هو عبقري مبدع ظل طوال حياته خجولا متواريا رغم ما قدمه علي مدار مشواره الفني الطويل من إنجازات فنية غنائية ولحنية طور خلالها شكل الأغنية العربية وأخرجها من الحيز الضيق النطاق إلي الأكثر عمومية. وأفسح لها المجال أن تنطلق وتضاهي الأعمال الفنية في الغرب لما عمد علي تقديمه من تطوير في استخدام وتطويع الهارموني المصاحب للأغنية العربية.. إنه الفنان محمد القصبجي المولود في الخامس عشر من ابريل في عام عباقرة الموسيقيين المصريين القصبجي وسيد درويش1892, وقد نشأ في عائلة موسيقية حيث كان والده عازفا ومدرسا لآلة العود وملحنا لعدة فنانين, مما زاد من حبه للموسيقي منذ الصغر, ولكنه لم يحد عن طريق العلم فالتحق بالكتاب وحفظ القرآن الكريم وانتقل إلي الأزهر الشريف حيث درس اللغة العربية والمنطق والفقه والتوحيد, ثم التحق بعد ذلك بدار المعلمين التي تخرج منها معلما.. ثم عمل في مجال التعليم ولكنه لم ينقطع عن الموسيقي, حيث تمكن من إتقان أصول العزف والتلحين وساعدت ثقافته العامة في خوض غمار هذا المجال باقتدار وبدأ يعمل في مجال الفن, ثم ترك مهنة التدريس وتفرغ تماما للعمل الفني, ولحن أولي أغنياته ما ليش مليك في القلب غيرك للمطرب زكي مراد, ومنذ هذا الحين بدأت رحلة القصبجي الاحترافية في عالم الفن. وكانت له محاولات عدة لتطوير قالب القصيدة الذي كان حالما بأن يتكلم من خلالها كي تتماشي واحتياجات العصر لذا كانت قصائده لأم كلثوم خير معبر عن عمق إحساسه; ورغم كل اسهاماته إلا أنه لم يحظ علي الشهرة أو التقدير الذي يستحقه فربما يعرفه الكثيرون أنه مجرد عازف العود الماهر في فرقة أم كلثوم.. ولا يعلمو قيمته كملحن له رؤية فنية إبداعية متطورة.. وأعتقد أن من المفارقات في موسيقي القصبجي أنها نالت شهرة واسعة النطاق دون أن تعود إليه.. فكثير مما قدمه لا يدري جمهوره العريض أنه صاحب هذا الخيال الإبداعي والحرفي الذي استطاع أن يمزج ما بين الشرق والغرب ببراعة.. حيث كان لعلمه ودرايته بالموسيقي الغربية سببا في أن يطلق العنان لإحساسه المرهف أن يخرج هذه الطاقات الإبداعية المتدفقة والألحان الغزيرة بمزجها بالأساليب الغربية ليخرج لنا منتج متجدد في الأغنية العربية التي دامت كثيرا بلا تطوير في الشكل أو المضمون.. لكن القصبجي بموهبته وجرأته الفنية استطاع أن يحقق هذا التحرر من قيد التقليدية المفرطة ورفض النمطية والبساطة الزائدة في البنية اللحنية.. بالإضافة إلي أنه أول من أدخل تعدد التصويت البوليفونية علي موسيقانا الشرقية.. كما كان استخدامه للهارموني مميزا.. وتمثل أغنياته عهدا موسيقيا جديدا لم يكن موجودا في السابق.. حيث سبق عصره بسنوات وعمل علي تقديم الأولوية للموسيقي علي الكلمة من خلال أغنياته ووضع مقدمة موسيقية للأغنية تساعد المستمع علي الولوج في خبايا اللحن وتستكشف جمالياته. رابط دائم :