إذا كان الهدف الذي يتطلع إليه الانسان هو كيف يتكيف مع البيئة وكيف يتصرف في الحدود التي تجعله متوافقا مع أفراد الجماعة, فإن ذلك الأمر يدعونا إلي طرح هذا التساؤل: ما الذي يدفع المرء إلي أن يتصرف تصرفات معينة في ظروف معينة؟ وما الذي يدعوه إلي أن يغير من تصرفاته أو يكررها في موقف آخر؟ كل هذه الأسئلة تجعلنا نتناول ما يسمي بالحيل الدفاعية تلك التي بدأت مع الانسان علي المستوي( الفسيولوجي) من خلال السلوك الهادف الذي يتجه بصاحبه نحو إشباع دافع الجوع مثلا إذا ما نقصت كمية السكر في الدم أو إشباع دافع العطش إذا ما نقصت كمية الماء في الجسم أو ما تفرزه الغدد الصماء من هرمونات استجابة لحالات الضغط الخارجي... كل هذه الأساليب يأتي بها الانسان دفاعا عن النفس ووقاية ضد غائلة الجوع أو العطش أو ما قد يهدد كيانه من عوامل خارجية. والذي نريد أن نوضحه أن الحيل اللاشعورية التي أطلقنا عليها( تماحيك وتلاكيك) قد تكون مفيدة لصاحبها إذا لم تتجاوز حدودها المنطقية أو تخرج به علي السائد المألوف أو تجعل صاحبها يجافي الواقع ولا يتعامل معه بدقة وموضوعية. وسوف نتناول هذه الحيل( حيل التماحيك) علي أساس ما يريد الفرد منها أو كيف توجد له عوالم واهمة تمكنه في حدود ما يتوهمه ويصطنعه من توظيفها أن يتمكن من الهروب من عالم الواقع مرتديا أقنعة الوهم!! وحيل التماحيك هي حيل انسحابية تجعل صاحبها لا يقوي علي مواجهة المواقف أو يبذل أي مجهود ليخفف من حدة الصراع الناشئ فيها!! حيل التماحيك يحاول صاحبها أن يخرج من الموقف كما تخرج الشعرة من العجين رغم أنه يعترف بفشله, وقد يؤدي به الأمر إلي احتقار نفسه والوصول بأحاسيسه إلي مشاعر دونية تسبب له الألم وتجعله يعيش في وهم وخداع لأنه آثر السلامة وانسحب من الموقف, ومثل هذه الحيل الانسحابية قد تظهر في شكل سلوكيات تعبر عن الانطواء... الإغراق في أحلام اليقظة والنكوص, والانكار, والتبرير. ويلاحظ أن الانسحاب في الوقت المناسب يعد من الأساليب الدفاعية المقبولة إذا كان يستند إلي مسوغ أخلاقي منطقي ومشروع بعيدا عن التخطيط المراوغ وسوء تقدير الأمور.... ويصبح الانسحاب المعقول هذا له ما يبرره عكس الانسحاب المرضي الهروبي والذي أطلقنا عليه( تماحيك) تؤدي بصاحبها إلي الزوغان في الإدراك والرؤية والتصرف. والإسراف في التماحيك يدفع صاحبها إلي الهروب أو التشبث بحجج واهية وأسانيد باطلة, لأنها تماحيك ذاتية تجافي التصور الموضوعي الذي يدعو إلي إعمال الفكر بوعي وإرادة واستنارة. التماحيك إذن والاسراف في استخدامها يمثل خطورة علي سلوك الفرد الذي يغرق نفسه بين أحضانها... فهذا الذي يفعل ذلك قد حكم علي نفسه بعدم المواجهة وتوظيف الارادة والقدرة علي المواجهة. والتلاكيك تعتمد علي العنف والعدوان, فهي تقرر أن معظم الأفراد لا أهمية لهم سوي التمرد علي أوامر الزمن وبداخلهم وهم يجعلهم يشعرون بأنهم بهذا التمرد يمارسون حريتهم, ولكنهم في الحقيقة ليسوا سوي سجناء في حالة إفراج مؤقت من سجن الزمن!! والمقصود بالتلاكيك مجموعة الحيل التي تعتمد علي العدوان أو الأذي والذي قد يلجأ إليها بعض الأفراد للتخلص من مأزق أو لخفض توتر ناتج عنه عقبة أو أزمة تصادفهم. وهذا العدوان والسلوك العنيف يتخذ صورا عديدة وأشكالا متعددة فمثلا نجده يتخذ صور المؤامرات والتشهير والنميمة والغمز واللمز. والحق يقال: إن الظروف الراهنة في المجتمع المعاصر وما تخفيه من عوامل تؤدي إلي اضطراب الأفراد وتوترهم, وقد أدي ذلك إلي انتشار( التماحيك والتلاكيك) فهناك أسباب كثيرة تؤدي إلي الشعور بالاجهاد في عصرنا الراهن, وسؤالنا الآن كيف نتجه بعيدا عن التماحيك والتلاكيك؟ وعلينا إذا أردنا لأنفسنا أن نتجه بعيدا عن التماحيك والتلاكيك التي خسرنا من خلالها الطعم الحقيقي للحياة ولذة المواجهة وطعم التفاعل... علينا أن نتبع الخطوات التالية رحمة بأنفسنا وحماية لرؤيتنا الصحيحة للأمور وحصانة للتعامل مع الواقع المعاش وهذه الخطوات هي: * ينبغي أن يكون كل منا مستعدا لنبذ التملك بكل أشكاله فهو آفة الشخصية وهو الشعور المدمر الذي جعل الانسان أنانيا وعدوانيا. * يجب أن نغذي فينا الشعور بالأمان والثقة في الآخر والانتماء الأصيل, والشغف بحب الآخر والاخلاص في التعامل معه دون تفكير شهواني أو غرائزي, أو استحواذي. * لابد وأن يكون التوجه من داخل الفرد لأنه لا أحد غير الانسان ذاته يستطيع أن يعطي الحياة معني, ويصبح شرط التفرد من الشروط الضرورية التي تدعم شخصية الانسان. * يجب أن يحرص كل فرد علي أن يكون به درجة من الحضور بحيث يوجد الانسان الفرد ويكون مؤثرا وفعالا. * يشعر الانسان بفرحة حقيقية حين يعطي ويتعاون ويشارك بتفاعل مثمر, وليس حين يستغل أو يكتنز ويستحوذ. * الاقبال علي الحياة بحب وانشراح واحترام لها في كل مظاهرها وتجلياتها لأن الأشياء زائفة وزائلة, فحب الحياة يعني الانغماس في كل ما هو روحي, وليس ما هو مادي, فحب الحياة من المنظور القيمي يعمل علي إنمائها واستمرارها ببهجة وثراء وخصوبة. * تنمية قدرة الفرد علي الحب مع تنمية قدرته في الوقت نفسه علي الموضوعية في إصدار الأحكام بعيدا عن الانفعالات والنرجسية والاغراق في الذاتيةsubjectivity العمل علي تنمية الحس الذوقي الجمالي وما يصاحبه من خيال رائع وخصب ليس للهروب من الواقع وإنما كاستشراق للإمكانات الواقعية للمستقبل والعمل علي تحسين الظروف غير المحتملة وإيجاد البدائل والحلول الملائمة. وأخيرا: الابتعاد عن التماحيك والتلاكيك ضرورة تجعلنا نبتعد عن المسايرة الخانقة أو العدوان المؤذي الذي لا يستند إلي حقائق موضوعية وعلي الانسان أن يحقق ذاته من خلال ذوات الآخرين, ويكون لنفسه البناء المتكامل من خلال التعاون والتفاعل والوصال الودود بين الانسان والآخر بعيدا عن الأساليب الهروبية التي تلعب فيها التماحيك والتلاكيك دورها المؤثر. رابط دائم :