بعد خبرة طويلة من النقاش مع الأتراك امتدت لأكثر من عشر سنوات، أصبح المرء قادرا على أن يصنف الانتماء السياسى لأى متحدث تركى حتى لو لم يقل كلمة واحدة عن الشأن الداخلى لبلده. وقد دار بينى وبين أحد أساتذة الاقتصاد الأتراك حوار بدا ساخنا فى بدايته وانتهى وديا فى آخره، حين تحدث الرجل فى مؤتمر «الربيع العربى» عن قوة الدولة التركية مقارنة بالدول العربية، وأن تركيا بدأت الإصلاح فى عشرينيات القرن الماضى على يد أتاتورك، وأنها بذلك سبقت الثورات العربية بأكثر من 90 عاما. والحقيقة أن أى حديث يبدو منه أنه يعطى دروساً للآخرين ويشعرك ولو بقدر محدود من الاستعلاء والتفوق (وليس الكبرياء الوطنى المطلوب) فإنك ستكون أمام أحد ممثلى التيار العلمانى التركى، وإذا تحدث أحد معك بلغة إسلامية تقليدية وعامة تدعو لوحدة العالم الإسلامى فى مواجهه الغرب فستعرف أنك فى حضرة الطبعة التركية من الإخوان المسلمين، أى حزب السعادة الذى أسسه الراحل نجم الدين أربكان، أما إذا كنت ترغب فى أن تعرف كيف يمكن أن تخاطب العالم الديمقراطى وتؤثر فيه وتحافظ على مبادئك الوطنية وقيمك الثقافية دون صريخ أو استعلاء فأنت أمام مؤيد لحزب العدالة والتنمية الذى يحكم زعيمه تركيا لدورة ثالثة. وحين أنهى صديقنا التركى مداخلته كنت قد عرفت أنه ممثل للطبعة الكمالية (نسبة لمصطفى كمال أتاتورك) للعلمانية التركية، وكان تعليقى أنه لا يمكن مقارنة ما جرى فى تركيا فى عهد أتاتورك بالثورات العربية، لأن الأول خاض تغييراً من أعلى فى حين أن الأخيرة خاضت تغييرا من أسفل لم تعرفه تركيا ولا العالم العربى من قبل. واعتبرت أنه يمكن مقارنة تجربة أتاتورك بتجربة عبدالناصر ليس من زاوية العلمانية المتطرفة (لأن الأخيرة كانت علمانيتها جزئية تتعلق فقط بالمجال السياسى)، إنما باعتبارها تجربة تحرر وطنى خاض فيها مؤسس الجمهورية التركية حربا من أجل تحرير تركيا من الاحتلال اليونانى، وأن التجربة التركية ظلت لا تعرف التعددية الحزبية حتى عام 1946 (أى بعد أكثر من 20 عاما على تأسيس الجمهورية) كما أنها شهدت انقلاباً دموياً عام 1960 أطاح بحكومة ماندريس وأعدمه لأنه اعتبر أن من ضمن «أخطائه» أنه سمح للأذان بالعودة مرة أخرى باللغة العربية. انتهت الجلسة بعد سجال بدا ساخنا، وعدنا لنجد أنفسنا متجاورين فى طاولة العشاء وتحدث الرجل معى بود شديد واتفقنا على أنه لا يوجد نموذج قابل للاستنساخ، وأعربت عن أسباب إعجابى بتجربة حزب العدالة التى لم تقنعه، واتفقنا على نجاح الخبرة التركية فى حل ثلاثية ظلت مستعصية على الحل فى العالم العربى وهى: الجيش، والتيارات الإسلامية، والأحزاب المدنية، فتركيا حلت هذا الصراع فى إطار عملية إصلاح متدرج بدأ من أعلى وانتهى من أسفل عبر نضال ديمقراطى متدرج لم يخل من انقطاعات نتيجة انقلابات الجيش. أما فى مصر فإن الإصلاح سيبدأ بعد ثورة شعبية حماها الجيش وأصبح المطلوب استلهام جوانب النجاح فى الخبرة التركية، أى جيش حام لمدنية الدولة والنظام الجمهورى والقواعد الديمقراطية، وليس الجوانب السلبية، أى جيش طرف فى العملية السياسية. [email protected]