ربما يكون السؤال مألوفا ومطروحا علي المتهمين بالسياسة العالمية والداخلية, ولكن قد يبدو الجواب عنه غريبا وغير مألوف,ولهذا لاتعجب إذا طالعتك في مستهل هذا المقال بالحديث عن العواطف وخصوصا عاطفة البغض والخوف فهي من أكثر العواطف التي يمكن إثارتها بسهولة بين الناس, وليست كذلك عاطفة الحب أو الشعور بالأمن,فأنت تملك الآن أن تحرك في الألوف المؤلفة أو في شعب بأكمله شعورا بالكراهية والخوف, ولكن من الصعب عليك أن تحرك في أفراد أو عشرات شعورا بالحب أو الأمن,ومعني هذا أن عاطفة البغض أو الخوف مستعدة دائما للانطلاق إلي الهدف كالجيوش المدربة علي حب الغزو والعدوان, فهي لاتهدأ إلا إذا وجدت لها عدوا تفرغ فيه شحنتها الغاضبة وتنشغل به عن الآخرين,فإن لم تجد لها عدوا خارجيا يشغلها بالكره له والخوف منه نفست عن نفسها بين أبناء الشعب والوطن الواحد. ولهذا يقول الفيلسوف الإنجليزي جودمن الصعب عليك أن توحد الشعوب إلا إذا صرفت عاطفة البغض والخوف الكامنة في النفوس إلي عدو من جيش أو عالم آخر كأن تخترع لهم مثلا عدوا من عالم القمر أو المريخ فعندها يجتمعون علي كرهه وعداوته والحذر منه, هل يتعاونون علي حربه وإعداد العدة له فلا تبقي فيهم بقية من عاطفة غاضبة أو خائفة يمكن أن تنفس عن نفسها داخليا وكلام الفيلسوف جود يذكرنا بما غاب عنا من وقائع التاريخ وتجارب البشر, فالشعوب التي واجهت عدوانا خارجيا نسيت خلافاتها واتجهت بكل طاقاتها الغاضبة الي عدوها الخارجي. وأعتقد أن التجارب المصرية مازالت ماثلة في الأذهان ابتداء من مقاومة الاحتلال الفرنسي والبريطاني وانتهاء بالعدوان الثلاثي عام1956 م والنكسة التي ابتليت بها البلاد عام1967 م فكانت كارثة حركت في الشعب المصري علي اختلاف طوائفه وأحزابه شعورا بالعار وشعورا أشد بالغضب علي إسرائيل, ولكنه شعور خالطه غير قليل من الحذر في مواجهة عدو ماكر لاينبغي أن نستهين بقوته,بل يجب أن نستعد لحربه لإزالة آثار العدوان,وظلت مصر ستة أعوام تبتلع جراحها وتتجمع حول أحزانها بكل شحنات الغضب علي عدو احتل أرضها واستهزأ بجيشها لغفلة قواده. وفي سنوات الحزن والغضب ذابت كل خلافاتنا وتحملنا جميعا مرارة الصبر علي نقص المواد الغذائية من غير شكوي أو مظاهرة وكأن الشعب كله كان في مأتم حزين لاتشغله البطون ولا المصالح الخاصة عن عدوه. وعلي قدر ما وحدت بيننا المصيبة كان توحدنا حول انتصارنا في أكتوبر1973 م أشد وأكبر. وأعرف كما يعرف الجميع أن فرحتنا بهزيمة عدونا قد جمعت قلوبنا علي هوي واحد وارتفعت معنويات الشعب المصري كله ليضع إسرائيل في موقفها المناسب من العداوة والحذر منها. ولكننا نعرف كذلك بأن هذا الأمر لم يدم طويلا إذ فطنت إسرائيل إلي أن هزيمتها قد وحدت صفوفنا, وأن شعورنا بعداوتها والحذر منها قد يعرضها في مقبلات الأيام لغضب شعب عرف عدوه فنسي خلافاته وعداواته الداخلية فعملت بكل وسائلها وحلفائها علي أن تطمس فينا كل شعور بالعداوة والغضب ليحل مكانه شعور بالصداقة والرضا وهي تعلم تماما أن هذا التحول السياسي سيمزق وحدتنا الداخلية والعربية إذا لم يعد لنا عدو نجتمع علي عداوته وهذا ما حدث فعلا في مصر خلال ثلاثين عاما شغلنا بأنفسنا وتفجرت بيننا عداوات وخصومات وأفرغنا كل شحنات الغضب والحذر فيما بيننا وأصبحنا شيعا وأحزابا لانلتقي عند غاية ولانتفق علي وسيلة, وأغلب الظن أننا استبدلنا عداوتنا الداخلية بعداوتنا لإسرائيل فأصبحنا لانغضب إلا علي أنفسنا ولانحذر ولانرتاب إلا فيما كرهناه من أبناء الوطن لأن عواطفنا الغاضبة لم يبق فيها شيء يتجه الي عدو خارجي فعشنا أكثر من ثلاثين عاما ونحن نخدع أنفسنا بالسلام مع عدو لايعرف السلام, وزيفنا مواقفنا السياسية في لحظة الانتصار بمبادرة سلام خنقت أنفاسنا وكانت في ظهورنا كمخالب القط حتي فقدنا السيطرة علي سيناء التي حاربنا من أجلها. ويبدو أن العالم الغربي كان أكثر فهما لضرورة أن يكون هناك عدو خارجي يجتمعون علي عداوته ويتناصرون علي حربه, فقد أعانهم هذا كثيرا علي أن يقيموا فيما بينهم أحلافا وتكتلات دولية من شأنها أن تعمل علي تحقيق مصالح الدول ولكنها تعتمد في قيامها وقوتها علي الشعور بالحذر من الآخرين, وربما لم تسلم هذه الأحلاف والتكتلات من عواطف الغضب التي تزيدها تمسكا في مواجهة المخالفين وخصوصا في اسيا وأفريقيا, وأعتقد أن الحرص علي أسباب القوة في مجال الصراع الدولي كان حافزا قويا وباعثا مهما لإقامة الأحلاف في التاريخ البشري رغم مابين الدول المتحالفة من خلافات مذهبية وسياسية, وما زلنا نذكر حلف وارسو وحلف الأطلنطي فقد نشأ الحلفان في أجواء الصراع والشعور بالعداوة, ثم ظهر الاتحاد الأوروبي حديثا ليؤكد أن هذه الشعوب لاتخدع نفسها بشعارات السلام وإن خدعت بها غيرها فهي صادقة في واقعها ومع احتمالات أي خطر ينتظر في مقبلات الأعوام. فهم ينظرون دائما إلي الغد بحساب عقلي دقيق لايعرف الغفلة عن مصادر الخطر في عدو خارجي معروف أو متوقع. ولهذا تنجح عندهم سياسة التكتلات بينما تصاب بالفشل عندنا في أكثر الأحوال وخصوصا في هذا العصر,إذ تسعي كل دولة إلي أن تجعل من عدوها صديقا إيثارا للسلامة وارتيابا في جيرانها من العرب, ولهذا يصعب أن تتوحد الشعوب العربية كما يقول ابن خلدون لوجود الأنفة والكبرياء ولغلبة الشعور بالخوف والحذر لاختلاف النظم وكيف يلتقي هؤلاء في حلف أو تكتل وهم لايشعرون أن لهم عدوا خارجيا يجتمعون علي عداوته وإنما يخشي بعضهم بعضا وأن أظهروا خلاف مايبطنون. ولاتزال تجربة الوحدة بين مصر وسوريا شاهدة علي صدق المقال. فأذا أرادت الشعوب العربية أن تتوحد فلتعرف أولا من عدوها؟ ومن أين يأتيها الخطر في مقبلات الأيام؟ فإن فعلت فقد حققت لنفسها سببا قويا لتوحدها في مواجهة عدو خارجي وإلا احتاجت الي عدو مخترع يعيش في المريخ أو القمر كما يقول جود: فليت شعوبنا لاتنتظر طويلا قبل أن تفيق من عداواتها الداخلية وانقساماتها البغيضة حتي لاتفاجأ بصدمات عنيفة لم تحسب لها حسابا فتفقد القدرة علي الغضب لأرض أو عرض أو كرامة فاحتفظوا بغضبكم لعدوكم ولاتستهلكوه في خراب أوطانكم وسفك دمائكم.