لعلي لا أبالغ القول إن المنيا تمثل واحدا من الخطوط الأمامية علي الجبهة الأمنية, حيث تقف العيون الساهرة عند أعلي درجات اليقظة والانتباه للتعامل الفوري والحاسم مع أي مخططات شريرة تستهدف أمن الوطن, واستقراره ولتصنع خطا أحمر لا يمكن تجاوزه, واستمرار نجاح الجهد الأمشني أيضا شرطا أساسيا للحفاظ علي قوة الدفع الراهنة للمضي قدما في خطة تنمية الصعيد إلي آفاق واعدة غير مسبوقة من شأنها أن تغير ملامح الحياة التي آن لها أن تواكب العصر الذي نعيشه. طوال المسافة الفاصلة بين العاصمة وعروس الصعيد, استدعت الذاكرة الكثير من الصور والأحداث التي ارتبطت بتلك المنطقة ووجدت فيها وسائل الإعلام مادة دسمة تملأ بها الصفحات والمساحات الزمنية في برامج الفضائيات, ولكن الشعور الأعمق كان يلامس حقيقة تبدو سلبية, حيث نتحدث كثيرا عن الوطن في حين لا نسعي بالقدر اللازم للتعرف علي الواقع المباشر بعيدا عن الأفكار المسبقة التي لا تأخذ بمتغيرات هائلة شهدتها خلال السنوات الأخيرة. هذه الحقيقة فرضت نفسها فور الدخول إلي قلب المدينة, حيث الشوارع عامرة بالأهالي الذين اتخذوا من الحدائق المنتشرة بها وفي الميادين المخططة جيدا وقد أتوا بطعامهم ليتناولوه في الهواء الطلق ونسمات باردة رغم أننا في فصل الصيف. مدينة جميلة تنقلك إلي حالة تختلف تماما عن الصخب والضوضاء في القاهرة, وتبدو مظاهرة الحداثة في المباني والتماثيل واللوحات الجدارية التي تشير إلي عمل وجهد يتم بذله علي أرض الواقع. والنيل في المنيا له مذاق ورؤية أكثر اختلافا, حيث يبدو متسعا بين ضفتيه وقد ازدانت جوانبه بالأشجار والحدائق والكورنيش الذي أصبح علامة مميزة لعروس الصعيد. منذ اللحظة الأولي بدت المدينة بصورة بعيدة عن تلك خط السائدة التي يتم الترويج لها في بعض الصحف والفضائيات, وكان لابد من الانتظار حتي يمكن قياس هذا الفارق والاختلاف عند الالتقاء بأبناء المدينة. المناسبة كانت إحدي الدورات التي تنظمها وزارة الداخلية للتعريف وتعميق ثقافة حقوق الإنسان, وهي الدورات التي تجوب المحافظات في مبادرة نالت تقدير الجميع لأنها لا تقتصر علي الرؤية الأمنية, وإنما تتيح الحوار بين أطراف المجتمع وبمشاركة الخبراء والباحثين والإعلاميين أيا كانت توجهاتهم وصولا إلي المعالجة الصحيحة والرصد الدقيق والأمين لهذه القضية المهمة التي تحظي باهتمام ومتابعة شخصية من وزير الداخلية وقد فهمت أن تعليماته واضحة لإفساح المجال حتي لبعض الأقلام والأصوات المعارضة حتي تري علي أرض الواقع ما يدور في العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمواطنين للارتقاء بحقوق الإنسان والمحافظة عليها. ومع النجاح الذي أحرزته المبادرة اتسعت الدائرة للمشاركين والمتابعين لتلك الدورات وأصبحت تضم إلي جانب القيادات الأمنية ومنسوبي الشرطة أعدادا متزايدة من المواطنين الذين يطرحون كل ما يشغلهم من قضايا مطروحة. وأمام حشد امتلأت بهم قاعة نادي الشرطة بالمنيا, وبحضور اللواء محسن مراد مدير الأمن وكبار مساعديه, أدركت أبعادا أخري لها أهميتها القصوي تتحقق بمثل هذه الدورات والندوات. قلت إن الصفات الأصيلة في الشعب المصري تنتصر دائما لثقافة حقوق الإنسان, وأن هذا الشعب لم يعرف يوما التطرف أو التصنيف بين أبنائه وإنما هي علاقة المودة والتراحم والأعراف والتقاليد التي تجعل من الجميع بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية والسياسية أسرة واحدة لا تفرق بينهم سلوكيات خاطئة تظل فردية وتستوجب العلاج الحاسم للحفاظ علي التماسك بين أفراد الأسرة. وقلت أيضا إن البعض يحاول الخروج بقضية حقوق الإنسان عن مسارها الصحيح, تماما كما فعلوا بالديمقراطية والحرية التي رفعوا شعاراتها واستخدموها ستارا للغزو واستنزاف ثروات الشعوب. وإذا أخذنا العراق مثالا ما حدث للشعب هناك رغم أنه يمتلك ثروات طبيعية ونفطية هائلة, نجد أن الشوارع والأحياء قد تم تقسيمها علي خلفيات طائفية وعرقية بعد أن زرعوا بذور الفتنة والأنقسام. وبعد أن فشلوا وسقطت أقنعتهم في مسألة الحرية والديمقراطية يحاولون مرة أخري في قضية حقوق الإنسان, وعليهم أن يدركوا أن مصر التي سبقت البشرية في الحضارة ولا تحتاج إلي دروس خصوصية من أحد, أيا كان, ومهما تكن الدولة التي تريد اسراء النصيحة عظمي أو صغري وعليهم أن يخرجوا أنفسهم من الأزمات الحادة التي تعصف بهم, وكلنا نعلم أن أمريكا قد فشلت في العراق وأفغانستان وتطاردها فضائح أبو غريب والحديثة وضرب المدنيين بالطائرات وأنها تدفع الثمن باهظا من انهيار اقتصادي واجتماعي سوف يزداد ويتسع ليطول حلفاءها في أوروبا. وقلت إن مصر التي يتحدثون عنها قد خرجت من حروبها التي خاضتها دفاعا عن قضايا أمتها كان عليها أن تزيل مظاهر الدمار وأن تعيد بناء مدن القناة, وذلك بعد أن استردت كل شبر من ترابها المقدس, وأن الرؤية المنصفة تجعل من التجربة المصرية في الإصلاح الشامل علي جميع مساراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية نموذجا يحتذي لأن هذا الإصلاح جاء بقرار وطني خالص وقد راعي الظروف المحلية وخصوصية المجتمع المصري, ونحن الآن تتحدث في بلد يتمتع بحرية سياسية تعبر عنها الأحزاب ومناقشات البرلمان وعدد لا محدود من الصحف والفضائيات. وفي الاقتصاد الوطني أنجزت مصر خطوات استحقت إشادة المؤسسات الدولية التي لا تعرف المجاملة, وأثمرت مشروعات عملاقة تنير الصحراء وأدخلت الصعيد لأول مرة في التاريخ إلي دائرة التنمية والنهضة الشاملة. وهناك الكثير والكثير مما تحقق وإن كنا لا ندعي أبدا أننا قد وصلنا إلي نهاية المطاف, بل علي العكس يحرص الرئيس مبارك دائما علي التذكير بالتحديات القائمة وضرورة التغلب عليها, ولكن بثقة في النفس وليس بالإحباط وإشاعة اليأس. وقلت أيضا إن حرب أكتوبر المجيدة قد أعطت درسا لا ينسي لكل من تسول له نفسه المساس بحبة رمل واحدة من تراب الوطن ولهذا يحاولون الاختراق من الداخل والسعي لافتعال أحاديث تمس النسيج الوطني الواحد الذي يظل بجذوره الراسخة حائط الصد لتلك الدعاوي الباطلة التي لا تجد لها صدي في البيت المصري. ومن هنا علينا وضع الأمور في نصابها الصحيح تجاه تلك المحاولات الرامية إلي الإساءة لدور الأجهزة الأمنية, لأن الهدف من وراءها هو الوقيعة, ومن ثم النفاذ والاختراق للأمن والاستقرار. ولذلك فإن مثل هذه الندوات تغلق الطريق أمام تلك المخططات وتعيد قضية حقوق الإنسان إلي أصحابها لمناقشتها والبحث في وسائل تدعيمها وصولا إلي الأفضل الذي يلبي الاحتياجات الأمنية ولا يتعارض مع حقوق الإنسان المصري. وتوالت أسئلة الحضور, وكان التركيز فيها علي المعالجة الإعلامية التي تغلب عليها الإثارة سواء في الأحداث التي عاشتها المنيا أو في العلاقة بين الشرطة والمواطنين. وكانت دهشتي من سؤال طرحته سيدة بكلمات واضحة, لماذا نتحمل هذه الإساءات التي تمتلئ بها بعض الصفحات والبرامج وتشوه صورة المجتمع المصري؟! لماذا لا تكون هناك رقابة علي الصحف والفضائيات؟. ولم استطع أن أخفي ابتسامة لأنني طالما حذرت من غضب الرأي العام تجاه الإثارة والشطط في المعالجة الإعلامية, ولكنني بادر بالقول: أبدا لا يمكن لنا العودة إلي الوراء, وحرية الرأي والتعبير وهي وسام علي صدر مصر ونفتخر بذلك, وبالتالي لا مجال للحديث عن رقابة من أي نوع, وإن كان صحيحا أيضا القول إن مثل هذه الكلمات سوف تجعل من المراجعة ضرورة بالنسبة للقائمين علي صحف وبرامج الإثارة, لأنهم وإن كان قصدهم زيادة الانتشار فإن عليهم إدراك حقيقة أن الجمهور ينصرف عنهم. ووقف شخص آخر ليقول: لماذا لا تتحدثون عن الإيجابيات مثلما يتم التركيز علي السلبيات, أقسام الشرطة تتطور, وهناك تغيير كبير لدرجة أن أرقام المأمور ومعاونيه معلنة لضمان وصول أي شكوي إليه, والتحقيق فيها, كذلك السجون تشهد هي الأخري طفرة حقيقية لإعادة تأهيل النزلاء والعودة إلي ممارسة حياتهم بعد انقضاء فترة الحبس. وكان علي الاعتراف بأن الحديث عن الإيجابيات أصبح تهمة توجه إلي الصحف والكاتب وينال عقابه بأشكال كثيرة, لأن الفضائيات والبرامج الصحف الغنية تسعي نفط للمناضلين الذين تمتلئ جيوبهم وتزداد ثرواتهم بالمتاجرة بهموم البسطاء. واكتفيت بعدم الإجابة والصمت وغادرت المدينة بعد أن شاهدت طريقا يخترق الصخور في الجبل ويفتح أبواب التنمية في المنياالجديدة, وأعادني الطريق إلي الحالة المصرية التي عليها الحفر في الصخور لاستكمال خطواتها نحو المستقبل, ولكن تبقي الحقيقة المؤكدة أن رسالة أهالي المنيا بل ومن المصريين جميعا إلي بعض وسائل الإعلام أن يتقوا الله في الوطن, وأن يكتفوا بالأموال الطائلة التي حصلوا عليها من تجارتهم الخاسرة. muradezzelarab@hotmailcom