لم تمر مصر طوال تاريخها السياسي بتلك الحالة من الفوضوية والالتباس الذي قاد إلي حالة من الانفلات علي مختلف المستويات.. هناك حالة من الانفلات الاقتصادي الذي يتمثل في عدم قدرة الحكومة علي السيطرة علي الوضع الاقتصادي من تضخم, وارتفاع معدل البطالة, وتراجع الكثير من السلع والخدمات, وتلك الأزمات المتعاقبة فيها.. هناك أيضا الانفلات الأمني الذي يتمثل في عدم القدرة علي السيطرة علي أعمال العنف, وما لذلك من دلالات عميقة تتمثل في تلك الحالة من التوتر والقلق الذي يعيش فيه الشعب المصري, مع ارتفاع معدلات الجرائم بكل صورها, وأشكال العنف الدموية, والانفلات الأمني لا يعني ذلك فقط, ولكنه يعني أيضا ضعف الجهاز الأمني, وتلك المحاولات سواء الفردية أو الجماعية, لتوفير عناصر الأمن بعيدا عن مؤسسة الشرطة, ولكن مما يؤسف له أن هناك أيضا تلك الحالة من الانفلات السياسي الذي يعني كل أشكال الانفلات السابقة, والانفلات السياسي يسهم فيه ما يعرف بالالتباس, وسوء الظن, وعدم المصداقية, ذلك ما أدي إلي عدم التوافق ما بين القوي السياسية, وأصبحت العلاقة بينهما ينظر إليها من ذلك المنظور, وهو الشك, وسوء النيات, فتحولت مصر إلي جماعات وأفراد أو شيع متربصة ببعضها بعضا, لا يصدق أي منهم الآخر, ويري فيه العدو اللدود المتربص به, ومن ثم فإن كل ما يأتيه به أو يقول له ما هو إلا نوع من الخداع, ذلك لم يعن سوي شيء واحد, هو الانقسام, وهناك ذلك القول المأثور وهو أن أية مملكة تنقسم علي نفسها تخرب, مصر قد انقسمت علي نفسها, لذلك فالمحصلة التي نعرفها ونعيش جزءا كبيرا منها هي الخراب والدمار. لقد وقعت وشعبها بكل أطيافه وطوائفه بين فكي الانفلات السياسي و الالتباس أي الشك والريبة, لذلك دخلنا في هذه الدوائر المفرغة, وتلك التفريعات الكثيرة للقضايا والمواقف علي النحو الذي زادها تعقيدا وغموضا, ذلك هو التوصيف الأقرب إلي الصحة, لما تعانيه مصر الآن, أي ذلك الموقف الشاذ الذي قلب الموائد علينا, وحول الفرح والبهجة التي جاء أو ولدت عقب ثورة25 يناير إلي نوح وعويل وحزن وكآبة وجه. لقد صارت الكآبة والحزن هما سمة وجه المصريين.. لقد أصبح الناس لا يدرون ما الذي يحدث, وكأنهم سكاري وما هم بسكاري ولكن ما يحدث حولنا من أحداث نجد أنفسنا عاجزين عن تفسيرها. ما الذي يحدث؟ ولماذا يحدث؟ وما هي الفائدة من وراء ذلك؟ علي من تعود؟ أسئلة لا إجابات لها, ولكنها في الحقيقة قد صارت واقعا يحيا فيه المصريون جميعا. لقد أصبحنا نعض علي نواجزنا ولسان حالنا يقول: ليت الثورة ما قامت, وما تبدلت الأوضاع, إذ كنا نتوقع الغد الأفضل, فإذا بنا يأتي علينا كابوس ليلي طويل, وقد انقطع الرجاء في أن يأتي الصباح. لقد صار لسان حال الكثيرين منا كلسان حال الشاعر العربي القديم: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل فالليل كالصباح كلاهما صار شيئا واحدا. لقد زاد الالتباس, ويعني ذلك زيادة حالة التربص التي يقف وراءها الخوف, وعدم الثقة بالآخر. تعددت الآراء دون أن تكون لتعددها نهاية, وصارت كبحر الظلمات الذي غرقنا فيه, وصارت التحليلات والكلمات والتصريحات بمثابة اللجج العميقة التي نغرق فيها المواطن. لقد غابت الفكرة والحكمة ولم يعد سوي الخوف والتربص, وسؤال دائر حائر علي الشفاه ألا وهو: مصر إلي أين؟ أحدي صور ذلك الالتباس الذي يقف وراء تلك الحالة من الانفلات السياسي, هو ما يحدث بشأن وضع جماعة الإخوان المسلمين, وكيف أنها قد قامت بتوفيق أوضاعها لتصبح جمعية طبقا للقانون رقم(84), وهو ما قد رآه البعض التفافا ونوعا من المراوغة, وأنها أي الجماعة كانت تعلم بأن هناك حكما للقضاء الإداري سوف يصدر بحلها, لذلك سارعت بتوفيق أوضاعها, وأنها بذلك ينطبق عليها قانون الجمعيات, ولن تستطيع أن تمارس السياسة, فذلك ما يحظره قانون الجمعيات الأهلية, وقد يكون ذلك صحيحا ولكننا قد تناسينا شيئا أن هناك حزب الحرية والعدالة, وهو الذراع السياسية كما يقولون لجماعة الإخوان المسلمين التي نعلم أنها كانت منذ أن أنشئت جماعة سياسية وكانت محظورة, ومع ذلك فقد كان لها وجودها, وأيا كان موقفنا منها فهناك واقع لابد من التعامل معه, وإن كنا لا نرضي علي ذلك الواقع, وأن علينا تغييره, فلابد وأن يكون ذلك بصورة واقعية ومن خلال القواعد المطروحة وليس باللف والدوران. إن الإخوان المسلمين قد أتوا إلي سدة الحكم, وأن التيارات الإسلامية برغم اختلافها مهم, فإنها تساندهم وتري فيهم باكورة تحقيق المشروع الإسلامي, والحق في أن يذهب فيما يعتقده ما شاء, ولكن علي أن يعرف وأن يدرك أن هناك وطنا, وهناك شعب هو مسئول منهم أيا كانوا, وأيا كانت انتماءاتهم. علينا أن نكف عن قضية الجدل السياسي العقيم, ورفع القضايا التي تدر المزيد من الوقت والجهد في وقت تتلوي فيه مصر وشعبها علي صفيح ساخن, وأصبحت علي وشك مجاعة طاحنة, وحربا, ولا أقول ثورة للجياع, لأنها في هذه الحالة سوف تكون حرب طاحنة. علينا أن ندرك أن ننظر حولنا ونري ما يحدث في سوريا وليبيا, لاسيما الأولي وما آل إليه حال شعبها بسبب العناد والالتباس الذي أدي إلي الانفلات السياسي, وقد غرقت سوريا في بحر من الدماء وشرد شعبها. علي جميع القوي الآن, أو ما تدعي أنها قوي سياسية وجميع الأحزاب والجبهات والحركات, سواء كانت تطلق علي نفسها سياسية أو دينية, أو حتي جهادية, أن تدرك أن مصر الآن قد أصبحت بمثابة برميل بارود كبير, وأن أصغر لهب يمكن أن يشعلها ويضرمها آتون نيران محمي سوف يأكل الكل, ويأكل مصر بحضارتها المتعاقبة, تلك حقيقة أو احتمال حتي وإن كنا لا نرجوه وندعو الله أن يفرج هذه الغمة, إلا أنه قد بات احتمالا كبيرا يتدعم يوما بعد الآخر بفعل الالتباس السياسي, احدي صور ذلك الانفلات السياسي الذي تقف وراءه تلك الحالة من الالتباس هي أحداث شبرا الأخيرة, وكيف أن مجرد حادثة صغيرة, وهي مباراة كرة قدم, قد أدت إلي تشابك بين عدد من الصبية راح ضحيتها أحدهم, وكان أول من اتهم أحد مؤسسي الحركات الإسلامية التي تعرف بحركة لازم حازم, وهو الشيخ جمال صابر, قد أدت إلي اشتعال الموقف في منطقة من المناطق الساخنة التي يمكن أن يتم طأفنة مثل ذلك الموقف فيها علي خلاف الحقيقة, وكيف أن الجماعات والتيارات الإسلامية قد رأت ما حدث بداية من عمليات أمن الدولة, والقبض علي جمال صابر, وتغميم عينيه بعصابة أمر مرفوض بالكلية, وأن ذلك ينذر بعودة العنف المسلح, وانتقدوا طريقة حزب الحرية والعدالة في تعامله مع الموقف, وهو السحب والتعميم, وأن جماعة الإخوان المسلمين غير مصدقين بأنهم هم الذين يحكمون مصر, وقال الجهادي السابق بتنظيم الجهاد محمد أبو سمرة وأمين عام حزب الإسلام تحت التأسيس: إن الكيفية التي عومل بها جمال صابر قد أثارت حفيظة الحركات الجهادية المتعددة, وأن كثيرا من الإسلاميين لم يرضوا بالعفو عن جلاديهم, أي المقصود هنا الشرطة, لكنهم قد صبروا من أجل المشروع الإسلامي الذي بدأ يتهاوي أمامهم بعد رجوع أسلوب أمن الدولة. رابط دائم :