يتصور العديد من جمهور السينما أن الفيلم المتميز هو الذي يحتوي علي قصة واضحة وبناء تقليدي يعتمد علي تمهيد وحبكة وذروة ثم خاتمة, غير ان هذا البناء التقليدي المستمد في الاساس من الدراما المسرحية أو الروائية لا يعني انه الوحيد في طرق الحكي السينمائي علي الإطلاق, هو فقط نوع من أنواع عديدة من تلك الطرق قد يعد اقدمها علي الإطلاق, إذ انه من المؤكد أن نشأة صناعة السينما في القرن العشرين اعتمدت في الأساس علي الطريقة التقليدية للحكي والتي استمدت خواصها بشكل أكبر من فنون السرد الادبي غير ان السينما كفن مستقل بذاته شهد العديد من التجارب في البناء والتركيب وخلق طرقا جديدة للسرد بعد عقود قليلة من تجربة السينماتوجراف التي قام بها الأخوة لوميير في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر, من المعروف ان التجارب الأولي للسينما كانت اقرب إلي التوثيق والسينما التسجيلية ولكن بعد أن دخلت السينما الروائية في المضمار كانت هناك مساحات ارحب من افكار تغيير اشكال التركيب السينمائي وشهدت العقود الأولي من القرن العشرين تطورا في مفاهيم البناء السردي بسبب دخول المفاهيم والأفكار الفنية من الفنون الأخري إلي عالم الشاشة الفضية مثل دخول الفن التشكيلي علي السينما كما في تجربة الفيلم القصير الذي قام باخراجه لويس بونويل ورائد السريالية في الفن التشكيلي سيلفادور في عام1929 بعنوان( كلب اندلسي) لكن يبقي للأدب تحديدا فن الرواية الاسهام الاكبر في الحكي السينمائي في العالم ككل وفي مصر نجد أن السينما منذ العقد الرابع من القرن العشرين اعتمدت في المجمل علي الرواية ولعل اشهر بداية للرواية الفنية ظهرت علي الشاشة الكبيرة كانت زينب للروائي محمد حسين هكيل تلتها بعد ذلك العديد من الأفلام التي استوحت من روايات كتبها عدد من عظماء الادب العربي مثل نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس وربما يكون يوسف السباعي هو أكثر الأدباء مساهمة في الدراما السينمائية في القرن الماضي وذلك لتمتع الدراما في روايته ببساطة تسمح بأن يرتكز عليها البناء التقليدي للحكي في سيناريوهات السينما. أما جيل الستينيات من الروائيين المصريين فمساهماتهم كانت في السينما اقل بكثير من الجيل الذي يسبقهم ولم تظهر إلا في التسعينات ويعد فيلم الكت كات الذي اخرجه داود عبدالسيد عام1991 عن رواية مالك الحزين لابراهيم اصلان واحدا من أشهر الأفلام السينمائية في العقدين الماضيين وأتصور ان سبب النقص الشديد في اعتماد واحدا من أشهر الأفلام السينمائية في العقدين الماضيين وأتصور أن سبب النقص الشديد في اعتماد السينما علي الانتاج الأدبي لجيل الستينات والأجيال التي تلته النقص الشديد في اعتماد السينما علي الانتاج الأدبي لجيل الستينيات والأجيال التي تلته هو التحول في بناء الحكي في فنون السرد الأدبي, إذ أنه أخذ أشكالا أكثر تركيبا من الشكل التقليدي المتعارف عليه في السينما الجماهيرية, في حين أن السينما بعد أن مرت بأسوأ فتراتها في التسعينيات لم يعد منتجوها مغرمين بتناول فكر اكثر اختلافا في البناء والتركيب عن تلك السناريوهات المستندة علي استعارة الأفلام الأمريكية التحارية أي أننا امام كتابات أدبية أكثر تركيبا وعمقا يصل إلي التعقيد وأمام تواضع وتبسيط في الدراما السينمائية. واحد من الأفلام المعروضة حاليا والذي يرتكز علي نص أدبي هو فيلم عصافير النيل عن رواية للأديب ابراهيم أصلان والذي ايضا ساهم في كتابة حوار الفيلم وكتب سيناريو الفيلم واخرجه مجدي أحمد علي السيناريو يستخدم تقنية الفلاش باك فهو يرصد رجلا يدعي عبدالرحيم( فتحي عبدالوهاب) يقوم من سريره في أحد المستشفيات الحكومية ويبدو من اللقطات القريبة لجمسه والقسطرة التي تتدلي من جانبه انه يعاني من مرض عضال نفهم بعد ذلك انه مشاكل في الكلي غير أن الفيلم يلمح ولا يؤكد انها فشل كلوي هذه البداية التي يقابل فيها عبدالرحيم مصادفة سيدة مريضة في نفس المستشفي تدعي بسيمة( عبير صبري) هي التي بوجودها أمامه تعيد ذاكرته وبالتالي تعيد السيناريو إلي البداية في فترة شبابه عندما حضر إلي القاهرة من الريف بحثا عن عمل ولم يجد له مكانا سوي بيت شقيقته نرجس( دلال عبدالعزيز) وزوجها البهي( محمود الجندي) الذي يعمل في هيئة البريد. الفيلم يتطرق للعديد من تركيب العلاقات ومنها العلاقات النسائية يعيشها عبدالرحيم في القاهرة بدءا من علاقته بجارة شقيقته التي تدعي بسيمة ومن فرط جمالها وتأنقها يسميها أهل شارع فضل الله عثمان بإمبابة بإسم بسيمه موضة هذا الخط الدرامي هو الرئيسي في الفيلم إذ انه يتناول مجتمع الطبقة المتوسطة الدنيا من خلال تنوع العلاقات النسائية التي يقيمها عبدالرحيم ومنها من هو زواج ومنها ما هو علاقات غير شرعية إلا أن الأهم في هذا الفيلم هو التفاصيل الإنسانية الخاصة بجميع الشخصيات الأخري ومنها نرجس التي تخاف من الظلام الحالك حتي أنها تخشي من الموت فقط لأن القبر مظلم لذلك فهي تسأل زوجها ذات مرة أن يضع لها لمبة في المقبرة فور دفنها فقط لتعتاد علي المكان. الأديب ابراهيم أصلان كاتب الرواية وأيضا الحوار لديه خبرة طويلة في مجال البريد إذ انه عمل في الماضي في هذا المجال وكانت روايته الشهيرة وردية ليل تدور أحداثها حول هذه المهنة التفاصيل الإنسانية المرتبطة بالعمل في مجال البريد جعلت أصلان ومجدي أحمد علي يقدمان حالة إنسانية متميزة, فنجد البهي بسبب ضعف بصره يصاب في حادث وهو يركب الموتوسيكل( العهدة) من الهيئة الأمر الذي يتسبب في مشكلة إدارية له, تلك التفصيلة الإدارية كانت هي الأزمة الدرامية الأساسية لهذا الرجل اذ انه صدر قرار بتحويله من فني إلي إداري في الهيئة الأمر الذي بسببه يحال علي المعاش في سن الستين وليس في سن الخامسة والستين طبقا للقانون, عدة مشاهد توضح العديد من التظلمات التي كان يكتبها الرجل لقيادات البريد والوزارة ثم رئاسة الجمهورية بالتالي فإن تلك التفاصيل تسمح للمشاهد بمعرفة مدي معاناة تلك الشخصية حتي معرفة كيفية سيطرة فكرة التظلمات علي عقل الموظف غير أن التفصيلة الأكثر سوءا في الفيلم هي تلك التي تظهر البهي وهو يمثل لافراد عائلته مقطعا من مسرحية هاملت إذا أنها بدت خارج السياق تماما وفقط تهدف لأن نعرف أن هذا الموظف الغلبان هو متعلم تعليما عاليا لكن السيناريو يرسم بعد ذلك لوحة رائعة لموت الرجل قرب نهاية الفيلم عندما يركب سيارة نصف نقل مخصصة للنقل الجماعي مع زوجته ويخطئ في الكلام في لمحة للحالة الصحية الأقرب لتصلب الشرايين في المخ التي من الممكن ان تكون اصابته الواقع ان السيناريو يرسم التفاصيل لشيخوخة لبعض الشخصيات تعد هي الأجمل في الفيلم ككل فنجد نهاية البهي ايضا نري موت الأم نرجس ثم ايضا نتعرف علي تدهور الحالة الصحية لجار البهي خاصة المشهد الذي يتشكي فيه لنرجس ان ابناءها يعبثون بإطارات سيارته الجديدة علي الرغم من أن ابناءها كبار الآن ثم يذهب إلي صاحبة محل البقالة ويقول لها نفس الكلام, ايضا في إشارة لحالة من الخرف الشيخوخي. الفيلم يبدو مسليا علي الرغم من بعض المشاكل الفنية القليلة التي تبدو واضحة في الفيلم إذ أن النهاية بدت مفتعلة قليلا وبعيدة عن البساطة التي اتسم بها الفيلم من البداية أما التمثيل فربما يكون قد خرج عن السيطرة في ردود أفعال فتحي عبدالوهاب في بعض المشاهد هذا علي الرغم من كونه قد حصل بهذا الدور علي جائزة أحسن ممثل من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في شهر نوفمبر2009 ايضا تشترك دلال عبدالعزيز وعبير صبري مع فتحي عبد الوهاب في تذبذب الأداء بعض الشيء أما محمود الجندي فإنه بهذا الدور يؤكد استمراريته وبراعته في تقديم نوعيات مختلفة من الأدوار وكان يستحق جائزة عن التمثيل في أي من المهرجانات التي شارك فيها الفيلم ايضا فإننا نجد الممثل الناشيء أحمد مجدي( وهو نجل المخرج) بدا متميزا من مشاهده القليلة وهو الذي يقوم بدور عبدالله ابن البهي ونرجس وهو فتي نشيط سياسيا غير أن السيناريو لا يوضح التيار الذي ينتمي اليه إنما فقط يلمح إلي انه من اليسار عن طريق رصد كراهية شباب الإسلام السياسي له. الجميل أن هذه الأجواء الفقيرة التي يقدمها الفيلم تتعامل مع الدراما بخفة ولا تخوض في مشاكلها أكثر مما ينبغي مما يبعد الفيلم عن واقعية الخمسينيات والستينيات الممتلئة بالميلودراما ويجعل منها فيلما أقرب في الدراما البسيطة والخفيفة مثل تلك التي ظهرت في الثمانينات إن هذا التصنيف لا ينقص من الفيلم شيئا بل هذا التحليل يبدو منطقيا تماما باعتبار أن مجدي أحمد علي يقترن اسمه بجيل السبعينيات والثمانينيات بعد عاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة وداود عبدالسيد, غير أن مجدي أحمد علي لم يسعفه حظ الإخراج إلا في منتصف التسعينيات بفيلمه الشهير يا دنيا يا غرامي وهو أقرب تلك الأفلام في البناء والأسلوب لعصافير النيل عن افلامه الأخري ويبدو أن مجدي أحمد علي بفيلمه الأخير هذا قد عاد إلي اسلوبه القديم.