كلنا سمعنا من قبل عبارات واقوال مأثورة عن قيمة التواضع وأهميته وعظمته. وأغلبنا استخدام عبارات مثل من تواضع لله رفعه و التواضع من شيم العلماء وغيرها من الكلام الكبير الذي نستخدمه ونزين به أحاديثنا ولكننا في الأغلب لا نتمعن فيه ناهيك عن أننا لا نستخدمه. وهناك الأبيات الرائعة لإيليا أبو ماضياخفض جناحك للأنام تفز بهم وغيرها الكثير عن روعة التواضع. وأعترف أنني من المتيمين بفكرة التواضع وقيمته التي أجد تحقيقها أمرا بالغ الصعوبة. فالتواضع يختلف عن المسكنة أو الذل أو الضعف, كما أنه بعيد كل البعد عن ادعاء البساطة. هو معني عظيم لا يحمله سوي الكبار, الكبار في العلم, والكبار في المعرفة, والكبار في تركيبة الشخصية. كما أن التواضع لا يعرف طريقه إلا إلي قلوب وعقول من يتمتع بثقة كاملة في النفس, ومن هنا تنبع عظمته, فإن تكون قويا بعلمك, وليس بمالك, وأن تكون واثقا في قدراتك وليس في علاقاتك وسلطاتك, وأن تكون علي يقين بأنك مهما بلغ العلم والمعرفة والقوة بك من مدي, تظل إنسانا يتكون من لحم ودم ومشاعر, وتظل قدرتك علي التحكم في الأمور محدودة وفي المصائر معدومة, هذه هي قمة العظمة. وكلما تصادف وقابلت فنانا مش طايق نفسه لفرط أحساسه بذاته, أو استمعت لسياسي بارز يتحدث ونبرة صوته مغرقة في الكبر والغرور والادعاء بأنه يعرف ما لا يعرفه الآخرون ويفهم ما لا يفهمه العاديون, وكلما لاحظت من علي بعد رجل أعمال مشهورا وهو أشبه بالبالون المنفوخ لإحساسه العالي بسطوته وقدرته أشعر أن أحدا منهم لم يسمع عن حكاية التواضع تلك, ومن سمع فهو لم يفهم, وإن فهم, فهو لم يقتنع. وقبل أيام قادتني الصدفة الجميلة إلي مقابلة العالم الكبير البارز الدكتور فاروق الباز الذي كان في زيارة خاطفة لمصر قادما من أمريكا. تجمعت أمامي كل أفكاري عن التواضع ووجدتها تتجسد في صورة إنسان. كم هو رائع! إن التواضع غير قابل للتصنع ولا للادعاء, والتواضع الأمثل تراه واضحا لدي العلماء, بغض النظر عن تخصصاتهم, سواء كانت في الطب أو الهندسة أو الجيولوجيا أو الفضاء أو الفن. ليت التواضع يمكن زرعه في الأجساد, أو تنميته وتقويته بالفيتامينات. فالمتواضع لا يجد سببا ليستعرض قوته أمامك, ولا يجد داعيا ليشتري ملابس بآلاف الجنيهات ليثبت لك أنه فتاك, ولا يجد نفسه مجبرا علي تدخين السيجار ليثبت لك بالحجة والدخان أنه أعظم رجل في العالم. وهو أيضا لا يجد ما يدفعه إلي التمعن لاختيار أغلي ماركة وموديل سيارة في العالم, ويا حبذا لو لم يكن لها قرين في المدينة, ليثبت للجميع أنه الأفضل. هو علي ثقة كاملة في قدراته, ولا يعاني نقصا ولا يستشعر الحاجة لأن يرسل رسائل للجميع بأنه موجود وأنه مهم. وللأسف فغن طبيعة مجتمعنا تنمي هذه الخصلة السيئة وتشجع عليها. فنحن نعني كثيرا وبشكل مبالغ فيه بالمظاهر, وننفق عليها أكثر مما ينبغي لا لشيء إلا لنقول للآخرين نحن مهمون. تجد أهل العروس يصرون علي فرح وشبكة بالآلاف, وشقة يرمح فيها الخيل, وأهل العريس يصممون علي أثاث لخمس غرف رغم أن الشقة ثلاث غرف, ونجف عشرة آلاف لمبة, وقائمة طويلة من الطلبات السخيفة التي لن تضمن السعادة للعروسينن لكنها ستضمن لهما ولأسرتيهما الغرق في أغوار الدين. ونصر علي شراء سيارة بالقسط لأنها أكبر وأقيم, رغم أن احتياجاتنا كان يمكن أن تتحقق بسيارة أصغر ودون اقساط خانقة. التواضع أصعب كثيرا من الغرور. إن التواضع غير قابل للتصنع ولا للادعاء, والتواضع الأمثل تراه واضحا لدي العلماء, بغض النظر عن تخصصاتهم, سواء كانت في الطب أو الهندسة أو الجيولوجيا أو الفضاء أو الفن. إن التواضع شيمة الحكماء لو أعجب القمر المنير بنفسه لرأيته يهوي إلي الغبراء