ما يجري في قير غيزيا مثال حي علي النفعية السياسية وتحالفات المافيا مع السلطة في أكثر أشكالها بدائية في عام2005 هتف القيرغيزيون في ثورة سوسنهم للرئيس الاكاديمي اوسكار اكايف بمات الملك وهتفوا للرئيس الجديد كورمانبيك باكييف بعاش الملك وبعد5 سنوات هتفوا لباكييف بالعكس, فمن جاء بعد الملك المخلوع؟ جاء اعداؤه من مجموعة مصالح اقتصادية ومالية وقبلية أخري لقد كانت مجموعة باكييف السوسنية والمجموعة التي انقلبت عليهامجموعة واحدة لعبت سياسيا وأمنيا وماليا مع بعضها البعض طويلا إلي أن حانت ساعة التقسيم فانقلبت الموازين. والآن, أصبحت قيرغيزيا علي حافة الانقسام بعد مضي أقل من شهر علي الإطاحة بباكييف, وظهرت دعوات جدية لتقسيم البلاد إلي شمال وجنوب من طرف منظمة تطلق علي نفسها الجبهة الشعبية المعارضة للحكومة المؤقتة, وقائد هذه الجبهة, وفقا لتقارير أمنية, هو شقيق الرئيس المخلوع جانيش باكييف الذي كان يشغل منصبا مهما في جهاز المخابرات, ويمتلك موارد كافية لترتيب اموره, الأخطر, ان منظمات دينية, من بينها حزب التحرير الإسلامي تؤيد فكرة تقسيم البلاد املا بالحصول علي رأس جسر لإقامة مايسمي بالخلافة الإسلامية في آسيا الوسطي, وقد تتنامي شعبية هذه الفكرة في جنوب قيرغيزيا, الذي لا يخضع لسيطرة الحكومة المؤقتة, ولا لسيطرة أحد. أما ما يجري في أوكرانيا, وإن ظهر علي العكس, فهو لا يختلف كثيرا عما يجري في قيرغيزيا. الفرق البسيط هو أن اوكرانيا لها أهمية سياسية واقتصادية وجيوساسية هائلة, والحديث يدور هنا عن آليات وتداعيات الثورات الملونة, فثوار البرتقال فيكتور يوشينكو ويوليا تيموشينكو اتفقوا رغم خلافتهم الجوهرية والمبدئية للإطاحة بمجموعة مالية يتزعمها فيكتور يانوكوفيتش( الرئيس الحالي لأوكرانيا) كان الصراع بالدرجة الأولي علي مناطق النفوذ( المالي والاقتصادي) في ساحة أشبه بساحات المافيا الإيطالية وعلي أرضية اختلاف ثوار البرتقال نجح ثوار المناجم والنفط والغاز, المثير ان جميعهم وقفوا امام المحاكم بتهم خطيرة, والأغرب ان هذه القضايا علقت لأسباب ما! والآن, يكاد الملف الأوكراني يغلق باتفاق روسيا وأوكرانيا علي إبقاء قاعدة الأسطول البحري العسكري الروسي في مدينة سيفاستوبول الأوكرانية مقابل تخفيض أسعار الغاز الروسي لأوكرانيا واتفاقات أخري تبرم حاليا, هذه الاتفاقات احبطت خطط حلف الناتو والولاياتالمتحدة, لأن وجود الاسطول الروسي في شبه جزيرة القرم يعرقل تعاون اوكرانيا مع الغرب, وهناك تقارير غربية تشير إلي ان الكرملين قد يستخدم قواته والروس المقيمين هناك لفصل القرم عن أوكرانيا, خلاصة القول, إن يانوكوفيتش سحب البساطة من تحت أقدام الولاياتالمتحدة ونغص حياة حلف الناتو الذي كان يطمح لاستخدام القواعد الموجودة في منطقة البحر الأسود ضد اعداء محتملين في الشرق الأوسط وآسيا الوسطي. وإذا كان مستقبل يوشينكو السياسي قد انتهي عمليا, فأميرة البرتقال تواجه ملفات جنائية جديدة بشأن استخدام حكومتها السابقة290 مليون دولار من المال العام في أغراض غير قانونية كبدت الدولة خسائر تصل إلي12,5 مليار دولار, وهناك أكثر من30 ملفا جنائيا ضد أعضاء حكومتها, علما بأن تيموشينكو حبست في عام2001 علي ذمة التحقيق بشأن اختلاس مبلغ مليار دولار من مخصصات فاتورة الغاز المستورد من روسيا, وهي مطلوبة امام المحاكم الروسية إلي الآن! القيرغيزيون والأوكرانيون حولوا توجهاتهم, اليوم بزاوية180 درجة, بقي فقط ثوار الورد في جورجيا, ويبدو أننا سنتحدث عنهم قريبا, لأن الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف أكد( أنذر وحذر وتوعد) ان التغيرات في قيرغيزيا وأوكرانيا هي بداية لتغيرات أكبر في المجال السوفيتي السابق! ولمن لا يعرف فثوار الورد بقيادة الرئيس الجورجي الحالي ميخائيل سأكاشفيلي هم مفجرو الثورات الملونة في المجال السوفيتي السابق, وهم الأسباب الحقيقية لاستفزاز الدب الروسي بإشعال حرب القوقاز في8 أغسطس2008, وبالتالي هم ايضا الذين ضربوا كل المكاسب الأمريكية والاطلنطيةالتي تم الحصول عليها في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطي منذ انهيار التجربة السوفيتية, بينما نظام الحكم في تبليسي لا يختلف كثيرا عنه في أوكرانيا( البرتقال) وقيرغيزيا( السوسن) وبالتالي تراجعت أهمية جورجيا بالنسبة للولايات المتحدة وحلف الناتو واوروبا, إلي الدرجة العاشرة, لا لأسباب نظام الحكم. وإنما لصفقات أخري( أكثر أهمية ونفوذا وتأثيرا علي المستوي الدولي) عقدتها موسكو مع واشنطن. قد تنطبق مقولة( عاش الملك.. مات الملك) علي تلك النماذج الثلاثة سواء بالنسبة للشعوب او بالنسبة للاعبين الكبار الذين يسعون لتحقيق أكبر قدر من مصالحهم, لكن المغامرة التي قام بها أصحاب الثورات الملونة جلبت علي شعوبهم كوارث تاريخية, ومثال قيرغيزيا وجورجيا واضح للعيان لأن مستقبل وحدة الدولة( جغرافيا وقوميا) سيظل في خطر حتي وإن تأجل تقسيمها وقد ينطبق ذلك بدرجات علي أوكرانيا( الشرق والغرب) وعلي الحقوق التاريخية لروسيا في شبه جزيرة القرم, وقد يكون المنقذ الوحيد لفئران التجارب في النماذج الثلاثة هو القضاء علي الفساد وتفعيل قوانين المواطنة وتحقيق تقدم اقتصادي ينعكس مباشرة علي جميع المواطنين بصرف النظر عن العرق والدين والبعد الجغرافي عن العاصمة, وهذه خطوات اولية فقط لتفادي انقلابات وثورات ملونة أشد قتامة, لأن هواة المعالف في حالة تأهب مستمر للانقضاض, ومع شديد الأسف, لم نجد معادلا موضوعيا وتاريخيا لكلمة( كرموشكا) الروسية إلا( المعلف) وهذا المصطلح شائع في روسيا للارتباطه الدائم بالفساد والمحسوبية في الدوائر الحكومية الرسمية والأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة الأخري من شركات ومصانع وهيئات إعلامية وثقافية. إن الأنظمة التي أطاح بها الثوار الملونون لم تلتزم لا بقواعد اللعبة السياسية والحزبية ولا بمصالح البلاد, والعباد, ولا حتي بالقوانين التي فصلتها علي مقاسها, والثوار اكتفوا بترديد مصطلح التغيير وكأنه شعار مكتف بذاته وليس منظومة عمل بآليات وتراكمات وخبرات معرفية وتاريخية تساوي حجم الفعل, فالكرموشكا في النظام السياسي القديم قوبلت بكرموشكا في النظام السياسي الجديد كل نظام منهما كان يحفل أصلا بالعديد من الكرموشكات الداخلية أو الخلايا النائمة التي أدت إلي انهياره والإطاحة برؤوسه فقط, بينما الكرموشكا كفكرة وطريقة تفكير ونظام حياة قائمة وكائنة في رؤوس الكثيرين, ما يدفع احيانا إلي التشرذم وعدم الاتفاق والالتفاف السياسي والعقائدي وقصر النظر التاريخي, وفي أحيان اخري إلي النفاق السياسي والانتهازية وتحصيل اكبر مكاسب ممكنة علي حساب الناس والوطن.