على نفس النحو الذى اندلعت عليه "ثورة السوسن" فى 2005 خرجت الجماهير الجائعة العارية الغاضبة إلى شوارع كبريات المدن بما فيها العاصمة بيشكيك تطالب برحيل الرئيس وتسريح الحكومة. خرج المعارضون يحملون نفس شعارات الثورة الماضية وضد رموزها ممن غرقوا في مستنقعات الفساد. اعلنوا احتجاجهم ضد تردي الاوضاع الاقتصادية وتدهور الاوضاع المعيشية. استهلت المظاهرات مسيرتها باطلاق سراح المجرمين والخارجين علي القانون علي نفس النحو الذي انتهجه ابطال' ثورة السوسن' التي عاد الغرب واعترف بانها خيبت الكثير من آماله. ولذا كان من الطبيعي ان تتكرر نفس مشاهد النهب والسلب والدمار والخراب التي سبق وغضت الطرف عنها الدوائر الغربية و'ممثلوها' في عدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة ممن سبق ووقفوا وراء تدبير' ثوراتها الملونة'. غير ان البدهية الفلسفية حول' انك لا تستطيع ان تنزل ذات النهر مرتين' حددت الكثير من ملامح المشهد القيرغيزي. فقد كانت موسكو هذه المرة علي مقربة أنما كانت غير بعيدة عن افول نجوم' الثورة البرتقالية' في اوكرانيا وانكسار رموز' ثورة الورود' في جورجيا ممن تقاطروا بعد الهزيمة العسكرية في2008 علي موسكو ينشدون دعمها في مواجهة ساكاشفيلي.تناولت موسكو ما يجري في قيرغيزستان بعبارات تقول بالتأييد وتغض الطرف عما ارتكبه المجرمون من جرائم وسرقات وتركز علي تجاوزات قوات الامن واطلاقها الرصاص علي المتظاهرين. ثمة كثيرون اشاروا الي موسكو بوصفها المستفيد الاول من تغيير السلطة القائمة هناك. وكان تامر سارييف احد قادة المعارضة في زيارة للعاصمة الروسية قبل موعد اندلاع احداث قيرغيزيا بايام قلائل. قالوا انه تشاور مع قياداتها واطلعها علي حقائق الامور في بلاده. وكشف دانيار حسينوف رئيس الحكومة المقالة عن ان سارييف التقي خلال زيارة خاطفة لموسكو بوتين ثعلب السياسة الروسية الذي سبق وقصده ناشدا الدعم والمعونة نينو بورجانادزه الرئيسة السابقة للبرلمان الجورجي ورفاقها من فريق ساكاشفيلي وقبلهم الكثيرون من معارضي' الثورة البرتقالية'. عاد سارييف فتلقفته مخالب السلطة الرسمية لتودعه سجونها وليكون احد اسباب خروج الجماهير التي راحت تطالب بالافراج عنه وعن زملائه وهو ما تيسر لها ليعين لاحقا كاحد نواب رئيسة الحكومة المؤقتة روزا اوتونبايفا. الشرارة الاولي للانتفاضة اشتعلت خارج العاصمة في تالاس شمالي قيرغيزيا. وبنفس سيناريو' ثورة السوسن' في عام2005 راح المعارضون والمتظاهرون في معظم كبريات المدن القيرغيزية يرفعون شعارات ادانة الفساد واقالة كبار القيادات. ولم يمض سوي ساعات معدودات حتي امتد لهيب الغضب الي العاصمة التي سرعان ما سقطت فريسة اللصوص وخريجي السجون ممن راحوا يعيثون فيها فسادا. وهاجمت عصابات المجرمين وبسطاء المواطنين كبريات متاجر المدينة واكشاكها واسواقها وانتشرت الفوضي التي دفعت رئيس الدولة باقييف الي ان يلوذ بالفرار الي موطنه الاصلي جنوبي البلاد بعد ان اصدر اوامره الي وزير داخليته مولود موسي كونجانيتييف بالسفر الي تالاس لاخماد الانتفاضة واعتقال قيادتها. وكانت النتيجة علي النقيض من المراد حيث وقع في قبضة المتظاهرين الذين اوسعوه ضربا كاد يفضي به الي الموت. وجاءوا به عاريا منتفخ الوجه من آثار اللكمات والضربات ليردد امام كاميرات الصحفيين ما يمليه عليه المتظاهرون من اعترافات. وهاهو وزير داخلية الحكومة المؤقتة يطالب المتظاهرين في تالاس بعدم الاجهاز عليه وتسليمه بوصفه شاهدا حيا علي الكثير من الاغتيالات ووقائع الفساد التي ارتكبها الرئيس وافراد' قبيلته'. كشف الكثيرون ما خفي من تجاوزات باقييف ومنها تعديل الدستور ليتواءم مع امكانية ان يخلفه في منصبه ابنه ماكسيم الذي لم يتجاوز عمره الثلاثين عاما والموجود حاليا في الولاياتالمتحدة. فتحوا ملفات الاشقاء ممن سيطروا علي البنوك والجهاز المالي للدولة ومنهم شقيقه الاصغر جانيش الذي كان يشغل منصب جهاز امن الرئاسة. اما موسكو فقد كان لديها ما تطرحه. فلم تكن لتغفر خيانة' أصدقاء الامس'. ألم يكن باقييف هو الذي اعلن من داخل الكرملين قراره حول اغلاق قاعدة' ماناس' الامريكية في قيرغيزيا لقد فعل ذلك وتلقي المقابل معونة مالية قدرها150 مليون دولار وقرضا قيمته2 مليار دولار بشروط ميسرة. بل وبادر بعرض قاعدة ثانية لروسيا في اوش جنوب قيرغيزيا علي مقربة من حدود اوزبكستان وهو ما اثار حفيظة الاخيرة. لكنه ما ان عاد الي بلاده حتي راح يساوم الامريكيين من اجل رفع القيمة الايجارية لقاعدة' ماناس' ليوافق علي بقاء قواتهم هناك تحت اسم مغاير' مركز تشهيلات عسكرية'. بل وراح يناشد الاميركيين مساعدته في انشاء مركز تدريب لمكافحة الارهاب وهو ما كانت موسكو تحاول انشاءه جنوبي قيرغيزيا فضلا عن المباحثات السرية التي كلف ابنه الاصغر ماكسيم باجرائها مع الصين. هكذا استقبلت القيادة القيرغيزية ثقة موسكو وسكوتها علي كل ما ترتع فيه من رفاهية معجونة بالفساد تزكم رائحته الانوف. ولم تكن موسكو لتواصل السكوت تجاه تقويض مواقعها في منطقة آسيا الوسطي ناهيك عن خداع الاصدقاء. ولذا فقد سارعت بالاعتراف بالحكومة الجديدة في قيرغيزيا واتصل رئيس حكومتها فلاديمير بوتين برئيسة هذه الحكومة ليعرب لها عن استعداد موسكو لتقديم كل اشكال الدعم والمساعدات الانسانية الضرورية. وقد اعترفت اوتونبايفا بحاجة بلادها الي الدعم الاقتصادي مشيرة الي تعقد الاوضاع الراهنة في قيرغيزيا فيما وعد بوتين من جانبه بمساعدتها انطلاقا من طابع العلاقات التي طالما كانت متميزة بين البلدين. كما نقلت ناتاليا تيماكوفا المتحدثة الرسمية باسم الرئيس دميتري ميدفيديف عنه قوله' ان الشكل الذي اختاره الشعب للاحتجاج يعبر عن استيائه البالغ من تصرفات سلطات هذا البلد'. وقالت تيماكوفا ان الرئيس يعتبر ان الاهم الان هو تجنب وقوع ضحايا بشرية جديدة. ولذا فقد سارع ميدفيديف باصدار اوامره بارسال وحدتين من قوات المظلات لحماية المنشآت الروسية وتأمين القاعدة العسكرية الروسية في' قانت' القريبة من العاصمة بيشكيك. وفيما كان باقييف يواصل اصراره علي عدم التنحي عن السلطة والتمسك باستعادة مواقعه حتي لو ادي الامر الي استخدام القوة وهو ما اودعه بيانه الذي وزعته وكالات الانباء اعلنت اوتونبايفا سيطرة الحكومة المؤقتة علي معظم اقاليم البلاد. واصدرت مرسوما يقضي بحل البرلمان وانتقال سلطات الرئيس والحكومة السابقة الي الحكومة المؤقتة لمدة ستة اشهر يجري في غضونها اقرار دستور جديد الي جانب تعديل قانون الانتخابات وتنظيم انتخابات رئاسية جديدة تتسق مع المعايير الديموقراطية.