قبل أشهر، دق هاتف اللاعبين محمد حجاج وعبدربه هاني برسالة من أحد الرياضيين الفلسطينيين المقيمين في مصر تخبرهما بموعد ومكان أحد الأندية بالقاهرة، حيث سيلعبان مباراتهما التدريبية الأولى مع لاعبين آخرين. كان وقع الرسالة مثيرًا لهما، لقد غاب الاثنان عن الملاعب واللعب الجماعي لفترة منذ تركا غزة مع بداية الحرب الإسرائيلية في أكتوبر عام 2023. وعندما وصلا إلى المكان المحدد، وجدا أمامهما نحو 40 لاعبًا آخرين من مناطق متفرقة من القطاع. إنها مبادرة المجلس الأعلى للشباب والرياضة الفلسطيني التي أوكلها لأفراد مسؤولين عن الإدارة والتدريب لجمع اللاعبين الموجودين في مصر. وهدفها الأول "استعادة اللياقة البدنية للاعبين"، والثاني وربما الأهم "أن يراهم كشافو المواهب ويحترفون بأندية"، كما يقول أنور عدنان (المدير الإداري والفني)، الذي أعطى الإشارة لانطلاق المباراة. مع الدقائق الأولى، عندما يمر اللاعب عبدربه هاني (19 سنة) بين اللاعبين، وهو ينطلق في تسديدة سريعة، كان يغالب تلك الصور التي تقفز إلى رأسه حين يرى وجوههم؛ فهذا اللاعب قابله في طابور انتظار المياه عند نزوحه الأول، والثاني في وقت توزيع المساعدات، والثالث على الطريق حين كان ينزح للمرة الثانية. هكذا وصف تلك اللحظة التي قطعها تسجيله لهدفه الأول بالمباراة. ويقول بعدها: "لم أكن أتوقع أن أراهم هنا ونتجمع مرة أخرى". فقد قضى "عبدربه" عدة أشهر بالحرب، نجا بأعجوبة من القصف عدة مرات، ونزح خلالها من مسكنه بمخيم النصيرات إلى الجنوب، ومن الجنوب عائدًا إلى الوسط، ثم إلى الجنوب مرة أخرى قبل أن يأتي مع إخوته ووالدته إلى مصر في منتصف العام الماضي ويدرس بجامعة الأزهر. بالنسبة ل"عبدربه"، فهذه المبادرة هي فرصته الكبيرة ليكون في مرمى اختيارات الأندية المصرية بسبب صغر سنه، بعكس اللاعب محمد حجاج، صاحب ال38 عامًا. كانت حركات "حجاج" وقفزاته الخفيفة وتمريراته تدل على خبرة طويلة وقدر كبير من القيادة، فهو أحد أبرز نجوم فريقه "نادي خدمات رفح"، الذي لم يبدله أبدًا منذ بدأ لعب كرة في سن ال14، فانضم إلى فريقه الأول الأساسي وحصل معه على خمس دوريات من أصل سبعة. وكان يمضي قدمًا نحو الدوري الثامن قبل أن تندلع الحرب وتُخرب كل شيء. يسدد رمية طويلة ثم ينظر إلى زوجته وابنه (7 سنوات)، وهما يتابعان المباراة من المقاعد، ويقول: "هذا اللعب فرق في نفسيتي كثيرًا، أنا حياتي في غزة كانت كلها كرة منذ أستيقظ وحتى أنام.. لم أعمل في أي شيء آخر". وفي استراحة قصيرة، صافح "حجاج" اللاعب الأصغر "عبدربه"، وتبادلا الحديث، ليحكي الثاني عن وقت بدايته لعب الكرة، يهمهم محدثًا نفسه ليتذكر في أي عام؟ ثم يتدارك ويميز الوقت بأنه جاء بعد حرب 2014، فيقول له: "بدأت في عام 2015، انضممت لنادي الهلال بالشمال". ليرد الآخر عليه مبتسمًا: "في هذا العام، حصلت على بطولة كأس فلسطين مع نادي خدمات رفح مقتنصًا من فريق الشجاعية". ثم يشير إلى اللاعب علاء عطية، الذي كان في الفريق المنافس له حينها، واجتمعا هنا الآن. ينضم إليهما أنور عدنان (المدير الإداري والفني)، وهو بالأساس وكيل مدربين كان يأتي بهم من مصر إلى غزة، ويقول: "هذا هدف من أهدافنا، أن يجتمع اللاعبون ويتعرفوا على بعضهم بدلًا من أن تلعب كل مجموعة بمفردها"، ويضيف: "كل ما نفعله هنا بجهود تطوعية ودعم بسيط من المجلس الأعلى للشباب والرياضة الفلسطيني، بالكاد يكفي لتأجير الملعب وتوفير الأدوات". يميل كلامهم ناحية أخبار الحرب رغمًا عن إرادتهم، ف"عبدربه" فقد والده الذي كان ينوي المجيء إليه، و"حجاج" فقد ابن خالته وحارس مرمى النادي وزميله اللاعب سليمان العبيد الملقب ب"بيليه فلسطين"، حيث كان يلعب ضده في الدوريات. والاثنان كانا جزءًا من صفوف المنتخب الفلسطيني. إذ شارك "حجاج" في بطولة بليبيا عام 2011، وأخرى بقطر عام 2012. اقرأ: سليمان العبيد.. هدّاف غزة الذي قتلته إسرائيل بساحة المساعدات (بروفايل). وبينما يستحضر "حجاج" لحظاته مع سليمان العبيد من خلال صوره على هاتفه، يقول: "هنا، أغلبنا لا يعمل، فلدينا وقت فراغ كبير، لنتابع الأخبار السيئة، ونتذكر من نفقدهم كل يوم". إذ راح "سليمان" مع نحو 350 من لاعبي كرة القدم قُتلوا في الحرب على غزة، بحسب اتحاد كرة القدم الفلسطيني. ينهض كل من "حجاج" و"عبدربه" مع صافرة العودة إلى شوط آخر، يحاول الأول أن ينفصل عما يجري، أن يتناسى حكيهما وبيوتهما المدمرة وأن إخوته ما زالوا هناك، كما كان يفعل في غزة دائمًا ليصب تركيزه في اللعب، بعكس "عبدربه"، الذي تسيطر عليه أفكاره. فالكثير من المشاهد كانت تدور حوله هناك: فأحد الشباب ويدعى محمد أبو جلدة كان يلعب جواره على شاطئ مدينة رفح، وهذا أقصى ما يمكنه فعله، فيقول: "كان عندي طموح أن أصير لاعبًا كبيرًا، لكن تأجل طموحي وحياتي. أصبح عمري 20 سنة والوقت يمر وأنا أشعر بأنني أموت كل يوم". وعلى جانب آخر، كانت إصابة محمد نعيم عوض (لاعب نادي اتحاد بيت حانون)، وهو من نفس عمر "عبدربه" تقريبًا، تبتر طرفه وحلمه معًا، فيحكي: "الإصابة منعتني أكمل حلمي في مواصلة اللعب حتى الوصول إلى المنتخب وتمثيل فلسطين، ولا يتوفر علاج، وإذا توفر سيكون سعره عالٍ جدًا". اقرأ: "بتر الطرف الصناعي".. مركز تأهيل أهل غزة يتوقف بعد القصف الإسرائيلي. يركض "عبدربه" في المباراة، ويبدو أنه يقاوم كل ما يتذكره مع هذا الجهد، فيقول: "تعبنا ومللنا من كل ما يحدث.. أحاول استغلال اللعب، فالكرة هي التي تداوينا". والسبب نفسه ما جعله يلعب بين خيام النزوح بمنطقة دير البلح في بطولة مع لاعبين آخرين، ربما يجد بها بعض العزاء. فقد دُمرت أغلب ملاعب غزة، وتحول بعضها إلى مراكز إيواء، وذلك بعد أن كانت غزة تضم عشرة ملاعب رياضية، حيث كانت الرياضة متنفسًا لمعظم السكان في ظل حصار خانق لأكثر من 16 عامًا. وتقول سوزان شلبي (نائب رئيس اتحاد كرة القدم الفلسطيني) في تصريحات لها: "رغم توقف الدوري والضائقة المالية التي يعاني منها الاتحاد فإنه يفعل أقصى ما يمكنه لتقديم الدعم لعناصر اللعبة ممن تضرروا من حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على كافة مكونات شعبنا في غزة"، وتضيف: "في المحافظات الجنوبية الأمر كارثي، فالاحتلال دمّر تقريبًا كافة البنى الأساسية، وقتل العشرات من عناصر اللعبة الحاليين والمعتزلين، من لاعبين وكوادر وإداريين، ومبنى الاتحاد في غزة تعرض لدمار كبير". ومع كل أسبوع، ومن مباراة لأخرى في مصر، تتحسن لياقة اللاعبين ويزداد ترابطهم وتعرفهم الدوائر الرياضية أكثر، فالتقطت أندية نحو أربعة لاعبين منهم، بحسب المدير الفني. وانضم إليهم لاعبون كبار معتزلون، أيضًا من غزة، يشاركونهم في أول 15 دقيقة من المباراة. وطوال معظم المباراة الأخيرة، ليلة الجمعة، استمر أداء الفريقين عاليًا، كلا الطرفين المتنافسين يكافحان للبقاء والاستمرار. لا يبدو أنهم يبطئون أبدًا ولا منهكين أبدًا، ولا معنى عندهم لكلمة "خاسر" أو "مباراة ضائعة"، فالجميع يلعب وينسى ويحلم فحسب، كما يتحدث "حجاج" الذي يحاول أن يكون واقعيًا ويبحث عن عمل بعيدًا عن الكرة، في وقت ينتظر فيه "عبدربه" فرصته وتحقيق حلم طالما راوده في غزة "وهو الاحتراف في مصر". اقرأ أيضا: "حنين غزة" من مصر: المقاومة ب"المقلوبة" الفلسطينية