وعلينا أن ننبه الأذهان إلي خطورة هذا الشعور, لأن مشكلة الانسان الحقيقية ليست في شعوره بالغربة, ولكن مشكلة الانسان الحقيقية تتمثل في مدي توظيف ارادته وسعيه الحثيث للوصول من خلال الالتزام بدينه وعمله وكفاحه وصبره وخلقه إلي كل ما يحقق له التوافق السليم والتأثير الملائم والايجابي في المجتمع الذي يعيش فيه وليست مشكلة الانسان كما يراها بعض المشتغلين بعلم النفس تمثل راحة البال بالنسبة لكل فرد الهدف المنشود والأمل الناصع المشرق لأن كل واحد منا تحت صخب النهار وبين الأصوات الصارخة في معركة العيش لابد وأن يجد صوتا خافتا يحاول أن يصل إلي الآذان.... ولعله صوت الراحة بعد التعب.. حيث يحتاج الانسان بعد القيام إلي القعود, وعندما يتصبب عرقا نجده يأوي إلي ركن هاديء يجفف عن وجهه عرقه المتصبب أو تراه يصل إلي هذا الركن الهاديء في هدأة من الليل يفتش في نفسه عن معطيات الحياة المحسوسة, ويرعي من خلال هذا السلوك أشياء الأرض, ولكنه لا يلبث أن يعود ليرعي خاشعا أشياء السماء والانسان يستخدم في حياته طرقا كثيرة ووسائل متعددة لكي يحقق لنفسه ضربا من ضروب المواءمة أو ما يسمي بلغة( الصحة النفسية) التكيف مع البيئة والحياة... ولكن الانسان في سبيل تحقيق الهدف المنشود من ذلك التكيف يستطيع أن يعرف ما يكدر صفوه ومايدفع في بعض الأحيان إلي التشاؤم والانقباض إلي الدرجة التي تشبع فيه الحزن والأسي, فهو يري نفسه واجما كثير الشكوي والتوجع, متوتر الأعصاب... سريع الانفعال وكأن حياته سلسلة من الاحباطات والاعاقات التي لا نهاية لها. هذه الاحاسيس العجيبة والضاغطة بقسوة علي الانسان المعاصر, قد تنغص عليه العيش وتفت منه العضد وتثبط الهمة وتغريه بالاستكانة, وقد تدفعه إلي اليأس والقنوط والاستسلام. هذا الانسان يعيش هذه الأحاسيس لأنه ترك نفسه للمواقف والماديات وأسرف في الاهتمام بذاته وخلق لنفسه شرنقة حالكة السواد لا يري من ثناياها إلا بصيصا من ضوء مترنح لا يلبث أن يضيع... فهو قد صنع( المشكلات دون أن يدري, وجمع علي أرضية( ذاتيته كل ما يحقق له هو( فقط) المنفعة والتكيف المزعوم!! مثل هذا النموذج قد يري من نفسه قوة معينة فهو يسلك السبل ويتصرف بمراوغة ويدعي كذبا, ولكن هذه القوة يزداد ضعفها نتيجة لتشتتها, ولأنها لا تريد أن تقر قرارها وتوظف إرادتها, وتكون دائما نتائج قوتها ظاهرة علي المحيطين بها, اما ملامح ونتائج ضعفها فتتبلور من خلال دمعة تتسلق جدار القلب النازف لتنحدر علي وجه مشوه لا يملك غير حلم قديم مفزع يراه كل يوم من خلال أكاذيبه وادعاءاته حلم ضاغط يستبد به ويريد من كل الناس أن تدري به ولا يريد من أحد أن يتحدث عنه!! هذا النموذج العجيب حكم علي نفسه بالتوتر والقلق وعدم الراحة النفسية وقلة راحة البال لأنه يحاول أن يبتعد عن المواقف الايجابية التي تجعله محبا للخير ومتطلعا إلي الانجاز المثمر والوفاء المخلص الذي يجعله يعمل من أجل الآخر فيعطي مخلصا ويوظف ارادته دوما لعمل الخير ويتجه إلي الحياة بروح مشرقة هكذا يكون الأمل في تحقيق راحة البال بعيدا عن الأنانية وعدم الوفاء وتجنب الصدق في المعاملات. * الوصول إلي راحة البال: والسؤال الآن الذي علينا أن نطرحه كيف نصل إلي راحة البال؟ والاجابة علي هذا السؤال المهم علينا أن نتوخي الدقة في التعامل مع القضايا التالية: أولا: تجنب التقاليع الفكرية الواهمة: فإذا كانت الصيحة التي تنتشر الآن في بعض الدراسات النفسية تري أن بعض الاضطرابات النفسية التي ظهرت عند بعض الأفراد ترجع إلي أنهم يعيشون في( غربة) عن ذواتهم أو عن مجتمعاتهم, وهذه النظرة المعبرة عن الاغتراب لا يجوز الاعتماد عليها حيث أن الانسان الذي كرمه الله بفطرة طيبة ومنحه عقله وفكره ووجدانه وأرسل له الهدي من خلال كتبه ورسله وتعاليمه لا يجوز أن يحس بأنه في غربة أو يضحي بنفسه ويسجنها في قفص الغربة والذي يسمونه البعض الآن الاغترابAlienation أو هروب الانسان في شرنقة( الغربة) وعلينا أن ننبه الأذهان إلي خطورة هذا الشعور, لأن مشكلة الانسان الحقيقية ليست في شعوره بالغربة, ولكن مشكلة الانسان الحقيقية تتمثل في مدي توظيف ارادته وسعيه الحثيث للوصول من خلال الالتزام بدينه وعمله وكفاحه وصبره وخلقه إلي كل ما يحقق له التوافق السليم والتأثير الملائم والايجابي في المجتمع الذي يعيش فيه وليست مشكلة الانسان كما يراها بعض المشتغلين بعلم النفس تتركز في غربته أو ضياعه في زحمة التطور التكنولوجي وهو صانعه فكيف يضيع الانسان وقد جعله الله خليفته في الأرض, اللهم إلا اذا كان بعض الأفراد الضعفاء فيهم قد أرادوا لأنفسهم هذا الضياع. وبدلا من الشعور بالاغتراب لابد وان نسعي إلي ما يحقق راحة البال من خلال: * طرح الثقة في التعامل مع الآخرين * عدم الاحساس بالقلق أو التوتر النفسي * التفاعل مع مواقف الحياة بروية وصبر جميل * الالتزام بالقيم الدينية والسير وفق هداها بمرونة ووعي الحرص علي القيم الاجتماعية والتعامل معها كموجهات تقويمية للسلوك أداء الأدوار الفعالة والحرص علي الانجاز السليم. الاتجاه إلي القيم الجمالية التي من شأنها أن تحقق العمران البشري والحضاري ثانيا: التطلع إلي ما يجود السلوك ويرتقي به إلي الأفضل: وعلينا إذا أردنا تحقيق راحة البال أن نتطلع إلي كل ما يجود السلوك ويرقي به والذي يساعدنا علي تحقيق هذا الارتقاء مجموعة من العوامل هي: 1 أن يحرص الانسان الفرد أن يكون احترامه لذاته نابعا من محبة الآخرين ومعتمدا علي العطاء والأريحية. 2 من الخطأ أن نتصور تصرفات الآخرين دائما خاطئة وان تفكيرنا فقط هو التفكير السليم الذي لا يحتمل النقد والتمحيص. 3 عدم اعتبار المواقف السيئة ممثلة لكارثة لأنها لا تحقق ما نتطلع إليه ولكن علينا البحث عن الحلول البديلة الملائمة 4 لا يجوز أن نربط سعادتنا وشقاءنا بأمور خارجة عنا, بل لابد من توظيف الارادة لتحقيق السعادة وراحة البال. 5 ينبغي أن نواجه مصادر الخوف حتي نتخلص من الشعور بالقلق والتوتر وعلينا أن نعود أنفسنا علي التعرف علي مصادر الخوف حتي نتجنبها بوعي وادراك لحقيقتها بعيدا عن الاسراف في التهويل من شأنها. هذه العوامل من شأنها أن تجود حياتنا وسلوكنا وترتقي بتصرفاتنا وتحقق لنا راحة البال, فإذا كان هذا الأمل المنشود والذي نتطلع إليه فعلينا أن نعمل بدرجة من الحب مع الآخرين بعيدا عن الأنانية والتفكير في المصالح الشخصية. عميد كلية التربية النوعية الأسبق وأستاذ الصحة النفسية جامعة عين شمس