تجعل صاحبها يفتح قلبه الصافي ثم يناجي: أنت الذي أريد.... أنت وحدك.... فليردد قلبي هذا دون انقطاع أن كل لذاتي التي أنعم بها ليلا ونهارا زائفة... هي كالليل الذي يخفي في ظلمته رغبة النور في الانبثاق... إن في أعماق شعوري تتردد هذه الصيحة دائما... أنت الذي أريد.... أنت وحدك. ذلك هو الشعور الراقي الذي يجمع بين لغة العقل ولغة الوجدان في انسجام وعدالة فلا يتناقض العقل مع الوجدان, ولا تطغي العاطفة علي لغة المنطق فقد يعترف الجليد بقسوة الصقيع لكنه في نفس الوقت يتمني حرارة الذوبان... تلك هي العدوي الوجدانية التي تنتشر بين الأبرار الذين يؤمنون بأن الحب المخلص هو أساس العلاقات البشرية السوية لأن الأبرار في علاقتهم البشرية لا يعرفون العنف ولا القهر أو البطش لأن التسامح متعتهم لأن كلا منهم يري أن التسامح هو الذي يحقق الوصال بينهم وبين الآخرين فإن المتسامح يري نور القمر في الليل المظلم ويزف إلي الصحراء القاحلة أبناء الربيع, يحتضن القمر في جنوبه ويسخر كل المسافات البعيدة التي تحجب مجالات الرؤية المتطلعة إلي الآخر لأن الانسان السمح يشعر بمتعة الوصال... فالسماح متعة الأبرار الصالحين الذين يعرفون كيف يحرصون علي الآخر ويدعمون معه أواصر المحبة والسؤال الآن كيف نتعلم فن التسامح من خلال العدوي الوجدانية؟ ولعل الاجابة علي هذا السؤال المهم تتبلور في الخطوات التالية. (1) لغة الحوار حجر الزاوية في فن التسامح: لأن لغة الحوار حجر الزاوية ولأنها بداية المعرفة والفهم والوضوح فلابد وأن نضع في اعتبارنا أن لغة الحوار تعلمنا كيف نتكلم وكيف نحسن انتقاء واستخدام الألفاظ وتوظيف المعاني حتي تتكون لدي من يستمع إلينا علاقات حميمة, فمن يتعود علي ارتقاء سلم النغم اللفظي وتعود أيضا علي الصعود علي درجات الأرقام والحروف وهو يتبادل أطراف الحديث محبا ودودا مؤدبا.. هو ذلك الذي يعمل علي إيجاد خيوط ترابط ومودة, وهو الذي يدعم علاقات وطيدة من المشاركة المثمرة والمحبة المتفاعلة بينه وبين الآخر. (2) تجنب التنافس البغيض: ويحتاج التسامح إلي أن نتجنب التنافس الذي يعتمد علي الصلف والمعايرة الكاذبة... لأن التنافس إذا كان شريفا موضوعيا يوجد جوا من الألفة وتبادل الخبرة, أما إذا كان التنافس يعتمد علي وأد قدرات الآخرين وتحقيق المكاسب الفردية دون النظر إلي الزملاء, فإن جو الحقد يسود وتنشب الكراهية أنيابها الحادة... فلابد وأن يكون التنافس موضوعيا ويدفعنا إلي الاعتراف بقدرات الآخرين وتهنئة المتميزين وإعطاء كل ذي حق حقه, ذلك هو التسامح المطلوب الذي يجعل صاحبه يرتقي دائما من الأنانية البغيضة إلي العطاء السامي الذي يجعله ينظر إلي الآخر بمودة وألفة واحترام. (3) أن نعرف قدراتنا دون أن نقلل من شأنها أو نتطرف في مدحها: هنا تتجلي سلامة السلوك والرؤية الصحيحة فلابد وأن نتعلم كيف نتقبل النقد دون مجاملة لأن المدح والإطراء دون مسوغ موضوعي يدفع إلي الغرور والصلف... فقد يري من لا يقبل النقد ويطرب للمدح دون مبرر... يري في نفسه كفاءة تعلو علي الآخرين فيظن وهما أنه أفضل منهم فيعاملهم بقسوة لا تعرف المودة ولا يري التسامح طريقا أليفا. (4) لابد وأن نحرص علي الأصدقاء ونحنو عليهم: فالحرص علي الأصدقاء الأوفياء أصحاب العشرة الطيبة من شأنه أن يكون شبكة من العلاقات الاجتماعية التي نسيجها يتكون من الأصدقاء فهم أولئك الذين يقدمون له العون ويساعدونه في حل مشكلاته... وبطبيعة الحال فكل منا يحتاج أن يحاول أن يجمع أكبر قدر ممكن من القلوب الصافية الودودة والصديقة, وكل منا يحتاج إلي ممارسة هذا العمل الخلقي الذي يجعله ينتقي أصدقاءه ويشكل منهم باقة يانعة من الورود, ولن يتم له ذلك إلا من خلال التسامح الجميل... لأن التسامح يغزل علي منوال الخلق الرفيع كل مقومات الصداقة وأسس الوصال الاجتماعي السليمة. (5) يحتاج الوجدان الصافي إلي حب العدالة في المعاملة: وهنا نجد التسامح والوجدان الراقي يتمسك بحب العدالة في المعاملة لأن الحب والعدالة قيمتان فضليتان تمثلان بدورهما موقفين أخلاقيين يتخذهما الانسان نحو أشباهه من الناس, فإذا كان الحب يسعي إلي تحقيق الوصال بين الناس وبعضهم البعض فإن العدالة بدورها تهتم بحقوق الآخرين ومطالبهم المشروعة... وهكذا يكون اللقاء الحميم بين الحب والعدالة فالحب لا يعرف الظلم ولا يعرف القسوة ولا يعرف إضاعة الحقوق تماما كما لا تعرف العدالة إلا كل ما من شأنه أن يحقق للإنسان سعادته وفق المشروعية والالتزام بالقيم والأعراف والقوانين. وعندما يقترن سلوكنا بالحب والعدالة فإن فن التسامح يزرع في نفوسنا بذور المودة الصافية والمحبة المخلصة التي تعبر عن سلوكيات سوية وتصرفات أخلاقية مشبعة بالقيم السامية الرفيعة. (6) من الخطأ أن نتصور التسامح تجاوزا عن الحقوق: هذا التصور الخاطئ عند البعض يجعلهم يتصورون أن التسامح انسحاب من المواقف وعدم القدرة علي المواجهة, وهذا التصور الخاطئ يجافي طبيعة التسامح, لأن التسامح ليس مجرد عاطفة تدفع أصحابها إلي الانسحاب كما يظن البعض, ولكن التسامح يمثل طاقة نتيجة تدفع صاحبها إلي العمل والانتاج فالتسامح يدعم التعاون ويغرس الفضيلة الودودة. والتسامح يدعم الوصال الوجداني لأنه يدفع دائما إلي العمل الجاد المخلص ويعمل علي تدعيم القيم البشرية ويقوي الرابطة الوثيقة التي ينبغي أن تكون بين الانسان وزميله في الانسانية وتلك هي العدوي الوجدانية التي تجعل الأفراد أصحاب الحس الراقي يشعرون بضرورة وجودهم مع بعضهم البعض في مجالات الحياة التي يعيشون بين جوانبها. وعلينا أن نتنبه إلي أننا لابد وأن ندعم في نفوسنا من خلال العدوي الوجدانية التي تجمعنا تحت خيمة الوجدان الصافي المخلص والمحبة المتبادلة, فالحياة تحتاج إلي مجموعة من القيم ترتفع بصاحبها عن أوراق الماديات, ويلعب فيها التسامح دورا مهما في تأصيل العلاقات الانسانية, وأن الحياة تحتاج إلي النظرة الواقعية للأمور تلك التي تعتمد بدورها علي توظيف الطاقات البشرية والمهارات والخروج إلي الحياة بكل ما هو مفيد ويعبر عن الطابع البشري الخصب, ويشكل المستقبل من خلال العدوي الوجدانية تلك التي تستند علي التسامح الذي يشكل الحياة بوعي المستقبل وصبر المقتنع. وعلينا دائما أن نحرص علي الإصابة بالعدوي الوجدانية ونحملها بين جوانبنا إذا أردنا لأنفسنا أن نختار بهجة الحياة والحرص علي الاستمرار السليم.