودول حوض النيل يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الحلول ستظل دائما موجودة ومتوافرة‏,‏ وأن صانع القرار المصري سيظل دائما لديه القدرة علي الإدارة الحكيمة لتلك العلاقة‏,‏ والتنبؤ بوقوع الأزمات وإعداد السيناريوهات اللازمة لحسن التعامل معها حال وقوعها‏,‏ ومن هنا فإنني أتمني كل التوفيق والنجاح للمسئولين عن إدارة هذا الملف في المرحلة الحالية في التوصل إلي حلول وإجابات شافية عن تلك الأسئلة‏,‏ حماية لأمن مصر المائي‏,‏ وصونا لعلاقاتها مع باقي دول حوض النيل‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.