في عام2005 وفي هوجة الثورات الملونة في المجال السوفيتي السابق( الورود في جورجيا والبرتقال في أوكرانيا) اندلعت ثورة السوسن في قيرغيزيا وتمت الإطاحة بالرئيس البروفيسور أوسكار أكايف الذي توجه إلي موسكو للعمل بأكاديمية العلوم الروسية بعد14 عاما من حكم قيرغيزيا لم تتدخل روسيا بالقدر المطلوب لإنقاذ أكايف, ولكنها استضافته عندها. أما زعيم ثورة السوسن كورمانبيك باقييف, المتزوج من روسية, فقد أظهر تحالفا مع موسكو أرضي الكرملين آنذاك. وفجأة بدأت حكومة باقييف في اللعب بالنار. فطالبت واشنطن برفع قيمة إيجار قاعدة ماناس الأمريكية بثلاثة أضعاف تقريبا. فشعرت موسكو بارتياح لعل بشكيك تقوم بطرد الأمريكيين. وبدأت وزارة الدفاع الروسية في تحديث قاعدة قانت التابعة لها هناك. واستجابت أمريكا لشروط قيرغيزيا برفع قيمة إيجار ماناس. فبدأت روسيا الضغط بطريقتها إلي أن أعلن الرئيس باقييف أنه سيطرد الأمريكيين. فوعدته روسيا بمليارين كاملين من الدولارات. ولكن روسيا تباطأت في تنفيذ وعودها, فتراجع باقييف وبرلمانه في طرد الأمريكيين. كل تلك المساومات كانت تجري متزامنة مع حالة من تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في قيرغيزيا الغارقة في الفقر والفساد والعلاقات الاجتماعية القبلية التي تطغي علي السياسة تماما. وفي الحقيقة لم يختلف هذا الحكم عن حكم أوسكار أكايف بل سار علي نفس المنحدر في دولة فقيرة أصلا ولا تنتج أي شيء إطلاقا. وكل ما يميزها أنها احدي جمهوريات آسيا الوسطي السوفيتية سابقا القريبة من أفغانستان ووقع عليها اختيار الأمريكيين لنقل أسلحتهم ومعداتهم ومؤونتهم إلي جنودهم في المستنقع الأفغاني بعد أن طردهم الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف من قاعدة جلال أباد الأوزبكية. الرئيس باقييف تعرض خلال5 سنوات إلي محاولات إطاحة, وقامت قائمة المعارضة القيرغيزية ضده أكثر من مرة بسبب الفقر والفساد والقبلية. ولكنه لم يتجاوز الخطوط الحمراء آنذاك, فظل في الحكم لدرجة أنه فاز في انتخابات الرئاسة عام2004 في ظل سخط شديد واحتجاجات ومظاهرات. لكن اللافت للنظر أنه استطاع أن يؤسس لحالة معادية لروسيا علي المستويين الشعبي والحكومي. وسار علي طريق شائك بين موسكووواشنطن يخض لحسابات يصفها البعض بالابتزاز, ويراها البعض الآخر ذكاء سياسيا للحفاظ علي استقرار البلاد, بينما رآها آخرون استقرارا لحكمه هو وقبيلته. في السادس من ابريل الحالي, بعد5 سنوات وعدة أيام من ثورة سوسن باقييف, تمت الإطاحة به في سيناريو شبيه كثيرا بسيناريو الإطاحة بأوسكار أكايف. وعلي الفور صرح رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين بعدم وجود أي علاقة لروسيا بما يحدث في قيرغيزيا. وقال أيضا إن باقييف يقع في نفس الحفرة التي وقع فيها الرئيس القيرغيزي السابق أكايف. بينما نقلت السكرتيرة الصحفية للرئيس الروسي عن اعتقاده بأن الوضع الراهن الذي تشهده قرغيزيا هو شأن داخلي, وأن الشكل الذي اختاره الشعب للاحتجاج يعبر عن استيائه البالغ من تصرفات سلطات بلاده. أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما فقد استنكر أعمال العنف في قيرغيزيا ودعا هذا البلد إلي العودة إلي طريق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وبعد3 أيام من الإطاحة به, صرح باقييف بأن روسيا والولايات المتحدة لم تلعبا أي دور في تغيير السلطة في قيرغيزيا. وهو نفسه الذي أعلن قبلها بيوم واحد أنه لا يستبعد التدخل الخارجي في الاحداث التي تجري في بلاده. ولكنه لم يذكر دولا معينة, واكتفي فقط بالقول انه من المستحيل تنفيذ هذه العملية المنسقة بدون قوي خارجية. من الواضح أن موسكو لم تدعم باقييف, بل وضعت العراقيل أمامه بفرض رسوم جمركية علي البنزين وغيره من المحروقات المصدرة إلي قرغيزيا اعتبارا من1 ابريل. وبدا أن موسكو تحاسب باقييف علي قراره بعدم طرد القوات الأمريكية من قاعدة ماناس. وكانت موسكو قد وعدت في فبراير2009 بتقديم مساعدات اقتصادية قيمتها2,15 مليار دولار إلي بشكيك بينما تعهد الرئيس باقييف في نفس اليوم بإغلاق هذه القاعدة أمام القوات الأمريكية, ولكن لم يغادر الأمريكيون قاعدة ماناس, ومن هنا فإن موسكو أوقفت تقديم المساعدات إلي قرغيزيا بعدما سلمت بشكيك القسط الأول. كما انزعجت موسكو عندما طالبت بشكيك بقيمة إيجار قاعدة قانت الجوية الروسية. علي الجانب الآخر أكدت رئيسة الحكومة المؤقتة روزا أوتونبايفا بأن الحكومة لن تجري مفاوضات مع باقييف, بل ستجري تحقيقا جنائيا بشأنه وأعوانه تمهيدا لإدانتهم في جرائم ارتكبوها. وأبلغت رئيس الحكومة الروسية خلال اتصال هاتفي: إننا نواجه مصاعب مالية واقتصادية نتجت بعضها عن قرار الحكومة الروسية بفرض رسوم جمركية علي البنزين الذي تستورده قيرغيزيا من روسيا.. و وتجاوب بوتين مع متطلباتنا جميعا. وحول مصير القاعدة العسكرية الأمريكية في قيرغيزيا, قالت رئيسة الحكومة المؤقتة إنها لم تر الاتفاقية الخاصة بهذه القاعدة, وأضاف: نريد أن نوقف الاتجار بالسياسة الخارجية, ولن نقول شيئا لهذا فيما نقول شيئا آخر لذاك, ولن نقطع وعودا من دون أن ننفذها. هذا بينما قررت القيادة العسكرية الأمريكية تعليق تسيير رحلات الطيران العسكري من قاعدة ماناس في قيرغيزيا إلي أفغانستان حتي إشعار آخر. وستنطلق الطائرات التي تحمل الامدادات إلي القوات الأمريكية في أفغانستان من مطارات تقع في الأراضي الكويتية بدلا من المطار القيرغيزي. بعد التجربتين الأوكرانية والقيرغيزية مع الثورات الملونة, يمكن ببساطة إدراك أن الثورات الملونة في حد ذاتها لا تختلف كثيرا عن الأنظمة القديمة التي أزيح قادتها بفعل هذه الثورات. وإذا تحدثنا عن مبدأ التغيير عبر هذه الثورات في حد ذاته, فقد نجنح إلي طريق لا يختلف كثيرا عن الطريق السابق. الفكرة في أن الثورات الملونة لم تلب حاجة الشعوب, فثاروا من جديد ضد القيادات الثورية الملونة. وقد نقع جميعا في دائرة مغلقة من الألوان الثورية إذا لم نحدد بالضبط ماذا نريد فعليا من هذه الثورات وما هي الآليات والتصورات الواقعية التي يجب التعامل بها مع الواقعين المحلي والدولي. لأن العيب ليس في الثورات عموما أو الثورات الملونة علي وجه الخصوص, بل في هواة الثورات واللعب بمصائر الشعوب من أجل مكاسب وهمية, أو حقيقية آنية وسريعة تتعلق بالمصالح والأملاك وممارسة الهوايات الثورية.