ان الحركة الإسلامية علي ما جمعته من أسباب النجاح, وعوامل تحقيق الأهداف لا تخرج عن القاعدة البشرية للوقوع في الاخطاء, ولا يمكن أن يشفع لها في مخالفة هذا الأصل المقاصد الحسنة للمنتسبين إليها, فالخطأ لازم, وتصحيحه متعين! لكن أول خطوة في طريق التصحيح الاعتراف بوجود الخطأ, وهذا يقتضي قبول أقوال المنتقدين الناصحين, والتعاون معهم للوصول إلي العلاج الملائم, والحلول الناجحة. هذا ما يؤكده عصام البشير المراكشي في بحثه الذي جاء تحت عنوان) الحركة الإسلامية المعاصرة: أمراض الواقع, وآفاق العلاج). لقد مرت الحركة الإسلامية منذ نشأتها, بمراحل تاريخية عديدة ومتباينة, ولا شك أنه لا يمكن فهم واقع هذه الحركة إلا من خلال التاريخ, ورصد هذا التطور الذي مرت به. لقد كان سقوط الخلافة كارثة مدوية, علي عموم المسلمين فقد استيقظ أهل الإسلام ذات يوم, وليس للأمة خليفة واحد, يجتمع المسلمون حوله, ولو علي سبيل الشعار والرمز. ووجد الناس أنفسهم يذوقون مرارة الوطنية الضيقة, في حدود الدول القطرية التي أنشأها الاستعمار لتكون بديلا عن دولة الخلافة. وجاء هذا السقوط بعد عقود من التنحية التدريجية للشريعة الإسلامية, في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقضائية, ثم السياسية, وهكذا وجد المسلمون أنفسهم مضطرين للتعامل مع دينهم كما يتعامل مستعمروهم مع دياناتهم عن طريق حصر الدين في مراكز العبادة, وإبعاده عن سائر مجالات الحياة. ومن هنا كان قيام الحركات الإسلامية أو جماعات الإسلام السياسي, فظهرت في مصر جماعة( الإخوان المسلمين) بقيادة حسن البنا, وفي الهند( الجماعة الإسلامية) بزعامة أبي الأعلي المودودي, ثم تناسلت هذه الجماعات في سائر العالم الإسلامي. إن ظروف النشأة وإرهاصاتها, تؤكد دون أدني تردد علي أن الغاية العليا التي تجمع حولها هؤلاء الرواد الأولون, إنما هي تحكيم الشريعة, وإرجاع حكم الخلافة. وهكذا وجدت الحركات الإسلامية الوليدة أمامها احتفاء بالغ من الجماهير المتعطشة لاسترداد أمجاد الأمة ووحدتها, ووجدت بالمقابل أيضا عداوة شديدة من النخب السياسية التي انتفعت عظيم الانتفاع بغياب الخلافة, وزوال حكم الشريعة. فبقدر ما كان الانتشار الجماهيري الواسع لفكر هذه الجماعات الإسلامية, بقدر ما وقع عليها من المنع السياسي, والتشويه الإعلامي, والقمع المنهجي في أقبية السجون. وكان فقه غياهب السجون قد فرض علي هذه الحركات التنازل عن الغايات الجوهرية التي قامت الجماعات الإسلامية من أجل تحقيقها, ووضع أهداف مرحلية جديدة, سرعان ما تحولت تحت ضغط الواقع إلي غايات استراتيجية كبري. إن الانقسامات التي وقعت في الجماعات الإسلامية, والتطور الفكري الحاصل في أغلبها من فكرة التعايش ومحاولة انتزاع الاعتراف بها بأي ثمن ممكن, أديا إلي اختلالات خطيرة في الخطاب السياسي لهذه الجماعات, وانحراف جوهري عن المبادئ الأصلية التي قامت عليها, والغايات التي أنشئت من أجلها. ويمكن رصد هذه الاختلالات والانحرافات في محاور ثلاثة: في طبيعة الخطاب, وفي الأهداف, و الوسائل المتبعة. فالخطاب الإسلامي المعاصر, يتلخص في الرغبة المبالغ فيها في إظهار المرونة والاعتدال, وحصد شهادات حسن السيرة من جموع المخالفين, داخل الأمة وخارجها. وقد أثمرت هذه الرغبة خطابا دعويا مائعا, يتنازل عن بدهيات مبدئية لأجل طمأنة الخصوم! وإذا كان المؤسسون والرواد يفهمون أن هذا الخطاب لا يعدو أن يكون داخلا في إطار المرونة الدعوية, ولا يستلزم تأسيس المبادئ والتصورات الاستراتيجية, فإن المشكلة الكبري أن أجيالا متعاقبة تنشأ علي هذا الخطاب, فتأخذه علي أنه من المسلمات الفكرية, وتجعله غاية جهدها, ونهاية سعيها! اما عن الاهداف المراد تحقيقها فرفعت تلك الحركات شعارات الحريات السياسية وحقوق الإنسان- بمعناها الغربي- وهي التي عانت كثيرا بسبب تغييبها في أغلب الدول الإسلامية. إقامة أسس الدولة المدنية, سواء تلك التي تقابل الدولة العسكرية, أو التي تقابل الثيوقراطية, فالحركات الإسلامية صارت ترفع هذا الشعار, وتلعب في أحيان كثيرة علي تلك الاصطلاحات عند عامة الناس. تحقيق التنمية الاقتصادية, والعدالة الاجتماعية, ومحاربة مظاهر الفساد المستشري في كل مفاصل الدول الإسلامية الحديثة وسبب الاعتناء بهذا الهدف واضح, فإن حكام البلاد الإسلامية خلال القرن الماضي, لم يكتفوا بتضييق الحريات, ونسف الحقوق الفردية والجماعية, بل حطموا أيضا كل آمال الرقي الحضاري والازدهار الاقتصادي والاجتماعي. إن هذه الأهداف المرحلية وغيرها كثير قد يمكن إدراجها ضمن الغاية الإسلامية الكبري, كالمقدمات الممهدات لها, وذلك بعد تأويلها تأويلا إسلاميا صرفا ينقيها من شوائب الفلسفات الغربية, ويمحضها في خدمة المبادئ الدينية, والأصول الشرعية. ونتيجه لذلك تسارعت الحركات الاسلامية إلي المشاركة الانتخابية, بأي ثمن, وتحت أية راية, وفي كل حال, وهي التي يؤكد المؤلف أنها لا ينبغي أن تمارس دون قيود ولا ضوابط, ولا يصح أن يطلق لها العنان, حتي تؤول إلي ما يشبه العمل السياسي كما يفهمه ويمارسه الغربيون: حزبية ضيقة, ونفاق سياسي, ودوس للقيم, وتنازل عن المبادئ! يقول المؤلف أنه من الخطل السياسي والفكري أن تغطي المشاركة الانتخابية علي كل الوسائل المشروعة الأخري, بما في ذلك الوسائل السياسية المتفق علي جوازهاوبعبارة أخري: إن المشاركة السياسية, والتفاعل مع الأحداث العظمي في الأمة, لا تستلزم بالضرورة المشاركة الانتخابية البرلمانية, والتركيز الشديد علي التغيير عن طريق صناديق الاقتراع. ومن الأخطاء في باب الوسائل أيضا التركيز علي مجال التوعية السياسية, علي حساب التأطير العلمي. وهذا خطأ قديم, تنبه له بعض قادة الحركات الإسلامية, فقد أنشأ حسن البنا سنة1947, مجلة علمية شهرية, تخلف مجلة المنار التي كان يقوم عليها الشيخ رشيد رضا, ووضع لهذه المجلة أهدافا تعليمية وتثقيفية لتوسيع ثقافة أفراد الجماعة. وعلق الشيخ القرضاوي علي ذلك بقوله:( وأعتقد أن الأستاذ كان صائب الفكرة في ذلك, فقد طغي الجانب التكويني العملي والسلوكي لدي الإخوان علي الجانب العلمي والثقافي. أقصد الثقافة العميقة والمنهجية. وعلي الرغم من وجود هذا الوعي القديم, فإن الحركات الإسلامية عموما انشغلت بالمدافعة السياسية, وأغفلت تأطير أفرادها داخل الجماعة في مجال العلم الشرعي, وتركت هذا الميدان للجهود الفردية الخاصة التي يقوم بها بعض العلماء الأحرار, أو للمعاهد والجامعات التابعة لمؤسسات الدولة. لقد جاء في القرآن الكريم, وفي السنة النبوية الصحيحة, عدد كبير من الأدلة والبراهين علي وجوب تحكيم شريعة رب العالمين, التي أنزلها علي نبيه الأمين محمد صلي الله عليه وسلم. وكانت القضية إلي زمن قريب من البدهيات التي لا يختلف فيها اثنان من المسلمين, إلا أن شياطين الإنس زينوا للمسلمين الفصام بين العبادة الفردية والجماعية, وسوغوا تنحية الشريعة عن الحكم في الأنفس والأموال, وفي الأفراد والجماعات, وفي الاقتصاد والقضاء والسياسة, وقد ساعد علي ذلك جو الهزيمة العسكرية والسياسية للمسلمين أمام دول الغرب الاستعمارية, مما أدي إلي هزيمة فكرية وحضارية, اتبع فيها المغلوب الغالب, بل اجتهد في النسج علي منواله حتي فاقه في التطبيق العملي لنظرياته الكاسدة. إن مفهوم العبادة في الإسلام أعم وأشمل من المفهوم الغربي الذي يحصرها في الطقوس الفردية, التي يتقرب بها الشخص إلي ربه سبحانه. ومن هذا الشمول, ينشأ التلازم الضروري بين الالتزام بالإسلام دينا والدخول في زمرة المسلمين, وبين الرضا بحكم الشرع, والسعي لتحكيم شريعة رب العالمين. إن تحكيم الشريعة ينبغي أن يكون طلبا محوريا, عليه تدور المطالب الأخري جميعها, وإلا صارت هذه الحركات إسلامية في الاسم دون المسمي, وفي الشعار دون المضمون, ولن تكون حينئذ أفضل حالا من التيارات الوطنية أو القومية النزيهة, التي تلتقي معها في كثير من المطالب الجزئية. وبالنسبه لضوابط الممارسة السياسية فإن النفاق السياسي كما يسميه أساتذة الفكر السياسي الغربي ليس ملائما, ولا يمكن أن يكون ملائما للفقه السياسي الإسلامي. فلا يمكن القول بإباحة ممارسته مطلقا, ولو بحثا عن تحقيق مصلحة ما ثم هو فوق كونه مخالفا للشرع مفسد للجو السياسي بأسره, ومحطم لشعبية الحركات التي تمارسه, بل إنه مفسد لدين الأتباع قبل غيرهم! ويشير المؤلف أنه ظهر لكثير من الإسلاميين رجحان المشاركة في اللعبة الديمقراطية لاعتبارات متعلقة بالمصالح المتوقعة من وراء تلك المشاركة, دون يعترفوا بالرفض المبدئي لهذه الفلسفة السياسية.