مخطئ من يظن أن الثورة تقوم بين يوم وليلة، كحدث جاء بالمصادفة أو دون مقدمات تشير إليه، ولكن الحقيقة أن ثورة الشعوب كالنار تضطرم تحت الرماد، ولا يعلم أحد على وجه اليقين متى يمكن أن تنطلق شرارة اللهب الأولى لها. يحدث هذا فى كل ثورات العالم، بما فيها الثورة الإسلامية فى إيران، التى اندلعت عام 1979 وحولت إيران من نظام حكم إمبراطورى، إلى جمهورية إسلامية يتزعم رجال الدين الحياة السياسية فيها. لم يكن أحد ممن يطلق عليهم خبراء السياسة فى الشرق الأوسط، يعتقد عند قيام الثورة الإيرانية فى إمكانية استمرارها، كان الجميع يراهن على انهيارها بمن فيهم نظام الشاه نفسه، ولكنها استمرت حتى الآن رغم ما بات يهددها من أصوات المعارضين المنادين بالحرية والديمقراطية داخل إيران. ورغم التأريخ الفعلى للثورة بعام 1979، إلا أن العالمين بشأن الداخل الإيرانى يدركون أن حالة غليان كانت تستعر فى إيران خلال العامين 1977- 1978، حتى إن الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، وضع قضية دعم الحريات فى إيران على قائمة أولوياته. ولم يكن غياب الحريات وحده هو السبب فى اندلاع الثورة، ولكن كان هناك سلسلة من الأخطاء التى ارتكبها نظام الشاه ودفعت بالأمور إلى فوهة الانفجار. كان فى مقدمتها انتهاك الدستور الإيراني، وعدم استغلال موارد البترول بالشكل الأمثل فى القضاء على الفقر والبطالة والدفع بعجلة التنمية الإيرانية. كان الإيرانيون يتذكرون حفل الاحتفال بمرور 2500 عام على إنشاء الإمبراطورية الفارسية فى أكتوبر 1971 والذى قدر فيه الإنفاق بنحو 40 مليون دولار بينما ملايين الإيرانيين يعانون الفقر، بالإضافة إلى سياسة الشاه التى اعتمدت بشكل كبير على الانصياع للغرب وانتشار الفساد، وتركيز الدولة على محاربة المعارضة، التى أساءت الدولة تقدير حجمها وتأثيرها، وطبيعة الحكم المستأثر بكل شىء الرافض لوجود الكفاءات. كل هذا زاد من حالة الاستنفار لدى الإيرانيين، الذين تنامى لديهم الشعور بالظلم، فكان الإيمان العميق بالثورة التى بدأت باتحاد قوى المعارضة مع اختلاف تياراتها لإسقاط حكم الشاه، واكتملت بالانصياع لأفكار رجل الدين صاحب الكاريزما «آية الله الخومينى». كانت الثورة شعبية بكل ما تعنيه الكلمة .. اندلعت فى كل مكان وكانت أقوال وأفكار الخومينى قد انتشرت وأثرت فى التيارات الفكرية الإيرانية بشكل مثل حالة من الصحوة التى عملت على هدم حالة التغريب التى فرضها نظام حكم الشاه. وظهر قادة فكر من أمثال «جلال آل أحمد» و«على شريعتى»، بينما الشاه غير عابئ بتصاعد حدة المعارضة ضده، حتى إنه أقبل عام 1976 على تغيير بداية السنة الإيرانية وهو ما أثار غضب الشارع الإيرانى الذى كان يغلى تحت وطأة حالة التقشف التى أعلنها محمد رضا بهلوى فى ذات العام ونتج عنها تزايد أعداد البطالة وزيادة عدد المهاجرين للمدن من القرى ممن لا يجدون قوت يومهم. على الجانب الآخر كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية تعرب عن قلقها من تراجع الحريات فى إيران وتأثير ذلك على مصالحها فى المنطقة، ورغم محاولات الشاه القيام بعدد من الإجراءات لكبح مدى الغضب الأمريكى وطمأنته عبر الإفراج عن نحو 357 سجيناً سياسياً والسماح للصليب الأحمر بزيارة السجون، إلا أن صوت المعارضة كان الأعلى والثورة فى طريقها لفوهة البركان وبخاصة مع وفاة المفكر الدينى على شريعتي، ومصطفى نجل الإمام الخومينى، التى رجحت الآراء مقتلهما على يد «السافاك»، جهاز الأمن الداخلى فى إيران. وتفاقمت المأساة بعد تشهير الصحف، التابعة للنظام، فى يناير 1978 بالإمام الخومينى، فاندلعت مظاهرات شهدت اشتباكات مع الشرطة وقتل على إثرها نحو 70 شاباً. وفى ذكرى الأربعين الخاصة بهم اندلعت مظاهرات أخرى تكريما للقتلى، تم فيها الهجوم على الفنادق ودور السينما والبنوك وكل ما يمت بصلة لنظام الشاه. وباتت المظاهرات وتكرارها من الأمور المعتادة فى إيران، ولم تفلح جهود الشاه فى احتوائها، لتتزايد خطورة الصورة فى منتصف عام 1978 مع اندلاع مظاهرات عمالية جابت كافة الشوارع وانتهت بإعلان الإضراب الذى بلغ مداه فى نوفمبر من ذات العام. كانت الأزمة تتفاقم فى الوقت الذى تؤكد فيه أمريكا، عبر سفيرها فى طهران، لنظام الشاه تأييدها الكامل له حتى النهاية. ولا أحد يعلم أى نهاية كان يعنيها السفير الأمريكى، فى الوقت الذى كانت تقارير وزارة الخارجية الأمريكية تؤكد ضرورة رحيل الشاه أيا كان من سيخلفه. حتى كان يوم الجمعة 8 سبتمبر 1978 الذى عرف فيما بعد ب«الجمعة الأسود»، الذى أشاعت فيه عناصر الثورة وجود عشرات القتلى من الإيرانيين، لتعم المظاهرات بشكل أعنف وتتزايد حدتها يوماً بعد يوم ولا يأتى شهر أكتوبر من العام ذاته، إلا وأصاب الشلل حركة الاقتصاد الإيرانى. تفاقمت الأمور وبلغت ذروتها فى الأول من ديسمبر، حينما خرج لشوارع طهران ما لا يقل عن 2 مليون إيرانى هتفوا بسقوط الشاه ودعوا لعودة الخومينى. وهو ما تم فى 16 يناير من العام 1979 حينما تم نقل الشاه وأسرته عبر القائد العام لحلف الناتو «روبرت هويسر» الذى سهل عملية الخروج الآمن للشاه وعائلته خارج إيران، فى نفس الوقت الذى سعت فيه الولاياتالمتحدة لإيجاد نظام بديل لحماية مصالحها فى إيران أكبر مصدر للبترول، من خلال دعم حكومة معتدلة برئاسة «شابور بختيار» سرعان ما سقطت مع اجتياح الخومينى وأتباعه وتوليهم مقاليد الأمور هناك فى 12 فبراير عام 1979. وهو اليوم الذى وصفه الكاتب محمد حسنين هيكل فى كتابه «مدافع آية الله» بالقول: «كنت أظن أن الثورة السوفيتية هى آخر ثورة استطاعت فيها الجماهير غير المسلحة أن تواجه جيش السلطة وأن تنتصر عليه، لكن الثورة الإيرانية دحضت هذه الفكرة والرؤية التاريخية والسياسية».