إذا كان الإنسان قد اعتاد علي أن يقبل علي اللذة ويعزف عن الألم كأنه لابد له من أن يجد نفسه مدفوعا إلي المبالغة في تقرير أهمية الخبرات السارة علي حساب الخبرات الأليمة، سعيا للوصول إلي سعادته ويعد الإحساس بالرضا مطلبا من المطالب المهمة التي يسعي إليها الإنسان ويهدف إلي تحقيقه، ويعتبر هذا الإحساس من وجهة نظر المشتغلين في مضمار الصحة النفسية ملمحا من ملامح الشخصية السوية تعتمد عليه وتتصرف وفق هداه وإرشاده حيث يشعر الإنسان الفرد بمدي انعكاس هذا الشعور بالرضا علي سلوكياته وتصرفاته، وقد يحتار العقل البشري في ظل زحمة الحياة المادية وما يصاحبها من ضغوط وسرعة ولهفة، وتتبلور هذه الحيرة من خلال هذا الاندفاع الرهيب لاقتناص الفرص والحرص الشديد علي تحقيق المنفعة المادية بأي شكل من الأشكال والحق إن الكثيرين قد يتوهمون في سبيل امتلاك هذا الشعور بالرضا إن الحياة هي الإشباع المادي فقط، وأن السعادة هي (الرفاهية) فانعكس هذا التصور الواهم علي تصرفات البعض فلم يعد هذا البعض يري من القيم سوي جانبها النفعي، وقد يتأكد لديهم الوهم ويتجسد ويتبلور في أن الشعور بالرضا يرتكز علي مدي إشباع الإنسان الفرد لهذه الحاجات المادية. وهناك من يرفض أن يتشبث بهذا السعي المستمر وراء الماديات وعقد الصفقات وتكوين شبكة من العلاقات المبنية علي المنفعة المادية المتبادلة بعيدا عن إطار القيم، مثل هذا الإنسان الرافض الخوض في المعركة المادية بما فيها من صراعات ومهاترات يصنع لنفسه إطارا من القيم يعيش عليه، فإذا به يشعر بالرضا لان إفرازات هذا الشعور نابعة من ذاته مبنية علي إرادة واعية تتحدد بوضوح وتعرف ما تريد وترفض ما لا تقتنع به. والشعور بالرضا يعتمد علي مجموعة من الأبعاد هي: - "الرضا في مقابل التبرم": يتطلع الإنسان دائما إلي ما يحقق له الانسجام مع مطالبه والاتزان مع رغباته، ويتوق إلي الكمال وإلي اقتناء كل ما ينمي ثروته وصحته وتعليمه ومعارفه وعلاقاته بأحبائه، ولذلك نراه في غالب الأحوال يحاول جاهدا أن يلتمس شتي الوسائل المادية التي تساعده وتعمل علي تحقيق ذلك الانسجام المنشود. إن الرضا والتبرم طرفان متضامنان وقد يبدو للتأمل العابر أن ظاهرهما ضدان متقابلان، فالإنسان الفرد في سعيه نحو ما يريد أن يشبعه تستهويه طموحاته إلي العلا كما تستهويه نفسه للخوض في الأعماق ويفتش دائما عن عوامل تعبه بقدر ما يحاول أن يتلمس جوانب راحته وكأنه البوتقة العجيبة التي تتصارع داخلها قوي خلفية غاشمة وتنصهر بين جوانبها عوامل الرغبة فيخرج الخليط يعبر عن الرضا تارة ويعلن عن التبرم تارة أخري. وكل إنسان يتمني أن يكون راضيا مرضيا، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه فلا يلبث أن يكون شعور التبرم من بين ما يصادفه من انفعالات ذلك الشعور الذي يطيح بالمشاعر ويشعل الوجدان شيبا ويتبلور هذا الشعور بالتبرم من خلال: 1 مواقف العجز التي يمر بها الإنسان حيث يجد نفسه لا يقوي علي فعل أي شيء أو لا يستطيع أن يحكم إرادته في تقبل المواقف الضاغطة أو أن مستقبله وما يتعلق به من آمال وتطلعات قد أصبح في يد خفية تعبث به وتسيره كما تشاء وتريد. 2 يتجدد التبرم أيضا من خلال انعدام شعور الإنسان بالحرية، ذلك الشعور الذي عندما ينعدم يري الإنسان نفسه وقد تعلق في الهواء شأنه شأن ريشة ضئيلة في مهب ريح عاتية. 3 يشعر الإنسان عندما يتحول إلي آلة صماء لا يقوي علي التفاعل السليم والأخذ والعطاء المبني علي الأريحية والفهم والوعي لقيمة الإنسان الآخر فتحدث الفجوة بينه وبين الآخر ويضيع الوصال من خلال هذا الشعور المتبلد. 4 يشعر الإنسان بالتبرم عندما يفقد الإحساس بالحياة ويرفض الإقبال عليها بوجه عام فيبدو مكدودا ثقيلا مهموما وينعكس هذا السلوك علي تصرفاته فيجعلها غريبة وقد يؤدي إلي الآخرين من خلال شعوره بالتبرم. والسؤال الآن كيف نعالج هذا الشعور بالتبرم؟ وللإجابة عن هذا السؤال لابد لنا - من أعطاء الإنسان الفرد الفرصة لكي يطلق القوي الحبيسة في ذاته سواء كانت حاجات عضوية أو نفسية لكي تتوحد لديه هذه القوي فيصير قوله مواكبا لفعله ووجدانه موازيا لفكره وإحساسه معبرا عن إنسانيته. - العمل علي مساعدة الإنسان لتحقيق رسالته تلك التي تعتمد علي دعوة يقدمها للحياة بحب وتفاعل ومودة من خلال المشاركة الفعالة والتفاعل السليم الذي يمكنه من تأكيد ذاته والإحساس بقيمته. - الابتعاد عن الخصال غير الحميدة التي تحاول بقدر المستطاع كلفة جديدة لروح العصر الذي نعيش بين جوانبه والتي قد تكون محصلتها الكراهية والحقد والحسد والتي تنعكس علي النفس بشعور التشتت والتوتر والضياع والتبرم. - علي الإنسان أن يهذب سلوكياته ويدافع عن قيمه وأخلاقه مهما كانت حاجاته المادية وأن يتجنب النفاق والكذب والخداع والتضليل والتملق والجبن وعدم الالتزام بالوعد وعدم الاعتراف بالحق والتنصل من أداء الواجب هذا هو الشعور الجديد للإنسان الذي يريد لنفسه أن يكون راضيا بعيدا عن الإحساس بالتبرم ذلك الإحساس الذي عملت علي انتشاره عوامل كثيرة صنعها الإنسان الفرد بنفسه في غفلة من المبادئ الأخلاقية وتحت نشوة التعلق بالماديات. ومن يتعلق بأحبال الماديات فقط فقد حكم علي نفسه بأن يتعلق في الهواء وهو ممسك بأحبال واهية.