ذهبت الي يحيي شاهين في منزله امام كوبري الجلاء وجلست معه قرابة الساعتين, وحين هممت بجمع أوراقي استعدادا للانصراف إذا به يبادرني بقوله: لقد فتح لك قلبي وأشعر بأنك ابني, وهذا شعور رباني لا دخل لنا فيه... هل تمانع في ذلك.. ؟يحيي شاهين... اسم كبير لمع وتألق علي صفحات فننا السينمائي المصري من خلال أدوار مميزة أداها ببراعة عبر الشاشة الفضية مضيفا الكثير لرصيدنا الفني... ولا شك ان قطاعا كبيرا من الجماهير المصرية والعربية قد تلقي اعمال يحيي شاهين المميزة بالمزيد من الاعجاب والتقدير باعتباره واحدا من رموز زمن الفن الجميل. واضافة الي مواهبه المميزة كان يحيي شاهين رحمه الله انسانا مصريا صميما يفيض طيبة ورجولة وكبرياء. ولأن هناك دائما لحظات قدرية فاصلة تمر بحياة المرء لا دخل له فيها لأن عناية السماء هي التي ترسمها وتحددها في لحظات معينة فقد شاءت لي الأقدار لحسن حظي ان اقترب من هذا الفنان الشامخ وأتعايش معه وألازمه ملازمة يومية لأكثر من عشر سنوات حتي رحيله عن الدنيا عام1994 م. وقتها كنت أعمل بمجلة الكواكب التي ظللت اكتب بها وبسائر مجلات مؤسسة دار الهلال صحفيا بدون تعيين لأكثر من12 عاما لأن رئيس المؤسسة يعز عليه ان يمنحنا نعمة الاستقرار مكتفيا بأعمالنا الصحفية المنتظمة نظير جنيهات قليلة يسمونها المكافأة. وقتئذ حصل اديبنا الكبير نجيب محفوظ علي جائزة نوبل في الآداب, وكنا نعد عددا خاصا من الكواكب عن هذا الحدث الكبير فاقترحت علي الاستاذة حسن شاه رئيسة التحرير اجراء حوار مع يحيي شاهين أسبر من خلاله أغوار شخصية السيد احمد عبد الجواد أو سي سيد بطل نجيب محفوظ في ثلاثيته الخالدة بين القصرين قصر الشوق السكرية. ذهبت الي يحيي شاهين في منزله امام كوبري الجلاء وجلست معه قرابة الساعتين, وحين هممت بجمع أوراقي استعدادا للانصراف إذا به يبادرني بقوله: لقد فتح لك قلبي وأشعر بأنك ابني, وهذا شعور رباني لا دخل لنا فيه... هل تمانع في ذلك.. ؟ نظرت إليه مستغربا: مانع... أنت هرم كبير يا استاذ يحيي, والاقتراب منك شرف عظيم. رد علي الفور: اذن اتفقنا.. هذا بيت أبيك.. لابد أن تمر علي وأراك كل يوم... وإذا تخلفت عن الحضور سيكون هناك عقاب ثم نادي علي زوجته.. الحاجة مشيرة قائلا: فلان سيحضر إلي يوميا بلا تليفون أو استئذان.. وإذا ما كنت نائما أيقظوني.. واحتضنني بحنان أبوي كبير. توطدت علاقتي به بالفعل.. كنت أمر عليه يوميا.. نجلس ونتسامر ونخرج هنا وهناك ونحضر لقاءات ومناسبات وقد ادركت ان يحيي شاهين في تلك المرحلة المتقدمة من العمر كان يحتاج الي رفيق أو عكاز يستند اليه... وبحمد الله اديت معه هذا الدور. وبداية لابد ان اعترف بأن يحيي شاهين هو صاحب الفضل في تعييني صحفيا بالأهرام... فقد صعق حين علم مصادفة بأمر عدم تعييني بدار الهلال رغم هذا الكم من الاعمال, واخذني من يدي الي الاستاذ مصطفي امين الذي كان واضحا وصريحا فأخبره انه الآن لايملك من الامر شيئا.. ثم جلسنا مع الاستاذ موسي صبري الذي اشار عليه بمقابلة رئيس دار الهلال فاعترضت علي ذلك لعلمي بالنتيجة مقدما ولان خطواته عزيزة علي جدا وينبغي ان تكون في موضعها, لكنه اصر جاء في اليوم التالي الي دار الهلال وطلبني في مكتب رئيس المؤسسة الذي انتزع منه وعدا بتعييني... لكن ذلك لم يحدث مما اثار حفيظته جدا وروي لي فيما بعد انه التقي به في امريكا حيث اقامت الجالية المصرية اسبوعا لافلامه وسط حفل تكريم كبير, وحين مد يده مسلما علي يحيي شاهين رفض يحيي مصافحته قائلا: لا استطيع مصافحتك لانك لم تحترم كلمتك معي! المهم ان يحيي شاهين كان في غداء خاص مع الرئيس السابق حسني مبارك وقال لي انه دارت كلمتان عنك فلما سألته عنهما رد وهو يبتسم: خليها علي الله. وكان اللقاء في الاهرام مع الاستاذ ابراهيم نافع ليتم تعييني علي الفور صحفيا بالأهرام. خلال مصاحبتي اليومية ليحيي شاهين حدثت امامي العديد من المواقف والأحداث, وألممت بالكثير من ذكرياته وسمات مشواره الفني ولا اخفي ان شعورا بالزهو والفخر تملكني لاقترابي من هذا الفنان المحترم. ذات مساء التقينا بالراحل/ زكي بدر وزير الداخلية الاسبق الذي سلم عليه في احترام واضح قائلا: اسمح لي يا يحيي ان احييك وانحني لك احتراما لأنك فنان محترم وظللت طوال تاريخك صفحة بيضاء. وفي مساء آخر كنا نسير متجاورين بالقرب من كوبري قصر النيل, وقابلتنا سيدة ترتدي ملابس سيدات البلد الانيقات وسط لمعة اسنانها الذهبية ومعها ابنتها الشابة, وكان الضوء خافتا بعض الشئ, وما أن لمحت يحيي حتي ضربت علي صدرها في قوة لفرط الدهشة قائلة: مين سي السيد... تعالي يابت سلمي علي سي السيد احمد عبد الجواد ثم احتضنته وقبلته قائلة: فينك يا سي السيد وفين أيامك... راجل بصحيح... شخطتك يا سي السيد كانت بترعب امينة وولادها. كان هو في قمة الخجل وهو يردد: ألف شكر.. الله يحفظك وعدنا الي منزله وحين جلسنا الي مائدة العشاء هو والحاجة مشيرة والصغيرة داليا وان اذا به يهزني قائلا: قل للحاجة مشيرة... اسمعها ما دار رددت عليه متخابثا: اسمعها ماذا ؟ رد: موقف الست التي قابلتنا رويت للحاجة مشيرة الموقف معلقا ان السيدة انهالت عليه لثما وتقبيلا ضحك هو من اعماقه: شفتي زوجك.. روي لي يحيي شاهين انه في بداياته مع الفن كان في عام1942 يؤدي دورا ثانويا في رواية مسرحية تعرض علي مسرح دار الاوبرا الملكية... وكانت ام كلثوم وقتها قد بدأت تصوير فيلم سلامة الذي يشاركها البطولة فيه النجم حسين صدقي في دور عبد الرحمن القص.. لكن حسين اختلف مع مخرج ومنتج الفيلم توجو مزراحي فترك العمل... فأشارت ام كلثوم علي توجو ان يلعب هذا الدور الشاب الصاعد يحيي شاهين الذي سمعت عنه.. وبالفعل ذهبا اليه في دار الاوبرا الملكية... وحين انتهي العرض المسرحي اسرع اليه سليمان بك نجيب مدير دار الاوبرا قائلا له بلهجته المحببة: ابشر ياعم... لقد فتحت لك ليلة القدر.. تعالي الي مكتبي لتقابل الست ام كلثوم وتوجو مزراحي لتلعب دور البطولة امامها في فيلم سلامة. كاد يحيي يطير من الفرح كما روي لي وزادت فرحته حين وقع العقد علي الفور بمبلغ مائة وخمسين جنيها. واثناء التصوير في ستديو مصر كانت ام كلثوم لماحة وذكية كعادتها فكانت تقربه منها في اوقات البريك وتشركه معها في تناول الغداء الذي يأتي لها خصيصا من بيتها او من احد المحال الشهيرة قاصدة توفير النفقات عنه, وذات يوم اثناء تناول الغداء سألته عن اجره فقال لها: انه مائة وخمسون جنيها فإذا بها تصعق وتعيد ملعقة الارز الي مكانها قائلة: اين توجو..؟ نادوا توجو.. وحضر توجو مزراحي علي عجل فبادرته بسؤالها: كم أعطيت يحيي أجرا ؟ فرد عليها: مائة وخمسون جنيها فسألته: وكم كان أجر حسين صدقي ففهم توجو مقصدها فقال لها: ياست ام كلثوم حسين نجم ويحيي مبتدئ. فقالت: أجبني.. كم كان أجر حسين صدقي؟ فرد: ستمائة جنيه فقالت بحسم: اذن اعط يحيي ستمائة جنيه نفس اجر حسين صدقي... فالدور هو دور البطولة ويحيي سيؤديه.. اذن يأخذ نفس الاجر والا فلن اكمل معك الفيلم وازاء هذا الموقف وهذا الاصرار الشديد من ام كلثوم رضخ توجو لرفع اجر يحيي واعطاه ستمائة جنيه. *** وبالفعل تم تسجيل الحلقات باستديو مؤسسة الاهرام وكنت كعادتي موجودا مغه. أما ليلة رحيله فكانت غريبة ومتفردة بكل المقاييس... عاد عصر الخميس17 مارس1994 من الاسكندرية مع زوجته وابنته... طلبني في الاهرام ليخبرني لأنهم وصلوا حتي أمر عليه... حاولت الاعتذار لأتيح له فرصة الراحة من عناء السفر... لكنه اصر... لم اجد بدا من الذهاب... فجأة استفسر عن مدفنه بمدينة6 اكتوبر طالبا اسراع المقاول في اعمال البناء... طلب من الحاجة مشيرة ان تطلب الاستاذ ابراهيم نافع في مكتبه بالاهرام... رد عليه ودار بينهما حوار ودي طويل قال له في نهايته: ارجوك يا ابراهيم بك... خد بالك من فلان! نظرت اليه مندهشا فأنا لم اطلب شيئا,وحياتي مستقرة بحمد الله... لكنه ضغط علي يدي وابتسم. طلبه احدهم تليفونيا... لم يكن يعرفه لكه تناول السماعة من زوجته وراح في حديث طويل مع الرجل... رددت عليه: خير بالتأكيد.. فسيدنا سليمان نبي الله وهو رمز للحكمة والتعقل وخبرة السنين, وقد منحه الله عزوجل سمات عظيمة بأن كلم الجن والطير والحيوان وجعل الجميع يأتمرون بأمره. وأشرت عليه بالاتصال بمولانا الشيخ الشعراوي ليخبره بفحوي الرؤيا. حاولت الانصراف مرارا لكي اتركه يستريح... لكه كان مصرا بشكل غريب علي بقائي... فكلما نهضت كان يجذبني من ملابسي حتي أعاود الجلوس وهكذا حتي اقتراب منتصف الليل. وحين أصررت علي الانصراف تقدمني الي باب الشقة واحتضنني في قوة وهو يربت علي ظهري..! نزلت درجات السلم وشعور غريب يتملكني لم أدركنهه. *** مساء اليوم التالي الجمعة أذاع التليفزيون نبأ الرحيل... كنت نائما فأيقظوني علي عجل... فزعت وتعثرت خطواتي وانكفأت علي وجهي, وفي عجالة ارتديت ملابسي وهرعت الي منزله وهناك ارتميت علي الطاولة التي طالما التففنا حولها ورحت في نوبة بكاء طويلة لم أعرف لها مثيلا إلا مع فقدي لأمي وأبي والرئيس السادات... أخبرتني الحاجة مشيرة انه طلبني في لحظات الاحتضار... كان اسمي المتواضع هو أخر ما تفوه به لسانه. رحم الله الرجل المحترم يحيي شاهين