ما الذي يحدث؟ سؤال قد يكون من السهل طرحه, ولكن الإجابة عليه قد تكون غاية في الصعوبة, كيف وصلت مصر إلي هذه الحالة؟ وكيف انشق الصف وأصبحنا فصيلين متناحرين كل يقف علي النقيض من الآخر. والكل في حالة من العراك والصراخ, لا اتفاق, ولا وفاق, لم نعد نسمع سوي صوت الحرب وجماعة تريد أن تبغي علي جماعة بعد أن تجمعت القوي السياسية علي قلب رجل واحد ضد الطغيان والاستبداد, ودفاعا عن الحريات العامة, وإسقاط النظام, لم يكن هناك خلاف أو اختلاف يذكر, وسارت الأمور, وتحركت العملية. لقد كانت التجربة جديدة علينا, وكان هناك بعض التعثر والتخبط, لكن ما تحقق كان كثيرا بكل المقاييس. لقد كانت هناك حالة من الانبهار والاندفاع بالنتائج التي حققتها الثورة والتي كانت حلما بعيد المنال, وهي سقوط النظام السابق, وتبدد حلم التوريث. كانت هناك دماء وأرواح بذلت في سبيل الوصول إلي تلك اللحظة التاريخية.. صنعت مصر ثورة أبهرت كل العالم.. استطاعت أن تسقط فيها أعمدة حكم مستبد وقوي كما وصفه المحللون السياسيون, وجاء الإسلاميون إلي الحكم, مع تحفظي علي ذلك المسمي, فهم فصيل سياسي وإحدي القوي السياسية التي كانت لها خبرة طويلة مع النظام السياسي من الكر والفر, وكانت جماعة محظورة, هكذا كان وصفها, ولكن الأوضاع تغيرت وتبدلت ووصلت إلي سدة الحكم, وجاء رئيس منتخب من صناديق الاقتراع دون تزوير لأول مرة في تاريخ مصر, رجل لا يختلف عليه اثنان في أنه دمث الخلق.. يتشح بالطيبة من أرض وطين ذلك البلد.. عاني كثيرا.. بسيطا يجول بين الناس يعتشر بهم.. يطوف ويزور القري والمدن.. يتحدث إليهم في المساجد.. يخاطبهم بلغة الأهل والأصدقاء والأحباب.. جسور من الألفة لم نعهدها من قبل.. وحقيقة كان يواصل الليل بالنهار, ويجتهد حتي وإن لم يصب فهو قد اجتهد وفعل ما لديه أو ما كان يعتقد أنه من أجل مصلحة الوطن.. نياته حسنة دون شك, ولكن معترك السياسة, وفي وسط عالم متقلب, وعدم استقرار داخلي تصبح الأمور صعبة وتحتاج إلي المزيد من الجهد والتدقيق.. يتسم بصراحة غير معهودة من قبل في عالم السياسة. لقد طرح نفسه كواحد من ذلك الشعب.. دخل في معارك كثيرة من أجل تحقيق التنمية, ورفع العبء عن كاهل المواطن.. فعل ذلك برغم قلة الحيلة, وضعف الإمكانات الموجودة, وبرغم الظروف الاقتصادية المتدهورة والخطيرة, وتلك المطالب الفئوية المتصاعدة علي نحو غير مسبوق أيا كان الأمر, فقد كانت هناك محاولات تبذل, واجتهادات كان هناك شد وجذب ما بين القوي السياسية والرئاسة.. لقد لعبت الظروف السياسية دورا ليس بقليل فيه, وقد كانت معطيات الموقف هي أحد الأسباب الأساسية في المأزق الذي وقعنا فيه الآن, وقد أصبح بمثابة العقدة. لقد كان غياب لغة الوسطية أو تغيبها أحد الأسباب فيما وصلنا إليه الآن.. بدأت الإشكاليات الحقيقية مع الاستفتاء علي الدستور أولا أو الانتخابات أولا, وكان من المؤكد أن من المنطقي أن يكون الدستور أولا, ولكن قواعد اللعبة السياسية طغت في هذه الحالة, وقد تم التصويت لمصلحة الانتخابات التي أتت بالتيار الإسلامي الذي سعي بالتأكيد وذلك وفقا لما جاءت به الصناديق أن يكون هو صاحب الكلمة العليا في صياغة الدستور, وهو ما يعد بداية الدخول في النفق المظلم, والذي كانت بدايته تأسيس التأسيسية التي طعن عليها والتي تم الانسحاب منها دون معرفة تفصيلية بالأسباب التي دفعت إلي ذلك الاختلاف, ولم يتم التوافق علي الدستور, وتم وضع مسودة دستور غير جائز للقبول, وقد صارت أحد مدخلات الصراع, وإحدي قواعد ممارسة اللعبة السياسية, ومن قبلها قد كان الإعلان الدستوري الذي رأي رئيس الجمهورية ولديه اقتناع بذلك أنه مؤقت لحين الانتهاء من وضع الدستور والعمل به, وانتخابات مجلس الشعب, وهو ما كان بمثابة سكب المزيد من الزيت علي النيران فزادها اشتعالا, وتحركت القوي السياسية وطالبت بإلغائه في الوقت الذي رأت فيه الرئاسة أنه إجراء مؤقت, ولكن رجال القانون والفقهاء قد وجدوا فيه مذبحة للقضاء, وتعديا علي السلطة القضائية واختصاصاتها. هذا ما توحي به القراءات لذلك الإعلان ومواده, بعيدا عن النيات والحيثيات والخلفيات التي تقف وراءه, والتي قد لا نشكك فيها, ولكن من المؤكد أن السياسة لا تقر بمبدأ حسن النيات, وعلي حد ذلك القول المأثور هو أن الطريق إلي جهنم مفروش بالنيات الحسنة, وبعد أن تم إقرار مسودة الدستور من جانب التأسيسية أصبحنا أمام وضع جديد, فالبعض يري أن الرئاسة قد وضعت الناس بين خيارين كلاهما مر, إما الموافقة علي مسودة الدستور لكي يلغي الإعلان الدستوري, أو عدم الموافقة فيظل الإعلان الدستوري, وأعتقد أن الأمر لم يكن علي ذلك في فكر القيادة السياسية, ولكن تطور الأحداث هو الذي فرض ذلك الوضع, وأن الدور الاستباقي قد يكون هو السبب وراء ذلك, وليست نيات الرئيس, وذلك ما يجمع عليه الكثيرون من حيث خصائص شخصيته, وتدينه, ووسطيته, ولكن الأمور قد وصلت إلي ما هو عليه الوضع الآن المأزوم الذي انقسم وانشطر فيه شعب مصر, وأصبحت مصر قاب قوسين أو أدني, وأصبح شبح الحرب الأهلية, وإن كنت أستبعد ذلك, يحوم حولنا وكأن هناك شيطانا قد ضرب مصر وأذهب بعقول الكثيرين. نحن لا نلوم علي أحد, ولكن اللوم سوف يكون واقعا علي جميع القوي السياسية إن لم تخرج بذلك الشعب من هذا المأزق الخطير, وهو أن تنقسم مصر علي نفسها, وليس العبرة هنا بالإخوان أو السلفيين أو الليبراليين, لكن المصريين والوطن, وعلينا أن نقول إن الرئيس مرسي لابد أن نقيمه في إطار الظروف الموضوعية المحيطة, ولابد أن يكون لسان حالنا ليس المناهضة والوقوف في المواجهة, ولكن العون والمساعدة والوقوف خلفه, كلنا يمكن أن نخطئ أو نغيب عن الرؤية, ولكن عن غير قصد, لأننا إذا ما قلنا ذلك نغش أنفسنا, وليس الحق فينا. كل منا يمكن, في ظل الظروف المحيطة وذلك اللغط الدائر, وتلك المرحلة الانتقالية, يمكن أن تزل قدمه ويخطئ وهو غير قاصد أو عامد, هناك قول في الكتاب المقدس ينطبق علي هذه الحالة, وهو أن هناك طرق قد تبدو مستقيمة للإنسان, ولكن عاقبتها الهلاك, والذي تحتاجه مصر الآن وقد صرنا فصيلين متأججين بالغضب, وكل يناصر موقفا بعينه, وقد صار الانقسام هو حالنا, ما نريده الآن قبل أن تندلع النيران فتأتي علي الأخضر واليابس, وقبل أن يدب الخراب وتصبح مصر خربا ينعق فيها البوم.. هو أن يبرز العقلاء منا, هو أن ننسي خلافاتنا.. هو أن نتصالح ونتصافح.. علينا أن ننسي ما هو وراء ونمتد إلي ما هو قدام.. علينا أن ندرك أن المركب قد أوشك علي الغرق.. هناك مطالب للقوي السياسية وراءها مخاوف أيا كانت صحة هذه المخاوف, ولابد أن تكون هناك استجابات وتوافقات أن المصلحة العامة وبناء الوطن هو الهدف والغاية, وليس عيبا أن نقول إلي ها هنا سنتوقف ونلغي كل شيء ونأتي إلي كلمة سواء.. لدينا رئيس منتخب يجول بين الناس.. حريص علي مصلحة مصر وعلي تلبية رغبات الشعب, فليس هناك عيب أو غبار في أن نتنازل أو نراجع شعوبنا وأنفسنا, وأن نجلس إلي بعضنا بعضا, وعلينا أن تكون لدينا روح التسامح والقبول, وحسن النية المتبادلة وألا نقع في خطأ الشعوب وننقسم إلي فرق وحزم, لكن علينا أن نتوحد, وأن نتذكر ذلك الشعار الرائع الذي رفعه الرئيس مرسي في برنامجه الانتخابي إن نهضتنا في وحدتنا, وإذا كان هو المسلك والمعتقد فعلينا أن نعود إليه, وأن نفض الاشتباك ما بين القوي السياسية والهيئات والسلطات, وأن نعمل من خلالها, وأن نقدم بعضنا علي بعض في الكرامة وقبل الكل أن نقدم مصلحة الوطن( مصر) التي فوق الجميع, هذه هي الرسالة للرئيس.. رئيس كل المصريين, وللذين في التحرير وفي جامعة القاهرة, ولا نقول إخوانا أو سلفيين أو ليبراليين.. مسيحيين أو مسلمين.. ولكن نقول مصريين حتي النخاع, وإن اختلفت النحل والمذاهب والديانات والانتماءات.. ذلك هو طريق الإنقاذ لمصر. دكتوراة في العلوم السياسية