ظهرمصطلح الإسلام السياسي بصورة معاصرة كرمز للحركات الاسلامية التي رفعت شعارات «الاسلام هو الحل» أو «الحاكمية لله»، وتؤمن تلك الحركات بالإسلام كنظام سياسي للحكم و أن الإسلام «ليس ديانة فقط بل هو نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات دولة. وتعتبر دول مثل إيران والسعودية ونظام طالبان السابق في أفغانستان والسودان، والصومال أمثلة علي هذا المشروع، رغم أنهم يرفضون مصطلح «إسلام سياسي» ويستخدمون بدلا منه مصطلح «الحكم بالشريعة أو الحاكمية الإلهية» ويمكن القول إن الاسلام السياسي انبثق من حركات سلفية اتخذت من الإسلام غطاء أيديولوجيا ، بدأت في شكلها الحديث بمدرسة حسن البنا في مصر والمودودي في باكستان، وقد رفعت شعار الحاكمية لله، للعودة بالشعوب الى مربع الدولة الدينية التي تجاوزها التاريخ الحديث وانتهت بانتهاء الخلفاء الرشدين. ومع صعود أسهم الإسلاميين فى مصر مؤخرا طرح الإسلام السياسى نفسه بقوة ، ليفرض معه سؤالا مباشرا ، هل يمكن تطبيق منظوره فى مصر ، وهل نجحت تجربة الإسلام السياسى فى العصر الحديث فى اى دولة بالعالم حتى نستلهمها فى مصر؟! إن العودة لمربع الدولة الدينية فكرة تجاوزها التاريخ الذي لا يمكن إرجاع عجلته إلي الوراء، إذ يجب التمييز بين السياسة والدين، فالأعمال السياسية أعمال بشر ليسوا مقدسين ولا معصومين، والحكام مختارون من الشعب وليسوا معينين من الله، وقد أثبت التاريخ الحديث فشل تسييس الدين أو أسلمة السياسة نتيجة للأخطاء التى يرتكبها من يحاولون إتمام هذا الدمج ، ومحاولتهم قيادة الشعوب «كقطيع» تحت زعم الحكم بالأمر الإلهى دون ان يكون للشعب أى رأى أو ارادة، بما فى ذلك التجربة التركية التى يعتقد كثيرون انها تجربة اسلام سياسى ناجحة. هكذا أكد الباحث السوداني تاج السر عثمان في دراسته لافتا إلي أن فكرة (الحاكمية لله) أو الحكم باسم الله عرفت أو كمبعوث من الله مع ظهور الحضارات القديمة سواء على المستوى الاسلامى او المسيحى، كما هو الحال فى مصر، فقد كان الفرعون يوهم الشعب بأنه صورة الله في الأرض، وفي اليابان كان الإمبراطور يزعم انه ظل الله في الأرض، وفي أوروبا كان الحاكم المسيحى يعلن انه ظل الله في الأرض وله حق مقدس في الحكم، وأحكامه تصدر تبعا للعناية الإلهية، وفي السودان القديم في حضارات (نبته ومروي) كان الحكم بالحق الإلهي. وحديثا فى التجارب المعاصرة ظهر الإسلام السياسى فى أفغانستان، السودان، إيران ومما يؤسف له، قيام القائمين على تطبيق الاسلام السياسى كمنهج للحكم بتقديم نماذج فاشلة لفكرة الدولة الدينية باسم الإسلام، فقد كان القائمون على تطبيق هذا النظام مثالا لمصادرة حقوق الإنسان ونهب قدرات البلاد الاقتصادية لمصلحة فئات طفيلية قليلة، مع إفقار الغالبية العظمي من الشعب، وتمزيق وحدة البلاد وانتهاج سياسات فتحت الطريق للتدخل الأجنبي وفقدان تلك البلاد لسيادتها الوطنية، وبالتالى باتت فكرة أسلمة السياسة فكرة مكروهة لا تجد القبول إلا على القائمين عليها أو الجماعات المؤمنة بها فقط ، لأن هؤلاء ليسوا الخلفاء الراشدين، فقد انتهى عهد الخلافة الإسلامية الرشيدة، ولا يمكن أن يظهر خليفة جديد للمسلمين يحكم الناس بالعدل والصلاح كما حكم الخلفاء الراشدون المسلمين قبل 14 قرناً من الزمان. ويمكن القول ان الإسلام السياسي تواجد فى ثلاثة نماذج واضحة، تمكنت من الوصول إلى الحكم وخلقت امتدادات جغرافية وتحالفات وأقطابا كان لها وزنها في معادلات الصراع الإقليمي والدولي، أهمها: الإسلام السياسي الوهابي، وانطلقت من أرض الحجاز، وتمثله المملكة العربية السعودية كنموذج للدولة الحديثة، وبلغ امتداد الوهابية إلى أفغانستان لتحفيز المقاومة ضد الاحتلال السوفيتي، وقد لقى النموذج الوهابي دعما من الغرب لمواجهة الأنظمة الشيوعية، وللأسف أفرزت هذه التجربة عدة تناقضات، لانها أدت الى خلق أنظمة استبدادية، وخرج من عباءتها «السلفية الجهادية» على غرار تنظيم القاعدة وكذلك أفرزت حركة طالبان التى حكمت افغانستان، والتى باتت فيما بعد متناقضة ومتنافرة مع موطن نشأتها بل وانقلبت عليها. وعلى الرغم ان الإسلام السياسى الوهابى كان له جاذبيته فى القرن الواحد والعشرين، إلا أنا لأحداث الإرهابية ل 11 سبتمبر 2001 التى شهدتها أمريكا، ونسبت الى تنظيم القاعدة، أدت الى حدوث انقلاب عالمى بل وعربى اسلامى على الإسلام السياسى. النموذج الإيرانى والنموذج الثانى، فيتمثل فى «الايرانى الخميني» وقد ظهر في منتصف السبعينات حيث شكلت المنظومة الخمينية نموذجاً للإسلام السياسي بإحداث الثورة الإسلامية الخمينية، وكان لهذا الثورة مردودها واثرها الكبير في منطقة الخليج خاصة مع مجىء الثورة الاسلامية بطموح كبير، لتمديد تأثير الإسلام الفارسي في العراق، البحرين، الكويت، سوريا، لبنان وفلسطين وبل الى بلدان فى شمال إفريقيا، وبالفعل كان للثورة الاسلامية الايرانية أيادٍ امتدت إلى هذه الدول، وكان يمكن ان يكون لها الذراع الطولى للتأثير والتغلغل، لولا ان اندلاع حرب الخليج الأولى التى تسببت فى توقيف امتداد نفوذ الإسلام السياسي الإيرانى إلى باقى دول الخليج، وقصر امتداده فى حدود دول المحيط الإقليمي لإيران، رغم ذلك جاء الحرس الثورى الايرانى كنقطة ضعف خطيرة فى جسد النهج الاسلامى السياسى الفارسى، فهذا الحرس قسم السلطة فى البلاد، واستحوذ على نسبة هائلة من مقدرات الدولة الامنية والاقتصادية، تحت مسميات حماية الثورة الاسلامية، وتنفيذ اوامر الزعيم الروحى للثورة اية الله الخمينى، وارتكب الحرس الثورى فى إيران أبشع جرائم القمع والمصادرة لحرية الرأى والفكر. ورغم مثالب نموذج الاسلام السياسى فى إيران، ومحاولة اصلاحه بنوع من المعادلة مع ارتفاع اصوات الاصلاحيين، إلا ان الرئيس الحالى أحمدى نجاد لا يجد فى نفسه القوة الكافية لمجابهة أوامر المرشد الأعلى، ولا التصدى للحرس الثورى، فبات الإيرانيون منقسمين على أنفسهم، فريق يدين بالولاء للمرشد الاعلى والثورة الاسلامية لانهم من المنتفعين بها ، وفريق يلعنهم ويحاول الخلاص والتمسك بالإصلاح والخروج الى الديمقراطية المدنية، ولكن القيود تمنعهم وغياهب السجون تنتظرهم، وسياط التعذيب مسلطة على أجسادهم، بجانب العزلة الحضارية التى فرضها ممثلو الخمينية على الشعب، من رقابة اعلامية وفلترة لشبكات الانترنت، والذى ظهر معها مصطلح فريد من نوعه وهو «الإنترنت الحلال». رغم كل هذا جاء حزب الله في لبنان كأقصى تأثير لامتداد الإسلام السياسي الفارسي خارج حدود إيران، وهذا الحزب كان وبالا أيضا على لبنان، فرغم انه نجح في معارك تحرير جزء من لبنان من العدو الإسرائيلى والتف حوله ولا يزال فريق لا بأس به من اللبنانيين، الا انه أصبح يشكل دولة داخل الدولة فى لبنان، ويشكل تهديدا دائما وانقساما للمنظومة السياسية اللبنانية، خاصة فى علاقتها الخارجية، ومع نتائج حرب الخليج الثانية، وتصاعد المشكلات مع ايران بسبب الملف النووي. ومؤخرا وقوف إيران بجانب جلاد الشعب السورى «بشار الأسد» بدأت تجربة الاسلام السياسى فى ايران تتهاوى ، او تجد الرافضين لها اكثر ممن كانوا على قناعة بها . الإسلام السياسى فى تركيا في الستينيات وحتى السبعينيات طرح العسكر الانقلابيون مفهوم الإسلام التركي لمواجهة علمانية كمال اتاتورك ، و ظهرت الأحزاب الإسلامية المستقلة لأول مرة في عام 1970، حيث أسس «نجم الدين أربكان» حزب النظام الوطني ذا الاهداف الاسلامية، ثم حزب السلامة الوطني عام 1972 ، ومن عجائب السياسة التركية أن هذا الحزب دخل في تحالف مع حزب الشعب العلماني الاتاتوركى، ثم دخل في ائتلاف آخر مع الجبهة الوطنية وهي تجمع لعدد من الأحزاب، بيد إنه أغلق بحكم المحكمة، ثم جاء حزب « الرفاه « عام 1983، الذى اكتسح الانتخابات البلدية عامى 1994 و 1995 وحصل على المركز الأول، ووصل رئيسه « نجم الدين أربكان «إلي رئاسة الوزراء، إلا ان هذا الحزب تم إلغاؤه، وظهر حزب الفضيلة في ديسمبر 1998 ولكن تم حظره في 2001 بعد أن أصدرت المحكمة الدستورية العليا في أنقرة حكماً يقضي بإغلاقه وحظر نشاطه لاتهامة بانتهاك الدستور وبمحاولة إنشاء دولة إسلامية في تركيا وتهديد نظامها العلماني الذي أسسه كمال أتاتورك، وفى نفس العام ظهر حزب العدالة والتنمية التركى من قبل نواب انشقوا عن حزب الفضيلة الإسلامي، الذي تم حله قبل شهرين ، وتشكل حزب العدالة والتنمية من جناح المجددين في حزب الفضيلة وعلى رأسهم رجب طيب أردوجان و عبد الله غول، وتم انتخاب أردوجان رئيسا للحزب. ويعتقد كثيرون فى نجاح تجربة الاسلام السياسى فى تركيا ، متجاهلين ان الحزب الاسلامى نفسه «العدالة والتنمية» يعرف بالجناح الإسلامي المعتدل في تركيا، فهو لا يستخدم الشعارات الدينية في خطاباته السياسية، وخرج من الإطار الضيق باعتباره حزبا للإسلاميين إلى فضاء أوسع كحزب لكل من يرغب في خدمة المجتمع التركي بوطنية واخلاص بعيدا عن أي اتجاه و أي فكر، فتجاوز بذلك تجارب الحركات الإسلامية في العالم العربي التي تتحرك بمفردها في مواجهة خصومهم الذين يمثلون وفقا لهم جميع الفصائل الاخرى غير الاسلامية ، ويؤكد العدالة والتنمية التركى انه يحترم الحريات الدينية والفكرية ومنفتح على العالم ويبني سياساته على التسامح والحوار، ويؤكد عدم معارضته للعلمانية (بفهمه الخاص لها) والمبادئ التي قامت عليها الجمهورية التركية، كما يؤيد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ويؤكد أنه سيواصل تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يجري تطبيقه في تركيا تحت إشراف صندوق النقد الدولي مع نقده لبعض جوانبه ، وفى هذا قال مؤسس الحزب رجب أردوجان «إن الحزب ليس محليا بل هو نموذج عالمي سيثبت للعالم أن الإسلام والديمقراطية يلتقيان ولا يتصارعان». وحاولت تركيا منذ صعود العدالة والتنمية إلى الحكم تحقيق استقرار اقتصادي وتنمية بشرية فعالة، وأصبحت نموذجاً مغريا لباقي القوى السياسية الصاعدة في دول الجوار خاصة مع إعلانها عن مواقف قومية متقدمة ، بجانب زيارة أردوجان لمصر مباشرة بعد الإطاحة بنظام مبارك ، ومع ذلك لم يستطع الغرب استيعاب وجود دولة علمانية بهيمنة إسلامية، رغم تأكيد عبد الله جول مستشار الرئيس التركي بقوله: «إن تركيا أصبحت دولة تطير بأجنحة متعددة»، وترى بعض الدول العربية ومنها دول ثورات الربيع ان نموذج الإسلام التركي هو الاكثر جاذبية فى المغرب، تونس، ليبيا، مصر، وقد حاولت الحركة الاسلامية فى مصر استنساخ التجربة التركية، متجاهلة ان حزب العدالة والتنمية التركى لم يصل الى نجاحاته الا بعد ان اعتمد على عدة خطوات ابتعدت به عن كونه حزبا إسلاميا «صرفا»، فهو يستخدم اسلوب برجماتى فى خطابه السياسي «يعنى ان التجربة الواقعية هى الفيصل فى الحكم على النجاح وليس الفكرة او المبدأ فقط»، ويؤكد الحزب أيضا التمسك بالخط العلماني الذي اقره أتاتورك، ويقدم طمأنة للغرب والعسكر في تركيا بعدم وجود أجندة إسلامية خفية، فقد قدم الحزب تنازلات وإسقاطات خطيرة تُخل بالمنهج الإسلامي وفروضه القابلة للتطبيق، وذلك لتخفيف حالة الحنق والخوف التي انتابت الفصائل التركية الأخرى، فقد اعلن صراحة عن احترام العلمانية واعتبارها مرجعية للحكم، وان التقارب مع الغرب أولى من التقارب مع العرب، واحترام المعاهدات والاتفاقيات مع الكيان الصهيوني واعتباره ليس عدواً، واحترام المصالح الأمريكية، كما رشح الحزب150 علمانياً على قوائمه في الانتخابات الأخيرة سعيا لكسب الأصوات فأصبح الوصول إلى السلطة غاية لا وسيلة. ونماذج أخرى كما ظهر الإسلام السياسى فى الجزائر كمشكلة عميقة للحكومة التى فشلت فى تسييس الصوت الإسلامي المتطرف، الذي ساد في التسعينيات وتحويله لمؤسسات أو تحييده ديمقراطياً، حيث استخدمت الدعوة السلفية العنف الجهادي كأداة للحوار السياسي، فكانت المشاركة السياسية السلمية تشكل تحدياً كبيراً للسلفية السياسية والأعضاء السابقين في جبهة الانقاذ وكان سبب رفض الحكومة تسليمهم السلطة البرلمانية فى الانتخابات التى فازوا بها عام 1989 سببا لانتشار العنف والارهاب فى البلاد. وفى أفغانستان تكون نظام إسلامي متعصب حيث استطاعت الوهابية فى الجزيرة العربية وبمساعدة امريكية استطاعت دفع حركة طالبان للوصول إلى الحكم في 1996، وكانت هذه الحركة نفسها سببا فى ضرب أمريكا والغرب لأفغانستان عام 2001 لانهاء هيمنة طالبان على البلاد، رغم ان امريكا هى التى ساهمت فى ايجاد حركة طالبان لمواجهة الاحتلال السوفييتى لأفغانستان، أما الجماعات الاسلامية في باكستان لا تمثل تهديدا على المجتمع الدولى نظرا لتراجع تأثيرها منذ تولى برفيز مشرف على المستوى المحلى واعتمادها على الأسلوب الديمقراطى الغربى في مخاطبتها للمجتمعات الخارجية . وهكذا يثبت الواقع ان الإسلام السياسى لم يثبت أى نجاح فى تجاربه المعاصرة ، لان عهد الخلافة الرشيدة انتهى قبل 14 قرن من الزمان، ولا يمكن ان تقبلها الشعوب المعاصرة بكل ما فيها من تشدد وإصباغ الصفة السياسة على الدين بقوة، وهنا يبرز السؤال: هل يمكن تقتنع الحركات الإسلامية والأحزاب القائمة على أساس المرجعية الدينية الإسلامية بفكرة الدولة المدنية وممارسة السياسة على أساس من احترام المبادئ الديمقراطية، تماما كما هو الحال بالنسبة للأحزاب المسيحية الأوروبية؟ الإجابة لا لان حركات الإسلام السياسي تأخذ غالبا طابعاً عنيفاً كما هو الحال فى الجزائر، فلسطين، السودان ونيجيريا وحركة طالبان في أفغانستان، مما أدى بصورة عملية إلى تشكيل كيان جغرافي وسياسي يمثل نقاط عنف مسلحا مقنعا تحت شعار «الاسلام السياسى» ويتهم خصوم الحركات الإسلامية هذه الحركات بأنها «تحاول بطريقة أو بأخرى الوصول إلى الحكم والاستفراد به، وبناء دولة دينية «ثيوقراطية» وتطبيق رؤيتها للشريعة الإسلامية». وتلقى فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيرها في السياسة عدم قبول من التيارات الليبرالية أو الحركات العلمانية، فهي تريد بناء دول علمانية محايدة دينياً، وأن تكون مسألة اتباع الشريعة الإسلامية أو غيرها من الشرائع شأنا خاصا بكل فرد في المجتمع لا تتدخل فيه الدولة.