أثارت زيارة أردوجان لمصر كثيراً من الاهتمام، وأثار حضوره على الساحتين الإقليمية والدولية كثيراً من الإعجاب، وطُرحت مقارنات كثيرة بين تركيا ومصر، بعضها تصور أنه يمكن استنساخ التجربة التركية، وبعضها الآخر حاول أن يبعدها عن مصر درءاً للشبهات من علمانيتها. والحقيقة أن التجربة التركية هى الأقرب ربما بين بلدان العالم الإسلامى للمقارنة مع مصر، ليس بغرض استنساخها، إنما لفهم جوانب القوة التى يمكن الاستفادة منها فى السياق المصرى. إن هذا البلد الذى زرناه، منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم فى 2002، حوالى 12 مرة وقارنا بين الحركة الإسلامية فى تركيا ومصر (راجع كتابنا «إسلاميين وديمقراطيين» الصادر فى 2004 عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية)، امتلك مقومات تقدمه التى صنعها بيده لا بيد عمرو. والحقيقة أن تحولات التجربة التركية جاءت فى سياق الاستمرارية، وليس على أرضية القطيعة، فالجمهورية ظلت مدنية أكثر من 85 عاما، مما ساعد طرفى المعادلة السياسية - أى المؤسسة العسكرية والتيارات العلمانية الكمالية من جانب (أى المرتبطة بمصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية والنظام العلمانى فى تركيا)، والتنظيمات الإسلامية من جانب آخر - على إحداث توافقات يحكمها الدستور والقانون، وأدت فى النهاية إلى أن يصل الإسلاميون، الذين واجههم مصطفى أتاتورك وحزبه، إلى الحكم، وأصبح هناك قبل نهاية الألفية الثانية تيار إسلامى ديمقراطى بقيادة الراحل نجم الدين أربكان، ومع بداية الألفية الثالثة، وصل إلى الحكم تيار آخر ذو ثقافة إسلامية ويعرف نفسه بأنه تيار محافظ ديمقراطى يتبنى العلمانية بمعنييها الديمقراطى والإنسانى، ويقوده رئيس الوزراء الحالى رجب طيب أردوجان. الرسالة الأولى التى تقدمها الخبرة التركية أن بناء دولة القانون كان أحد أهم أسباب نجاح النظام السياسى التركى صحيح أنه لم يكن ديمقراطيا معظم الوقت إلا أن وجود قاعدة قانونية محددة (أياً كان الرأى فيها وبصرف النظر عن ديمقراطيتها) تحكم العملية السياسية والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، جعل هناك أساساً حقيقياً للتقدم والتحول الديمقراطى. أما الأمر أو الرسالة الثانية فتتمثل فى دمج الإسلاميين من خلال قاعدة قانونية ودستورية ودولة مؤسسات قوية وراسخة ساعدته على الانفتاح والتطور الديمقراطى حتى بنى مع التيارات العلمانية قاعدة ديمقراطية حديثة، وهذا فى الحقيقة ما يحدث عكسه فى مصر الآن، فدستور 71 أسقطه المجلس العسكرى فى إعلان دستورى تحت ضغط تيار واسع من القوى المدنية، مطالبا بربط إسقاط النظام بإسقاط الدستور، وفتح الباب أمام بعض القوى الدينية لمناقشة كل البديهيات المتعلقة بأساس الدولة الوطنية ومبادئ الديمقراطية، فى ظل ضعف مؤسسى هائل فى الأمن والدولة. والحقيقة أن بناء دولة القانون والمؤسسات كان من الأسباب الرئيسية التى سمحت لتركيا بأن تتقدم، خاصة أنها فرضت على الجميع احترامه بصرف النظر عن مدى قناعتهم به، فتعلم الجميع احترام القانون أولا ثم السعى لتغييره بالوسائل الديمقراطية والسلمية ثانيا. ولعل هذا ما جعل بلدا مثل تركيا لا يعرف تزوير الانتخابات حتى فى أحلك فترات الديكتاتورية العسكرية، فالنظام كان يستبعد من الترشح من يرى أنه يمثل تهديداً للنظام الجمهورى، أما من لم يعتبرهم كذلك فكانوا يترشحون فى الانتخابات بديمقراطية ودون أى قيود أو تدخلات، حيث اعتبر النظام التركى انتشار ثقافة التزوير فى الانتخابات سيضر بقيم المجتمع التركى وثقافته، ويحوله إلى مجتمع مزور فى باقى المجالات وليس فقط المجال السياسى. والرسالة الثالثة تتعلق بالتحول فى العلاقة بين الجيش والسياسة، فإذا كان من الوارد مقارنة نشأة الجمهورية المصرية بنظيرتها التركية فى بعض الجوانب، فالجيش فى كلا البلدين قام بتأسيس الجمهورية، وهناك احترام شديد لوطنيته ودوره فى مصر وتركيا، كما أن كلا من جمال عبدالناصر ومصطفى كمال أتاتورك ينظر إليهما باعتبارهما بطلى تحرر وطنى، وكلاهما أسس نظاماً سياسياً دون تعددية حزبية استمر فى كلا البلدين أكثر من عقدين، قبل التحول إلى نظام التعددية المقيدة الذى استمر فى تركيا حتى انقلاب الجيش عام 1980، وبعدها بدأ البلد فى الانتقال نحو الديمقراطية الكاملة، وشهد حكومات متعددة اجتهدت بوسائل مختلفة من أجل دعم أركان الديمقراطية. أى أن مسار النجاح فى تركيا كان هو ابتعاد الجيش عن السياسة، ونجاح الأحزاب والقوى السياسية فى بناء مجتمع مدنى قوى قادر على إدارة خلافاته بشكل ديمقراطى، ويقدم للناس مشروعا حقيقيا للتقدم والنهضة وليس برامج للثرثرة وتصفية الحسابات الشخصية. إن أهم ما قام به رجب طيب أردوجان، هو بناء حزب جديد يختلف فى رؤيته الفكرية والسياسية عن تلك التى قامت عليها كل الأحزاب الإسلامية فى تركيا والعالم العربى، ويؤسس لمرحلة جديدة سعت عمليا إلى أن تكسر ثنائية العلمانية/الإسلام فى تركيا الحديثة، فلم يصنف نفسه من الأساس باعتباره حزباً «إسلامياً ديمقراطياً»، كما فعل أستاذه الراحل أربكان، إنما «محافظ ديمقراطى»، وأعلن تمسكه بالعلمانية، ولكنه طالب بأن تكون علمانية على الطريقة الأوروبية أى تفصل بين الدين والدولة، ولا تتدخل الثانية فى أمور الأول، كما تفعل العلمانية التركية التى قامت فيها الدولة بقهر المؤسسات الدينية. وربط حزب العدالة والتنمية القيم الإسلامية ب«المحلية التركية»، وصار الحديث عن الثقافة والخصوصية التركية مرادفاً ولو ضمنا للحديث عن القيم الإسلامية، دون أن يتبنى تطبيق الشريعة الإسلامية، معتبرا أنه «حين توجد مصلحة الناس يوجد شرع الله». أما الرسالة الرابعة التى قدمتها الخبرة التركية فهى مواجهة نمط سائد من التفكير فى العالم العربى يحمل رؤية أحادية فى قراءة العالم فكريا وسياسيا، فالإسلاميون يظلون دائما تياراً ظلامياً معادياً للديمقراطية، والنظم الحاكمة، خاصة التى يقودها أو يؤثر فيها الجيش غير قابلة للتغيير والإصلاح، وأن أى علاقة بأمريكا تعنى الخنوع والاستسلام، لأن الأخيرة لا تسمح لأى دولة فى العالمين العربى والإسلامى بالتقدم ولعب دور إقليمى. والحقيقة أن تركيا قد نسفت هذه الطريقة فى التفكير، فالإسلاميون فيها تطوروا وأصبحوا ليسوا فقط ديمقراطيين إنما علمانيون ولو بالمعنى السياسى أو الجزئى (عنوان كتاب الراحل الكبير عبدالوهاب المسيرى عن العلمانية الجزئية)، والجيش قبل، بحسه الوطنى، أن يعيد تعريف دوره فى العملية السياسية والنظام الديمقراطى، وتركيا حليفة أمريكا عارضتها واختلفت معها، وهاجمت بقسوة إسرائيل وطردت سفيرها دون أن تمس اليهود (كما «الهطل» الذى يردده البعض فى مصر عن أبناء القردة والخنازير)، ونجحت فى أن تنال ثقة الغرب والشرق وتؤسس ليس فقط لنموذج جديد، إنما أيضا وربما أساسا لنمط جديد من التفكير مازلنا بعيدين عنه. إن ما يجرى فى مصر هو عكس ما جرى فى تركيا، حيث مازلنا نعيش نمطاً أحادياً فى التفكير، ونعتبر قفز الشرفات واقتحام السفارات - حتى لو كانت سفارة إسرائيل - بطولة، فى حين استطاعت تركيا، بقوتها، أن تطرد السفير الإسرائيلى احتجاجا على عدم اعتذار الأخيرة على مقتل مواطنيها فى عرض البحر. ومصر تعرف حالة من الاستقطاب غير الصطحى بين التيارات الإسلامية والمدنية قريب من الوضع التركى فى السبعينيات، وأن أول مهام «أردوجان المصري» هو بناء تحالف سياسى يضم المتدينين والإسلاميين الديمقراطيين من جهة والتيارات المدنية المتصالحة مع الدين من جهة أخرى، وهذا ما فعلة «أردوجان التركى» حين نال تعاطف تيار واسع من القوى العلمانية الديمقراطية غير الرافضة للقيم الإسلامية. المدهش والمحزن فى الوقت نفسه أن السياق الدستورى والقانونى المصرى لم ينص على علمانية الدولة كما فى تركيا، إنما على أن دينها هو الإسلام ، وأن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، وأن أغلب القوى المدنية تؤمن بالمادة الثانية من الدستور، فلا توجد فى مصر علمانية تركية متطرفة، وغير مطلوب نقلها، إنما المطلوب الاستفادة من النجاح النهائى للتجربة التركية فى إدارة الصراع بين أطراف ثلاثة موجودة بصور مختلفة فى مصر، وهى: الجيش والأحزاب المدنية والتيارات الإسلامية، فهناك خريطة نجاح ورسائل مهمة يمكن الاستفادة منها فى مصر دون نقل أو استنساخ. المصدر : جريده المصرى اليوم