تعد سينما( دوجما95) واحدة من أهم الحركات السينمائية التي ظهرت في القرن العشرين ذلك أنها كسرت العديد من القواعد الأساسية في العمل الفني ككل.. سينما الدوجما ظهرت بالأساس بهدف صناعة فيلم قليل التكلفة يعتمد علي الميزانيات المتاحة من وزارات الثقافة الأوروبية أو قنوات التليفزيون. ولكي يصنف أي فيلم علي أنه من أفلام الدوجما يجب علي صناع الفيلم أن يلتزموا ببعض القواعد التقنية الأساسية منها: أن الفيلم كله يجب تصويره في مكان الحدث ويجب عدم استخدام أي وسائل مساعدة أو إضاءة صناعية بل الاعتماد علي إضاءة المكان الطبيعية وبدون فلاتر, أيضا الصوت يجب أن يسجل في مكان التصوير والكاميرا من الممكن أو من المستحب أن تكون محمولة علي اليد طوال الوقت, أكثر القواعد غرابة أن اسم المخرج لايوضع علي الفيلم. المهم هو الدراما المقدمة وأقصي طموح لدي صناع سينما الدوجما هو أن يقدموا عملهم بدون أدني ضغوط إنتاجية أو تسويقية من أي نوع. المخرج الدنماركي لارس فون تراير واحد من أهم مخرجي تلك الموجة وهو الذي أنشأها مع مواطنه المخرج توماس فنتربرج في عام1995 بعدها انضم عدد اخر من المخرجين لقائمة مخرجي الدوجما. الغريب في دوجما95 أنها لم تنتج أفلاما تصنف تحت تلك الموجة إلا عام1998 بعد أن قدم فنتربرج فيلمه( الاحتفال) عام1998 وهو ما وضع له عنوانا فرعيا دوجما1. كذا بعد عام1998 قدم فون ترير فيلم الاغبياء بعنوان دوجما2. ومن المعروف أن العديد من تلك القواعد التي كتبت في بيان مجموعة مخرجي الدوجما تم تحطيمها علي مدار السنوات التالية.. الأدهي من ذلك أن فنتربرج أعترف بأنه غطي احدي النوافذ أثناء تصوير فيلم الاحتفال مما يعد تدخلا في إضاءة الفيلم كذلك فقد استخدم فون ترير موسيقي تصويرية في فليم الأغبياء. كان فون ترير قد قدم فيلمه تكسير الأمواج قبل ذلك بعدة أعوام تحديدا في عام1996 وحصل به علي جائزة لجنة التحكيم الكبري في مهرجان كان والعنصر الأساسي المشابه لقواعد الدوجما في هذا الفيلم كان استخدام الكاميرا الهاند والتصوير والذي بدا وكأنه تصوير لفيلم تسجيلي وفي عام2000 يقدم فيلم راقصة في الظلام ليحصل به علي السعفة الذهبية استخدم فيه أيضا بفضل تقنية التصوير بالكاميرا غير ان مدير التصوير تدخل في العديد من المشاهد مستخدما تقنيات مختلفة في الإضاءة. والفيلمان اعتمدا علي الميلودراما الخالصة غير أن الأول كان فيلما متميزا من ناحية البناء الدرامي والحبكة أما الثاني فهو أقرب لأن يكون تجربة جديدة للمخرج فون ترير فهو كان أول مخرج وربما الوحيد الذي يقدم مليودراما فاجعة من خلال قالب موسيقي راقص خاصة إذا ماأخذنا في الاعتبار نهاية الفيلم بصدمة إعدام البطلة. من المؤكد أن المخرج الكبير فون ترير سعي في فيلميه تكسير الأمواج وراقصة في الظلام لأن يطوع بعضا من أفكار الدوجما ليقدم بها سينماه الخاصة حتي لو كانت تلك الأفلام تحطم العديد من قواعد الدوجما لتقترب من السينما التقليدية المعروفة, المهم في هذا النطاق أن كسر القواعد قد يكون هو الشيء الثابت الوحيد في أفلام فون ترير. فيلمAntiChrist هو الفيلم الذي شارك به فون ترير في مسابقة مهرجان كان في العام الماضي. وبالرغم من أن الفيلم لم يحظ بالحصول علي جوائز في المسابقة باستثناء جائزة أحسن ممثلة لتشارلوت جينسبورج أن الفليم أثار ضجة أثناء عرضه في المهرجان بسبب العنف الذي اتسم به الفيلم. أن الحصول علي جوائز في المهرجانات الكبري شيء مهم حقا غير أن الأهم هو مشاركة الفنانين الكبار أمثال فون ترير, ولعل مشاركة هؤلاء المخرجين الكبار بالنسبة لمسابقات المهرجانات الكبري هي في حد ذاتها منفعة مشتركة فهي ثراء وقوة للمسابقة وأيضا قيمة إضافية توضع في سجل المخرج بأنه شارك عدة مرات في مسابقة كان أوفينيسيا أو برلين. إن فيلم أنتي كرايست( ومعناه عكس المسيح أو هو إبليس علي اعتبار أن الاثنين في الثقافة الغربية لهما نفس المعني) يبني من خلال عناوين فرعية تماما مثل فيلم تكسير الأمواج فأولا يقدم الفيلم بكلمة تمهيد وهو المقطع الذي يصور زوجين( يقوم بالدور وليام دافو وجينسبورج) وهما يمارسان الجنس بينما يلعب طفلهما بدميته القماشية في سريره. المشهد يصور بالأبيض والأسود بالتصوير البطيء وفي الخلفية موسيقي غنائية أقرب للموسيقي الكنسية القديمة. ينتهي المشهد علي فاجعة قفز الطفل من علي نافذة الشقة التي تعيش فيها العائلة. المقطع الأول في الفيلم يحمل عنوان حزنgrief وهو يبدأ بجنازة الطفل يسير فيها الزوجان. الحوار في الفيلم لايسمح للمشاهد بمعرفة اسم الأب أو الأم. في محاولة من فون ترير, وهو كاتب السيناريو أيضا, لأن يجعل من الفكرة الرئيسية تقترب من الرؤية الفلسفية. تتضح تلك الصورة بعد أن تسقط المرأة في حالة انهيار عصبي تامة تنتقل علي أثرها إلي المستشفي وتظل فيه لمدة شهر كامل. نعرف من السيناريو أن الزوجة كانت تقوم بعمل دراسات( ربما في علم الانثروبولوجي) حول السحر والشرور ومنها التطهير العرقي, بينما نجد أن الزوج ذو عقلية علمية هي أقرب إلي دارس علم النفس أوالطبيب النفسي. يسعي الزوج لأن يخرج زوجته من حالة الحزن الشديد التي تعيشها وأيضا منع الأدوية النفسية التي تتعاطاها أثناء فترة الانهيار العصبي. اعراض انسحاب الأدوية تصيب الزوجة بالقلق المرضي وتزداد لتصبح حالة من الهلعPanic بشكل تقليدي يقدم لنا الفيلم هذين النمطاين المرأة القلقة المتوترة والرجل الذي يتصور أنه يتحكم في كل شيء حتي أنه واثق من طريقته في علاج زوجته. ينتهي هذا المقطع بعد أن يقرر الرجل مواجهة المرأة بمخاوفها. ويتصور أن هرم المخاوف الداخلية للمرأة في قمته الغابة المسماة عدن والتي يوجد بها بيتهما الريفي. إن هذه التسمية هي التي تجعل المشاهد يحيل قصة الفيلم إحالة انجيلية عن قصة آدم وحواء, فسيناريو الفيلم لايسمي البطلين كذلك وجود الاحداث الدرامية فيما يشبه الجنة يجعل تلك الاحالة تفرض نفسها, فالرحلة التي يستغرقها الزوجان ليصلا لبيتهما الاسطوري هذا هي رحلة صعبة ينتقلان فيها عبر الاحراش والاشجار وبعض المرتفعات الصعبة. إنها رحلة العودة لهذه الجنة الموحشة. المؤكد أن هناك أشياء مريبة في تلك الغابة, مريبة وليست مرعبة بالمعني السينمائي التقليدي, ففي بداية تلك الرحلة نري غزالة وهي تلد ابنها واقفة ثم سرعان ماتركض بعيدا ويتدلي منها رأس الجنين. أيضا فإننا نجد ثعلبا له نظرة مخيفة تتجه ناحية الرجل المذهول فالثعلب كأنه يعذب نفسه فهو يقضم شيئا من بطنه ثم سرعان مايذكر العنوان الفرعي للمقطع الثاني وهو الفوضي تعم وينتهي هذا المقطع علي الرجل والأمطار الغزيرة حوله وفي حالة ذهول. ويبدو أن هذا المشهد يلخص الحالة الاساسية للمقطع الاخير في الفليم وهو إيذاء الذات. في المقطعين الأولين والتمهيد يبدو الفيلم غرائبيا لكنه محتمل به بعض من الأفكار الفلسفية المكثفة, المحور الرئيسي طيه الحالة النفسية المضطربة التي يعيشها هذان الزوجان بعد أن فقدا أعز مالديهما طفلهما الوحيد.. إن التحول النفسي لدي الاثنين معا هو المادة الأساسية للدراما في الفيلم, فالمرأة هي الأكثر عنفا وتوترا بشكل ظاهر, بينما الرجل يحاول أن يعالج ذلك التوتر والعنف والإيذاء بحكمة علي السطح, لينتقل الفيلم بعد ذلك في المقاطع الأخري إلي أن العنف هو شيء أقرب إلي الوباء الذي ينتقل بين الاثنين. المقطع الاخير المسمي يأس وعنوانه الفرعي تطهير عرقي, يرصد العلاقة الجنسية بين الزوجين في إشارة لأن تلك العملية هي التي تسببت في مقتل ابنهما, اي أن الجنس الذي هو رمز للحياة يصبح في هذا الفيلم مرتبطا بالموت. وبالتالي فإن المشهد الذي تقوم فيه المرأة بإيذاء زوجها وتعذيبه ثم تختن فيه نفسها يصبح مغلفا بمنطق الفيلم ذاته من باب أنه العقاب الجسدي للشهوة الإنسانية. يبدو أن المنطق الفلسفي في الفيلم يصبح أكثر تعقيدا في المقطع الأخير بعد أن يتحول المرض النفسي الي حالة من العنف والهذيان الشديد وفوضي حقيقية بين الرجل والمرأة, الأمر الذي يحمل معه كثيرا من التفاسير المختلفة لما يريده المخرج أساسا من هذا الفيلم. غير أننا في النهاية نستطيع أن نقول ان مواطن الجمال في الفيلم تستند علي موهبة مخرج من الناحية البصرية فهو يستطيع أن يخلق من كل كادر يصوره لوحة تشكيلية بديعة. أيضا فإنه استطاع أن يقدم حالتين متناقضتين لنفس الغابة مرة باعتبارها جنة شديدة الجمال ومرة باعتبارها جحيما موحشا. إن هذا التحول في الطبيعة هو مساحة إضافية تكمل الدراما العامة للفيلم. إبليس أوأنتي كرايست واحد من الأفلام التي من الممكن أن يتم تأويلها في كل مرة يشاهد فيها غير أن الشخص الوحيد الذي لديه رؤية حقيقية ومنطق للفيلم هو المخرج ذاته ولايستطيع شخص أخر من المشاهدين أن يصل في هذا الفيلم لتأويل يقترب من50% من المضمون الحقيقي للفليم. إنه عمل يبتعد كثيرا عن المألوف ويقترب كثيرا من الهواجس الفلسفية عن الإيلام والعنف في الحياة. أخيرا فإنه من المعروف أن سينما دوجما بعد عدة سنوات من بدايتها لم يعد لها وجود في عالم السينما نتيجة توالي تكسير العديد من قواعدها علي يد مخرجيها وربما يقال أن عام2005 شهد نهاية تلك الحركة غير أنها ستظل من أهم التجارب المستقلة في عالم السينما. وسوف يظل لارس فون ترير واحدا من المخرجين القلائل في العالم السينمائي يستطيع أن يقدم شيئا في عمل ثم يحطمه في العمل التالي, ولايستطيع أحد أن يتبنأ بما يضمره مثل هذا الفنان.