هناك علاقة بين: طبيعة كل إنسان الخاصة وظروفه المجتمعية العامة، وبين: رؤيته للأشياء ومفهومه للحياة وما يحدث بها! بمعنى أن كل إنسان يحاول أن يوصف الأحداث والأفعال التى تحدث فى الدنيا، حسب عقليته وطباعه وظروفه. أو بصياغة أخرى حسب قدرته على الاحتمال، وحسب تعريفه لنوع المسئولية التى يضعها على نفسه ويحملها إياها. لا يستطيع الإنسان الضعيف العاجز والمهمش والمقهور أن يتحدث عن مشاركة إيجابية فى الحياة العامة للمجتمع وقدرة على التغيير، دائما ما سيحاول وصف الأحداث بشكل عبثي وعشوائي وقدري (وسيكون مفهومه الديني قائم على السلبية والتواكل)، أما الإنسان القوى المتماسك الذى يسيطر على حياة ويحدد هدفه جيدا، فسوف يتحدث عن مفهوم المسئولية الجماعية وعن دور الناس السلبي فى الخضوع للقهر والاستبداد، وسيحاول دائما أن يتحدث عن المسئولية والأخلاق والمبادئ (سيكون مفهومه للدين إيجابي فعال قائم على المشاركة ورفض الظلم). الإنسان والحياة علاقة متعددة التفاصيل والفصول والأبواب، لكن الإطار الرئيسي لعلاقة الإنسان المعرفية والأيديولوجية والإيمانية بالحياة، يحدده عاملان، الأول: الطبيعة الفردية والصفات والمواهب التى تختلف من فرد لآخر وقدرته على الصمود واختياراته الذاتية، والثاني: الظروف المجتمعية التى تجعل الفرد يكتسب مفهومه للصواب والخطأ من خلال قبول قيم المجتمع السائدة. لكن العامل الأكثر تأثيرا على عموم الناس هو ظروف المجتمع والأنماط السائدة فيه، المجتمع هو الذى يشكل النظرة المعرفية والعقلية لعموم الناس، ما بين السلبية والعجز والانفصال، وبين: الحرية والمشاركة والمسئولية، المجتمع المستبد إشارة ودليل وجوده هو التسطيح المعرفي القائم على العجز والسلبية والاستسهال العمدى والتشوه القيمى.
هناك مصطلح أميل لتسميته ب"الجبر الطوعى"! وهو حينما يقوم المجتمع المستبد بفرض أنماط قيمية وحيدة، دونها الطرد من منظومة المجتمع الاقتصادية. من ثم سيضطر عموم الناس للتكيف مع هذه القيم واتباعها، ويحدث لهم عملية التشوه المعرفي باختيارهم، حيث أن هناك قيم مركزية للروح والنفس البشرية تحدد باقي سلوكياتها الفرعية، وحينما يجبر الإنسان على اختيار وحيد أن يكون عبدا متكيفا مع القهر؛ يتحول لكيان وذات مشوهة الأفعال بفعل فاعل! طالما استمر "الجبر الطوعى" وقهر المواطن وسد المسارات الاجتماعية للمشاركة الحقيقة أمامه، وطالما استمر "التنميط المعرفي" المرتبط بالعجز والشخصية المنسحقة المنسحبة من المسئولية تماما، فنحن مازلنا فى مجتمع الاستبداد والفساد. "التنميط المعرفي" يجعل الإنسان يسكن الأحداث ويضعها فى غير مواضعها، يجعله يرى الخير شرا والشر خيرا! كل من يحاول تذكيره بعجزه ووضعه أمام حقيقته يتحول لعدو! من هنا كانت خطورة الاستبداد الجديد الذى يلعب على جهل المواطن، لا على وعيه ومحاولة تفعيل الوطن، تحدثت فى كتابى "المصريون بين التكيف والثورة" عن فكرة المجتمع الفعال، التى هى عكس المجتمع المتكيف. الخطورة حينما تحاول كسب معركة النصر فيها هو الخسارة! تحاول معظم التيارات السياسية التسلط على الناس، لا أن تجعل الناس هم الهدف والغاية فى لحظة ثورية تاريخية قلما تتكرر، من يحاول التسلط على الناس عاجلا أو آجلا، سوف يجد ظهره إلى الحائط، لآن "ثقافة القطيع" و"الجبر الطوعى" لا تخلق مجتمعا فعالا قائما على أصحاب المبادئ والمواهب إنما تهمشهم، وترتكز على كتلة قوامها "التنميط المعرفي" والتشوه الإنساني. المعرفة والمسئولية والحرية أهداف للمجتمع الثوري الفعال، أما محاولة الردة على الثورة وخلط الأوراق، وربط كل الفعاليات الثورية بالفوضى والعبثية وتصعيد النخب المشوهة عمدا؛ ذلك لعب على آلية "التنميط المعرفي" لدى الشعب المقهور والمتكيف والمسحوق، هناك محاولة إعادة إنتاج مجتمع الاستبداد من خلال نفس القيم القديمة وبطريقة "الجبر الطوعى" التى تعتمد على تشويه أي بديل سياسي حقيقي، وجعل الناس أمام اختيار وحيد، وذلك هو عين القهر حين لا يجد الناس بديلا؛ إما الاستبداد أو الاستبداد. ولكن ثوار مصر – فى رأيي الخاص – لم يقولوا كلمتهم الأخيرة بعد، ربما تفرقوا فى أحزاب وجبهات ليكتسبوا – فى ظنى و أملى – الخبرة ويقين العمل السياسي. هل سيعودون للتجمع مرة أخرى والانسحاب من الكتل القديمة! هل سيتعلمون الدرس قبل فوات الأوان، وقبل أن تذوب صفات الكتلة الحرجة لنخبة الثورة المصرية! تطور البديل والممثل السياسي لثوار مصر فى حاجة لجهد طويل قد يمتد لعشر سنوات، لكن المهم بداية ظهور النواة الفكرية الصلبة التى يلتف حولها مريدوها، والتى تقف ضد "التنميط المعرفي" و "الجبر الطوعى" ومنظومة قيم التكيف.